لا شك أن أعوام القدس المحتلة كلّها حافلة، فمدينة كالقدس تتكثف فيها الرمزية الدينية والصّراعات السّياسية، والروايات التّاريخيّة، لا بدّ أن تكون أيامها غير اعتيادية، وأن يكون لكلّ أمرٍ يطرأ فيها شأنٌ وتأثيرٌ. وبهذا ينضم عام 2014 إلى ما سبقه من أعوام لم توفر فيها سلطات الاحتلال جهداً في محاولة النيل من عروبة القدس، ومن صمود أهلها ومقاومتهم.
المسجد الأقصى ومشروع التهويد
كان المسجد الأقصى خلال العام المنصرم محوراً لموجة متجددة ومستمرة منذ سنوات من الاستهداف الإسرائيلي. في هذا العام، استمرت ما تُسمى "جماعات الهيكل" في اقتحاماتها للمسجد الأقصى ومحاولة بعض أفرادها إقامة الشعائر اليهودية فيه، ووصلت إلى شرب الخمر فيه. وقد وصل عدد من اقتحموا المسجد الأقصى من المستوطنين خلال هذا العام، بحسب مديرية الأوقاف الإسلامية، إلى ما يزيد عن 12 ألف مستوطن. وبلغ متوسط الاقتحام اليومي، بحسب مؤسسة الأقصى للوقف والتراث، قرابة 80 مستوطناً وجندياً.
وقد شهد هذا العام تصاعداً في إغلاق المسجد الأقصى بوجه المصلّين الفلسطينيين، وعلى مدار شهر رمضان المبارك، أغلقت أبواب الأقصى في أيام الجُمع أمام الرجال تحت الخمسين عاماً، وطالت سياسة تحديد أعمار المصلين الليلة التي تنتظرها القدس طويلاً، ليلة القدر، التي تحوّلت إلى ليلة ساخنة من المواجهات.
وعقب إطلاق النار على الحاخام اليهودي مهندس اقتحامات الأقصى يهودا غليك، أغلقت سلطات الاحتلال المسجد الأقصى بشكل كامل في الثلاثين من أكتوبر/تشرين الأول 2014، لأول مرة منذ احتلاله عام 1967. وبحسب معطيات مديرية الأوقاف الإسلامية، فإن سياسة تحديد الأعمار أيام الجُمع طالت 19 يوم جمعة على مدار العام.
وقد تميّز العام 2014 بتفاقم الدعم الرسمي الإسرائيلي المباشر لجماعات الهيكل، والذي انعكس بشكل واضح في تصريحات ومواقف أعضاء برلمانيين إسرائيليين، برز منهم نائب رئيس الكنيست موشيه فيجلين الذي كثيراً ما يرأس الجماعات المقتحمة للمسجد، إضافة إلى رئيسة لجنة الداخلية في الكنيست النائبة ميري ريجيف، التي قالت في تصريح لها خلال شهر أغسطس/آب إنه "يجب التأكيد على أن كلّ من يريد الصلاة في جبل الهيكل يستطيع القيام بذلك"، وهي تقصد بطبيعة الحال المستوطنين.
وقد عقدت لجنة الداخلية في الكنيست جلسات كثيرة ومكثفة بهدف مناقشة موضوع المسجد الأقصى وإتاحة "زيارته" لليهود.
وبالعودة إلى العام الماضي، فمنذ شهر مايو/أيار 2014، وحتى سبتمبر/أيلول 2014، عقدت لجنة الداخلية 14 جلسة تتعلق بموضوع المسجد الأقصى، في مقابل 4 جلسات فقط عقدت بهذا الخصوص في السنوات العشر الأخيرة السابقة للعام 2013.
