بعد أن أثمرت جهود إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في إحباط تمرير مشروع قرار "إنهاء الاحتلال" في مجلس الأمن الدولي، فإن الجهاز القضائي الأميركي يتجه إلى استكمال المهمة عبر الإقدام على خطوات لردع السلطة الفلسطينية عن رفع قضايا ضد إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية، التي شرعت بالفعل في فحص مبدئي حول ما إذا كانت إسرائيل قد ارتكبت جرائم حرب ضد الإنسانية خلال الحرب الأخيرة على القطاع.
بعد وقت قصير من قيام الممثلين الفلسطينيين بتقديم طلب للانضمام للمحكمة الجنائية الدولية، وافقت المحكمة الفيدرالية في نيويورك على النظر في دعوى قدمها وكلاء عن عائلات إسرائيلية قتل أفرادها في هجمات للمقاومة الفلسطينية أثناء اندلاع انتفاضة الأقصى، وتطالب منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بدفع مليار دولار لأنها قامت بتمويل عمليات نفذتها "كتائب شهداء الأقصى"، الجناح العسكري لحركة "فتح"، خلال انتفاضة الأقصى. وتعتبر الكتائب "تشكيلاً إرهابياً" حسب القانون الأميركي.
المفارقة أن المحكمة الأميركية اعتمدت في قبولها البحث في الدعوى على شهادة أدلى بها العقيد نيك كوفمان، الذي شغل في الماضي منصب رئيس أكبر محكمة عسكرية إسرائيلية، ومقرها سجن "عوفر"، الذي يقع للغرب من مدينة رام الله، علاوة على أنه كان مساعداً للمدعي العسكري العام في تل أبيب. وحسب ما ذكرته صحيفة "جيروزالم بوست" في عددها الصادر يوم الجمعة، فإن كوفمان اقنع رئيس المحكمة الأميركية القاضي جورج دانيلز بأنه بالإمكان الربط بين كل من منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية والعمليات التي نفذتها "كتائب الأقصى" خلال الانتفاضة.
وعلى الرغم من أن فرص تغريم السلطة الفلسطينية بهذا المبلغ الضخم غير واقعية، على اعتبار أنه لا يوجد للسلطة الفلسطينية ولا لمنظمة التحرير ودائع في البنوك الأميركية يمكن اقتطاع المبلغ منها، إلا أن أي قرار سيصدر عن المحكمة الأميركية قد يجبر الإدارة الأميركية على تنفيذ تهديداتها بالتوقف عن دفع المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية، رداً على خطوات السلطة "الأحادية الجانب".
في الوقت ذاته، تراهن إسرائيل على توظيف الجهاز القضائي الأميركي في محاصرة المرافق المصرفية الفلسطينية من خلال ربطها بتمويل أنشطة "عدائية" قامت بها حركات فلسطينية. فقد ذكرت صحيفة "ميكور ريشون" اليمينية في عددها الصادر يوم الخميس الماضي، أن هناك ارتياحاً في إسرائيل بعد "تمكن" عضو في هيئة المحلفين في محكمة أميركية تنظر في قضية ضد البنك العربي، من تقديم "دليل" على أن هذا البنك تجاوز القوانين الأميركية من خلال تمويل أنشطة لـ"حماس" التي تعتبر "حركة إرهابية" حسب القانون الأميركي. وفي هذه الحالة فقد اعتمدت المحكمة أيضاً على شهادات أدلى بها ضباط في جهاز القضاء العسكري الإسرائيلي.
لكن مما لا شك فيه أن أكثر الخطوات جدية التي تراهن إسرائيل على تأثيراتها في ردع الفلسطينيين عن استنفاد الفرص التي يمنحها الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية، تتمثل في مشاريع القوانين التي يعكف أعضاء في مجلسي الشيوخ والنواب في الكونغرس على سنّها لمعاقبة السلطة الفلسطينية على قرارها التوجه للجنائية.
ويتعلق أحد مشاريع القوانين بإلزام الإدارة الأميركية بوقف المساعدات المالية للسلطة، فيما يتعلق آخر بإغلاق الممثلية الفلسطينية في واشنطن. على حسابه على موقع "فايسبوك"، أشاد وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان كثيراً بتوجهات الكونغرس واعتبرها أنها تخدم في الأساس المصلحة الأميركية. اللافت أن مسوغات فرض العقوبات الأميركية على السلطة الفلسطينية، كما تراها إسرائيل، كثيرة. فحسب وزير الاستخبارات يوفال شطاينتس، أكثر الوزراء الإسرائيليين ارتباطاً بالكونغرس، فإن التزام السلطة الفلسطينية باتفاق المصالحة مع حركة "حماس"، ولو نظرياً، يستدعي فرض عقوبات على السلطة الفلسطينية، على اعتبار أن السلطة اختارت التعاون مع "منظمة إرهابية" حسب القانون الأميركي. لكن بسبب طابع الانحياز الأميركي الأعمى لإسرائيل، فإن أحداً في واشنطن لم يسأل لماذا أعاق الجيش الإسرائيلي قضية رفعت ضد بنك "بنك أوف تشاينا"، الذي تعود ملكيته للحكومة الصينية.
وتقوم القضية على اتهام البنك بدعم حركة "حماس" من خلال استخدامه في نقل أموال لتنفيذ عمليات نفذتها "حماس" في الضفة الغربية وأسفرت عن مقتل عدد كبير من اليهود الذين يحملون الجنسيتين الأميركية والإسرائيلية. فقد رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو السماح لقادة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بالإدلاء بإفادات أمام المحكمة لتأكيد ما تضمنته الدعوى، مع العلم أنه من دون هذه الإفادات فإن المحكمة ليس بوسعها الاستمرار في النظر في القضية. رفض نتنياهو جاء خشية من إغضاب بكين، مما قد يؤثر سلباً على العلاقات الثنائية ذات الطابع الاستراتيجي بين البلدين