بعد أعوام قليلة من انطلاقتها، نشرت "المفكرة القانونية" في لبنان، وهي جمعية غير حكومية تهدف إلى "نزع الفواصل بين القانون والمجتمع"، أوّل إصدار سنويّ لها تحت عنوان "أعمال المرصد المدني لاستقلال القضاء وشفافيته: 2014-2015". جمعت المفكرة في كتابها أعمال محررين وحقوقيين كتبوا على مدى عامَين، مقالات متخصصة في المرصد الذي يُعدّ أحد أذرع عمل المفكرة في لبنان.
يشير المدير التنفيذي للمفكرة، المحامي نزار صاغية، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أهمية الإصدار الجديد في "الإضاءة على أهمية استقلالية القضاء في لبنان، وأثر ذلك على تأمين حقوق الفئات الاجتماعية المتنوعة في البلاد". ويأتي ذلك بحسب ما يشرح "من خلال عرض لحالات عملية وثقها المرصد طوال عامين، تتضمن أمثلة على تطور المجتمع وتحصيل حقوق المواطنين من خلال قرارات قضائية مستقلة". إلى ذلك، يبيّن صاغية "فضح عدد من التدخلات السياسية الموثقة في عمل القضاء، الأمر الذي يساهم أيضاً في كسر الحصرية التي تجعل بيئة عمل القضاة والمحامين خارج إطار النقد". ومن المتوقع أن يشكل هذا الكتاب مرجعاً للإعلاميين والحقوقيين.
معارك وتعطيل
في هذا الإصدار، تناولت نرمين السباعي تعطيل إحدى الهيئات المنشأة لحماية المستهلك وهي "لجنة حل النزاعات"، لأسباب إدراية تتعلق بنقص الملاك. يُذكر أنّها محكمة "مفعلة نظرياً فقط" ولا وجود لها على أرض الواقع، وهي الوحيدة المؤهلة لتطبيق الأحكام الحمائية الواردة في قانون حماية المستهلك. وفي وقت يسيطر فيه التعطيل على ملف حماية المستهلك، تطرح المفكرة ثلاثة أسئلة حول طبيعة عمل محكمة المطبوعات التي تنشط بشكل شبه يومي في القضايا المرفوعة ضد الصحافيين، والتي "تشير أحكامها إلى نقص فادح في تخصص أعضائها، الذين يحاولون تكريس مبدأ حماية أصحاب النفوذ".
كذلك دعت المفكرة إلى تحديد المعايير الموضوعية لاختيار أعضائها، قبل التطرق إلى الدور المرجو من المحكمة، لا سيّما في مجال حماية الحقوق والحريات.
المدمن إنسان
في مادة خاصة حول حقوق مدمني المخدرات، أشار كريم نمور إلى أنّ "العلاج في قضايا إدمان المخدرات ما زال معطلاً، وملاحقة الأشخاص المدمنين مستمرة". وقد أحصى المحرّر ألفَي و709 موقوفين بجرم تعاطي المخدرات خلال عام 2014، بينما لم يتجاوز عدد الأشخاص الذين أحيلوا إلى لجنة مكافحة الإدمان 110 أشخاص منذ 2013. يُذكر أنّ قانون المخدرات الصادر عام 1998 ينص على مبدأ "العلاج كبديل عن الملاحقة والعقاب". وهو ما ترجمته وزارة الصحة أخيراً من خلال التعميم على المستشفيات باحترام حق المدمن كمريض يطلب العلاج، وعدم تبليغ قوى الأمن الداخلي عن وصول حالات الجرعة الزائدة إلى المستشفيات.
كذلك، سجّل المحرّر توقيف 90 في المائة من المدمنين خلال التحقيق الأولي، وتجاوز مدة التوقيف الإداري (قبل الإحالة إلى النيابة) الفترة القانونية القصوى 96 ساعة ووصلها في المعدل إلى ستة أيام ونصف اليوم. ويعاني المدمنون القلة الذين يحالون إلى العلاج، من جرّاء فرض تكاليف مالية مقابل الكشف الطبي عليهم في مستشفى ضهر الباشق (شمال بيروت)، على الرغم من أنّ القانون ينص على مجانية هذه الكشوفات. ويساهم عدم تفرّغ أعضاء لجنة مكافحة الإدمان المؤلفة من خمسة أشخاص في تأخر معالجة الملفات المطروحة أمامها.