وقد قامت هذه اللجنة خلال العام 2014 لأول مرة بتأسيس لجنة فرعية منبثقة منها للوقوف على موضوع ما أسمته "صعود اليهود إلى جبل الهيكل". وقالت ريجيف حينها إن هدف هذه اللجنة الفرعية التأكد من أن الشّرطة الإسرائيلية تتيح فعلاً دخول اليهود إلى المسجد الأقصى خلال الساعات الثلاث والنصف المتفق عليها.
ولفتت إلى أن من مهام اللجنة النزول إلى الميدان والتواجد في محيط المسجد والتأكّد من أن الشرطة تسمح لمن يريد من اليهود بدخول المسجد، مضيفة: "عندما تقرر الشرطة أمراً يجب أن يحدث، عندما تقول سيدخل اليهود إلى جبل الهيكل يجب أن يدخلوا"، معتبرة أن قيام الشرطة بمنع اقتحامات المستوطنين، بسبب الوجود المكثف للفلسطينيين في الأقصى، فشل ذريع ومعيب في حقّ الشرطة.
وعلى الرغم من انتقادات ريجيف ولجنتها لأداء شرطة الاحتلال فيما يتعلق "بحفظ الأمن" في القدس المحتلة وحول المسجد الأقصى، فإن اللجنة اعتبرت في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2014 أن ضغوطها وعملها المتواصل في هذا الشأن قد أثمر، وجاء ذلك تعقيباً على تصريح قائد شرطة الاحتلال اسحق دانينو الذي قال: "حتى لو تطلّب الأمر جلب قوات أمن كبيرة، سنحافظ على حقوق الصّاعدين إلى جبل الهيكل".
ولكنه في الوقت نفسه، أصرّ على منع أعضاء الكنيست من اقتحام المسجد، منتقداً نشاطاتهم وتصريحاتهم المستفزة لمشاعر الفلسطينيين، حسب تعبيره. وهو الأمر الذي اعتبره المقدسيون "نصراً" لثباتهم ورباطهم حول المسجد الأقصى وتصدّيهم للمستوطنين بدءاً من التكبير في وجوههم ووصولاً إلى تنفيذ العمليات ضدّهم بالسلاح الأبيض أو بالدهس.
"هبّة أبو خضير"
حين تُذكر القدس في العام 2014، لا بد من استذكار جريمة اختطاف وقتل الطفل محمد أبو خضير، وحرقه على يد مجموعة من المستوطنين، وهي الجريمة التي هزت قلوب الفلسطينيين والعرب في منتصف العام وشغلت المقدسيين على وجه الخصوص في مواجهة استمرت لأشهر مع قوات الاحتلال.
وقد يكون من الأدق أن تُسمى المواجهات التي وقعت في القدس مع قوات الاحتلال بالهبّة الشعبية، لا بالانتفاضة الثالثة، وذلك لأنها كانت أساساً مرتبطة بأحداث تصعيدية تساهم في إذكاء المواجهة، ثم ما تلبث أن تخفت ومن ثم تعود إلى التصعيد مرة أخرى بعد وقوع اعتداءات إسرائيلية جديدة.
وقد تميّزت المواجهة الأخيرة بأنها وصلت إلى قرى وأحياء مقدسية لم تشهد مواجهات من قبل مثل شعفاط وبيت حنينا، كما تميّزت بتكثيف نوعيّ لحوادث إلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة والألعاب النّارية على وجه الخصوص، وهو الأمر الذي أدى إلى صدور دعوات إسرائيلية بحظر بيع هذه الألعاب ومنع استيرادها حتى بداية العام المقبل. كما ترافق ذلك مع حملات تحريض إسرائيلية غير مسبوقة واعتداءات متكررة وكثيرة للمستوطنين على الشبان الفلسطينيين، ومن بينهم السائقون في شركة الحافلات الإسرائيلية "إيجد" الذين استقال عدد كبير منهم احتجاجاً على هذه الاعتداءات الممنهجة.
