لا أدري تماماً متى خطرتْ لي الفكرة، أن أبني قلعةً كبيرةً تشبه القلاع التي تخيّلتها وأنا أقرأ قصصي، والتي كنت أُشاهدها أيضاً في برامج الرسوم المتحركة.
كنتُ مولعاً دائماً بالقلاع، أن أمتلك قلعتي الخاصّة وأحكمها كالأمير في الحكايات، أن أكون قادراً على النظر إلى الخارج من أسوارها التي لا يستطيع أحدٌ تسلّقها.
لذلك، توجّهتُ إلى صديقي الأقرب أنس، جاري وشريك مقعد الدراسة، الذي كنتُ دائماً أشاركه أفكاري الخاصّة، مستشعراً ربما لذّة إفشاء السرّ لشخصٍ واحدٍ فقط.
حدّثته في البداية عن متعة امتلاك قلعةٍ لا يُسمَح لأحدٍ غيرنا بدخولها، أن نكون ملكيْن يشتمان من أسوارها أطفال الحيّ، أن نُطلِق عليهم الماء من أسلحتنا البلاستيكيّة إذا اقتربوا، وأن نلعب فيها طويلاً غير آبهيْن بالمدرسة، أو بانتهاء وقت اللعب في المساء.
كان أنس يستمع مندهشاً لوصفي، وتمنّى امتلاك قلعةٍ مثلها، فأخبرته بأنّ علينا بناء واحدةٍ بيدينا، فهتف على الفور:
- منبنيها من الخشب.
سألته:
- من وين رَحْ نجيب خشب يكفّي؟
فأشار إلى قطع الخشب الكثيرة المرتّبة فوق بعضها، التي نبصرها كلّ يومٍ في كراج تصليح السيارات عندما نعود من المدرسة، وأضاف بتحمّسٍ:
- صاحب خالي بشتغل هناك، رح أحكيلو يعطينا إيّاهم بس يجي عنّا.
ربما كان أحد دوافع أنس رغبتُه في أن يمتلك مكاناً يبتعد فيه عن معضلة طلاق والديْه، رغم أنّه أخبرني عن سعادته بأن يقيم في بيتيْن ينال فيهما دلالاً إضافيّاً، وعن ارتياحه لانتهاء مشاجراتهما التي كان يتجسّس عليها من الحمّام.
أن أمتلك قلعتي الخاصّة وأحكمها كالأمير في الحكايات
لكنّ دافعي الأساسيّ كان مختلفاً. كنتُ أمتلك رغبةً في الهروب غير نابعةٍ من أيّ شيءٍ، كانت رغبةً لذاتها، فقد كنت أعيش طفولةً سعيدةً مليئةً بكلّ ما أُريد.
أخبرني أنس أنّ صديق خاله سمح له بأن نأخذ قطع الخشب المرميّة منذ الأزل في تلك الباحة. كيف علّل طلبه الغريب ذلك؟ لم أسأله حينها، كنت سعيداً لأنّي اقتربت بضعة سنتيمتراتٍ من حلمي.
في باص المدرسة، كنّا نجلس في آخره، في المقعديْن المرتفعيْن. أُمْسِكُ قلماً ودفتراً قرب النافذة وأرسم شكل القلعة، أدوّن الأفكار عنها، وأنظر إلى البيوت في الخارج فأسرق تفصيلةً تعجبني من هنا أو هناك. يُضيف أنس إلى أفكاري، يعدّل بعضها، ويُقنعني أن أُسقِطَ بعضها الآخر.
كانت القلعة تكبر كلّ يومٍ مفسحةً المجال لرغباتنا الأُخرى، كبناء ملعب كرة قدمٍ نقلّد فيه مهارات "الكابتن ماجد"، وقيادة مراكب مقاتلةٍ تشبه غريندايزر، وامتلاك بوكيموناتٍ نُطلقها من كراتها الحمراء.
كان أنس يشاركني خيالي، يشرعنه لي، كما في المرّة التي أشرتُ فيها ونحن في الباص إلى حقل صخورٍ يلمع تحت الشمس، قائلاً:
- اتطّلع هناك! هَيْ غوليم متخبّي زي الحرباية في الغابة.
- آه والله! اتطّلع منيح وراه كمان، هَيْ أونيكس.