الدولة لا تخضع للقضاء
سجّل علاء مروة خمسة آلاف و500 حكم قضائي صادر في حق الدولة اللبنانية لم تنفّذ. وهو الرقم الذي كشفه اقتراح قانون قدمه النائب، نقولا فتوش، عام 2011 لـ "تسهيل تنفيذ الأحكام الصادرة بوجه الدولة". ويشكك المحرّر في نوايا النائب الذي كسب دعوى قضائية ضد الدولة تتضمن تقاضيه تعويضات تبلغ 200 مليون دولار أميركي، من دون دفعها فعلياً لفتوش. ويرى المحرر أيضاً أن تطبيق الأحكام التي يصدرها مجلس شورى الدولة يخضع للاستنسابية والكيدية السياسية، باستخدام حجة "عدم المس بأموال الخزينة" على الرغم من تقويض استقلال القضاء تحت هذا العنوان.
المحكمة العسكرية: توسّع سرطاني
تصف المفكرة في رصدها لعمل المحكمة العسكرية الاستثنائية توسّع صلاحيات القاضي والمحامي العسكري بـ "السرطاني"، وذلك بسبب شمول صلاحيات المحكمة العسكرية التي يُحاكم أمامها مدنيون، لقضايا "الإرهاب" وتمويله وإثارة نعرات طائفية. وهي عناوين يصفها التقرير بأنها "مطاطة وقابلة للتوسع". ويرحب المحرر بدعوة وزير العدل المستقيل، أشرف ريفي، إلى إلغاء المحكمة العسكرية، مطالباً بأن يشمل ذلك المحاكم الاستثنائية كافة كالمجلس العدلي.
المهمّشون كثر
في أحد فصوله، يتناول الكتاب قضايا تهميش فئات اجتماعية مختلفة في لبنان، من النساء اللواتي يعانين من العنف الأسري إلى ذوي المفقودين في الحرب الأهلية. وتشير غيدة فرنجية إلى "القرار التاريخي" الذي أصدره مجلس شورى الدولة عام 2014، "ورسّخ فيه حق أسر المفقودين في معرفة مصير ذويهم، وتالياً الاستحصال على نسخة كاملة من مصير التحقيقات التي قامت بها لجنة التحقيق الرسمية للاستقصاء عن مصير هؤلاء في عام 2000".
لكن التسليم الفعلي لنسخ التحقيق لم يحصل إلا بعد ممارسة ذوي المفقودين ضغطاً شعبياً على رئيس الحكومة، تمام سلام، الذي أوعز بتسليم الملفات.
ويشير صاغية، وهو أيضاً وكيل ذوي المفقودين، إلى "اجتزاء المعلومات الواردة في التحقيقات واقتصارها على مراحل التحقيق الأولي من دون التعمق فيها". ويتجاوز التوصيف حالة المطالعة القانونية إلى حدّ الجزم بأن هدف التحقيقات كان "دفن الملف في المقابر الجماعية التي أُعلن عن اكتشافها، وكان هذا الاكتشاف مدعاة لإغلاق الملف بدلاً من التعرف على الرفاة الموجودة والسماح للأهل بدفن الضحايا وفق طقوسهم".
أما في ملفات العنف الأسري، فإشارة إلى سيطرة "التعددية التشريعية على قضايا النزاعات الزوجية وتشتت الملفات في محاكم دينية وجزائية عدة". أمام هذا الواقع، فُتح المجال أمام القضاة للاجتهاد حول حماية المرأة من العنف الأسري، كحالة قاضي الأمور المستعجلة في المتن، رالف كركبي، الذي حكم بمنع زوج من نشر صور حميمية لزوجته بقصد تشويه سمعتها عام 2014. وهو الحكم الأول الذي حمى امرأة من العنف المعنوي، وشكّل بحسب المفكرة القانونية، انتقاداً "جدّ بليغ لقانون الحماية من العنف، وقد أحالته اللجان المشتركة إلى الهيئة العامة للمجلس النيابي عام 2013".
المحاسبة غائبة
تحت عنوان "اعتداءات على الحقوق السياسية"، تناول الكتاب تعرّض مواطنين للمحاكمة بسبب آراء نشروها على مواقع التواصل الاجتماعي، واعتقال جماعي لمتظاهري الحراك المدني، قابله عدم معاقبة عناصر قوى الأمن على استخدام القوة المفرطة.
وسجّلت المفكرة مجموعة انتهاكات لحقوق الموقوفين من "التحقيق معهم وهم معصوبو العيون، ومنعهم من التواصل مع محاميهم، وعدم الإفصاح عن الاحتجاز ومكانه، والتحقيق مع القاصرين في غياب مندوب الأحداث ومن دون إعلام الأهل، وإجبار الموقوفين على الخضوع لفحوصات بول (خاصة بتعاطي المخدرات)، وتفتيش الهواتف من دون إذن قضائي". يأتي ذلك إلى جانب توقيف الأشخاص بشكل عشوائي، وبعد استخدام مفرط لوسائل مكافحة الشغب وحتى إطلاق الرصاص الحي في الهواء.