في مقابل ذلك، قامت شرطة الاحتلال باعتقال المئات من الشبان والأطفال الفلسطينيين، وفي إحصائية محلية تقديرية، اعتُقل ما بين شهر يوليو/تموز وشهر ديسمبر/كانون الأول 2014 أكثر من 1700 فلسطيني في القدس، من بينهم أكثر من 600 طفل.
وقد اعتمدت سلطات الاحتلال على مبدأ "القوة" والترهيب، فأصدرت أوامر إبعاد بحق عدد من الشبان الفلسطينيين الناشطين في المدينة، ومنعتهم من دخولها لمدة ستة أشهر، فيما لجأت إلى إصدار أوامر اعتقال إدارية بحق عدد آخر منهم، وهو الأمر الذي يتطلب استصدار موافقة من وزير الامن الداخلي الإسرائيلي. وقد شهد النصف الثاني من العام ارتفاعاً في أعداد المبعدين عن المسجد الأقصى، منهم 7 نساء من المرابطات والمشاركات في مصاطب العلم.
وبعد أن جنّ جنون الإسرائيليين من سخونة المواجهة في القدس، ووصولها مراحل متطورة لا يمكن التنبؤ بها، كعمليات الدهس التي تتم بتخطيط وتنفيذ فردي بحت، تضافرت جهود مختلف أذرع الاحتلال في محاولة لردع المقدسيين وإخماد غضبهم. وقد شملت هذه السياسة تحويل كل من لديه ملف أمني في شرطة الاحتلال، حتى لو كان طفلاً ألقى حجراً، إلى أذرع الاحتلال ذات الطابع المدني، كالبلدية ووزارة الداخلية وسلطة الضرائب، لفحص وجود أي مخالفات بناء أو مشاكل في الإقامة لدى عائلته، ومحاولة تعطيل سير حياتهم اليومية، في رسالة واضحة "أن كل من يهدد أمن إسرائيل سيتم التنغيص عليه في كل شيء".
خطط إسرائيلية متصاعدة لتعزيز السيادة على المدينة
بموازاة قمع الفلسطينيين في القدس والتضييق عليهم، تواصل سلطات الاحتلال مخططاتها وتبذل ميزانياتها الضخمة من أجل ترسيخ طابع إسرائيلي يهودي على المدينة، وجلب المزيد من الزائرين والسّياح إليها، وجعلها مركز جذب واهتمام محلي وعالمي.
وفي هذا السياق، يمكن قراءة تصاعد المشاريع الهادفة إلى تحسين البنية التحتية في القدس المحتلة بجميع أنواعها، وخصوصاً غربي المدينة، حيث يتركز الإسرائيليون. وقد شهد العام 2014 افتتاح مركزين ثقافيين إسرائيليين، ففي شباط افتتح المبنى الضخم المسمى "سينما سيتي" على مقربة من مقر المحكمة العليا الإسرائيلية، وهو حصيلة استثمار أموال شركات إسرائيلية خاصة، ولكنه بني فوق أرض تعود ملكيتها لبلدية الاحتلال ووزارة المالية الإسرائيلية. في هذا المبنى 19 شاشة عرض سينمائية، متحف سينمائي، مسرحان، ومعرض يجسّد 60 قصة من قصص التوراة، إضافة إلى عروض دائمة لفيلم يتحدث عن تاريخ القدس من منظور إسرائيلي يهودي.
المبنى الذي يشمل 8 طوابق والمقام على مساحة 20 ألف متر مربع، يحوي كذلك مركزاً تجارياً من 54 مطعماً ومحلاً ومقهى، وقد بلغ حجم الاستثمارات فيه 250 مليون شيكل (حوالي 64 مليون دولار). وقد قال رئيس بلدية الاحتلال نير بركات في افتتاحه إن "القدس تحولت لعاصمة ثقافية جذابة ونشطة، وافتتاح هذه السينما هو أحد العوامل التي تبشر بعودة عاصمة إسرائيل إلى مركز الحياة".