كانت أحلام يقظتنا توسّع باحة بيت جدّ أنس، المكان الأنسب للبناء. وكان العالمان - الخيال والواقع - صديقيْن مثلنا، وإذا تخاصما أحياناً عندما نواجه معضلةً منطقيّةً، كانت رغبتنا تنجح عادةً في الانتصار للخيال، أو كنّا نؤجّل التفكير في المعضلة واثِقَيْن أنّ الحلّ سيأتي من تلقاء نفسه فيما بعد.
ادّخرنا من مصروفينا كي نشتري الروبوت الذي سيبني الصرح
استنتجنا أنّ الوقت المناسب للبناء هو نهار الجمعة، فلن نستطيع الرؤية في المساء بعد إنهاء الوظائف المدرسيّة، ولا البناء أيضاً في يوم العطلة الآخر الذي يقضيه أنس مع أبيه. كنّا نؤجّل العمل دائماً كي نتأكّد أنّنا استنفدنا كلّ الأفكار، فماذا سيحدث لو خطرت لنا فكرةٌ بعد إنهاء البناء؟ كيف سنضيفها؟
كان الأمر سهلاً للغاية مثل تركيب قطع "الليغو"، ليس علينا سوى تجميع الأجزاء الخشبيّة معاً وضربها بالمسامير. نحتاج فقط إلى يوم جمعةٍ واحدٍ، نبدأ العمل فيه منذ الصباح وننتهي في المساء.
كنتُ قد رأيتُ في واجهة أحد متاجر الألعاب رجلاً آليّاً يمكن التحكّم به عن بعدٍ. كان سعره باهظاً جدّاً، لذا أخذنا ندّخر من مصروفينا كي نشتري "الروبوت" الذي سيساعدنا على تشييد القلعة التي غدت مدينةً خشبيّةً طائرةً في السماء.
كنت أشعر حقّاً بأنّي أسكن القلعة، فكلّما تشاجرت مع والديّ، أو المعلمين، أو الأصدقاء الآخرين، كانت تحيطني بأسوارها وتطير بي تاركةً جسداً أصمّ في مكاني لا يأبه بما حوله. وأحياناً، حين لا أكون قادراً على الخيال، كنت أنتقم منهم قائلاً في سرّي: "بفرجيكم لمّا أبني القلعة". ولا شكّ أنّ القلعة كانت تمدّ يدها إلى أنس كذلك.
***
في مقعديْنا المرتفعيْن في الباص، وأنا أنظر كعادتي من النافذة، ناقلاً الخارجَ إلى الدفتر الذي امتلأ عن آخره تقريباً، أخبرني أنس بلهجةٍ جادّةٍ - بعدما سألته عن كميّة المال الذي ادّخرناه إلى الآن - أنّه سيعيش مع والدته في شقّةٍ مستأجرةٍ، وأنّه سينتقل أيضاً إلى مدرسةٍ أُخرى قريبةٍ من مكان سكنه الجديد، لأنّ خاله سيهدم بيت العائلة، ويقيم مكانه عمارةً كبيرةً تشبه "القلعة"، ستغطّي مساحة الأرض كلّها، ثمّ أضاف عندما أبصر الخيبة التي ارتسمت سريعاً على وجهي:
- بس سنتين هنغيب، ولمّا نرجع هيكونلنا أنا وإمّي شقّة، ويصير عندي غرفة لحالي.
منذ متى كان يعلم بذلك؟ حاولتُ في طريق العودة أن أجد حلّاً معه لهذه المعضلة، لكنّنا لم نكن قادريْن على الاستعانة بالخيال هذه المرّة، فظللنا صامتيْن منذ أنزلنا الباص كعادته في أوّل الشارع، وحتّى مرورنا بالكراج.
هناك، وقفنا مشدوهيْن ونحن نشاهد ألسنة النار وهي تخترق قطع الخشب متّخذةً أشكالاً عديدةً، غير آبهةٍ بمحاولات إطفائها.
أشار أنس فجأةً إلى أعلى هاتفاً:
- اتطلّع!
كان الدخان المتحرّك بفعل ريحٍ عاليةٍ يرسم قلعةً ضخمةً، حالّاً ما سبق أنِ اعتبرناه معضلةً كبيرةً، معضلةَ الجمع بين ثبات القلعة وقدرتها على الطيران.
* كاتب من فلسطين