يبقى سؤال العلاقة القائمة بين الأدب والسينما حاضراً في نقاشاتٍ عديدة. يختفي أحياناً، لكنه يظهر سريعاً إما مع تحقيق فيلمٍ جديد مُقتبس من رواية؛ وإما مع فوز روائيّ بجائزة دولية، تتحوّل رواياتٌ له إلى أفلامٍ.
لكن أحد أبرز التساؤلات المنبثقة منه، تتعلّق بأولوية الاطّلاع: أيهما أفضل، قراءة الرواية قبل مشاهدة الفيلم المُقتبس عنها؛ أو العكس؟ هذا يصعب حسمه، إذْ تبدو القراءة أولاً أفضل، أحياناً؛ بينما تكون المُشاهدة أولاً أحسن، في أحيانٍ أخرى. والأمثلة كثيرة، ككثرة الأفلام واستمرار الاقتباس السينمائيّ من روايات أجنبية. أما السينما العربية، فلا تزال منفصلة عن الرواية، رغم التاريخ المصريّ العريق في هذا المجال، تحديداً. إذْ نادراً ما يُقدِم سينمائيّ على تحويل رواية إلى فيلمٍ، يضع فيه إسقاطاته وتفسيراته وانفعالاته، انطلاقاً من حساسيته الخاصّة إزاء النص الروائيّ، أو بعض شخصياته أو أحداثه.
القراءة السابقة على المُشاهَدة تمنح القارئ إمكانية اختراع صُوَر ولقطاتٍ يرغب فيها، بينما القراءة اللاحقة للمُشاهَدة تأسره في صُوَرٍ مُشاهَدَة وجاهزة، هي نفسها تلك الصُوَر التي يبتكرها السينمائيّ لنفسه عند قراءته رواية ما.
هذا كلّه منبثقٌ، حالياً، من فوز البريطاني (الياباني الأصل) كازو إيشيغورو (1954) بجائزة "نوبل" للآداب، لعام 2017، لكونه كاتب روايتين مقتبستين للشاشة الكبيرة: "بقايا النهار" (1989)، و"لا تسمح لي بالذهاب أبداً" (2005).
في الأولى ـ المُقتبسة عام 1993 بتوقيع المخرج الأميركي جيمس إيفوري (1928)، المتعاون مع أنتوني هوبكنز وإيما ثورمون وجيمس فوكس وكريستوفر ريف وهيو غرانت ـ بحثٌ إنسانيّ ليس فقط في مصائر خدمٍ يجدون أنفسهم وحيدين وتائهين بعد رحيل اللورد الإنكليزي دارلينغتن، بل أيضاً في أحوال بيئة وطبقة واجتماع ونزاعات، تتداخل فيها خصائص الفرد بسمات حيّز جغرافي ـ اجتماعي ـ إنساني، وتطفو على السطح لقطات من حمل ثقيل وقديم، يُشبه إرث التمزّق والانشقاقات.
في الثانية ـ المتحوّلة إلى فيلمٍ بديع للأميركي، أيضاً، مارك رومانك (1959)، يجمع كيرا نايتلي بأندرو غارفيلد وكاري موليغان بشارلوت رامبلينغ ـ نصٌّ مفتوح على تزاوجٍ أدبي وإنساني بين الخيال العلمي والانفعال الذاتي إزاء اكتشافٍ علميّ يُتيح للمرء أن يتجاوز عمره 100 عام. في هذا، يغوص إيشيغورو في أعماق الذات الفردية، التي تُصارع من أجل حياة ممنوع عليها أن تعيشها، بعد اكتشاف التباس عملٍ يتراوح بين جُرمٍ أخلاقي وخدمة علمية، يتمثّل بـ "خطف" أولاد ومراهقين أصحّاء ومُعافين وأيتام، وتربيتهم في مؤسّسة كبيرة، تمهيداً لانتزاع أعضائهم منهم تدريجياً، ومنحها لآخرين، ما يؤدي بالأولاد والمراهقين إلى وفاة باكرة لهم، مع انتزاع القلب منهم في المرحلة الأخيرة.
روايتان جديرتان بقراءة هادئة وعميقة، لسبر أغوار شخصيات وحالات ومعالِم؛ وفيلمان يُتيحان مزيداً من المتع الروحية والحسّية، رغم القسوة الشديدة التي تعتمل في صنيع مارك رومانك تحديداً.