هذه العاصمة الثقافية التي يطمح إليها رئيس بلدية الاحتلال، شهدت خلال عام 2014 كذلك افتتاح أكبر مركز رياضي في المدينة باسم "بيس آرنا"، وهو مركز رياضي مخصص لفريق كرة السّلة الإسرائيلي، يحوي 11 ألفاً و600 مقعد، يقع على أراضي قرية المالحة المقدسية المهجرة، إلى جوار استاد "تيد كولي" الرياضي، وإلى جانب المجمع التجاري المعروف "كنيون المالحة".
يسعى المركز الذي افتُتح في سبتمبر/أيلول الماضي إلى أن يستضيف الدوريات المهمة محلياً، إضافة إلى استقطابه لمباريات تُجرى على المستوى الأوروبي. كما أنه يحوي مركزاً ثقافياً وترفيهياً، ومناطق تزلج على الثلج. وقد بلغت تكلفة بنائه وتشغيله 400 مليون شيكل (مئة ومليوني دولار أميركي)، ساهمت بلدية الاحتلال بـ33 مليوناً منها. وبما أن هذه المراكز الثقافية والرياضية تُشيّد في غربي القدس، فإن عدداً قليلاً من المؤسسات الفلسطينية والمراقبين يعيرونها اهتماماً في تقاريرهم ونشراتهم، ولكنها لا تنفصل بأي شكل من الأشكال عن السياسات الإسرائيلية وعن الاعتداءات على الفلسطينيين شرق المدينة، بل هي جزء من سعي حثيث لتعزيز مركز القدس كمدينة إسرائيلية قادرة على منافسة تل أبيب وجذب الزائرين والمستوطنين الجدد والسياح.
وليس ببعيد عن هذا المبنى الضخم، افتُتح أخيراً جزء من شارع رقم 50 أو شارع رقم 4، أو في تسمية أخرى "القسم الجنوبي من شارع بيغن السريع" الذي يربط شمال القدس بجنوبها. الشارع عبارة عن أوتوستراد ضخم جداً، يخترق وسط قرية بيت صفافا الفلسطينية جنوبي القدس بثلاثة مسارات في كل اتجاه، وجسور معلّقة ستُحوّل في السنوات القريبة حياة أهل القرية المعروفة بهدوئها إلى ضجيج مستمر، وسيحول نسيجها الاجتماعي المتماسك إلى مجرد أحياء وجيوب معزولة بواسطة شارع سريع ضخم.
إضافة إلى هذا الشارع الاستيطاني الذي يسهل وصول مستوطني جوش عتصيون إلى قلب القدس، تستمر الأعمال في شق طريق القطار السريع الذي سيصل بين تل أبيب والقدس بـ28 دقيقة فقط.
وفي خبر نُشر مطلع الشهر الحالي، قال مركز الإحصاء المركزي الإسرائيلي إن مدينة القدس تشهد أعلى معدلات للبناء من بين البلديات الإسرائيلية خلال عام 2014. وبحسب المركز، فإن روافع البناء باتت جزءاً من المشهد البصري العام لمدينة القدس، نظراً لتصاعد عمليات البناء الإسرائيلي فيها، إذ بدأ في القدس خلال عام 2014 بناء أكثر من 3000 وحدة سكنية جديدة، بينما لم يبدأ في تل أبيب سوى بناء 1559 وحدة.
ويبقى هذا السّرد السريع لواقع القدس خلال العام المنصرم مجرد غيض من فيض مما تتعرض له المدينة من سياسات التهويد والتهجير، وفي أحيان أخرى سياسات الاستيعاب والأسرلة. إلا أن المدينة التي هدأت شوارعها نسبياً في الشهر الأخير من العام، لن تتوقف عن مفاجأة المراقبين، ويصح فيها وصف المقدسيين "مدينتنا تربض على برميل بارود"، أي أنها مهيأة للاشتعال مجدداً في أي وقت، منتظرة الشهيد المقبل.