احتل القناص الذي ربض في إحدى البنايات البعيدة والمواجهة للشارع الذي كنا نسكن فيه، حياتنا اليومية، فقد كان يمنعنا، هو الثابت في شرفته أو في نافذته الصغيرة، من الخروج إلى شرفة منزلنا المطلة على الشارع العام. فكل من حاول الخروج إلى تلك الشرفات إما تعرّض لإطلاق نار أو أصيب برصاصة كانت تنتظره. وقد مات عدد غير قليل من الجيران والأصدقاء والمارة بسبب هذا القناص. وكنا مضطرين لتدعيم جدران الغرف الواقعة في الجهة التي يقبع عليها القناص بأكياس الرمل وأقفلنا الشبابيك بصفوف من حجارة البناء أو بأكياس الرمل. وكنا نضطر حين نريد الانتقال من شارع إلى آخر أن نحاذي المتاريس الرملية التي قطعت أوصال الشارع الرئيسي الذي يمر بالقرب من بيتنا إلى شوارع كثيرة، وكنا نضطر إلى المرور في الزواريب الصغيرة، وفي فجوات فُتحت في جدران البنايات لمرور آمن، حتى باتت حياتنا تدور في الباحات الخلفية للأبنية والأحياء بعد أن تركت واجهاتها لتسلية القناص ورصاصاته وموهبته في التصويب.
ثم إننا كنا، نحن الصغار، نخاف القناص لشدة الرعب الذي كان يلقيه اسمه على مسامع من يتحدثون عنه من أهلنا وأقاربنا. وكان بمثابة ملاك الموت وله هيئته. وتخيلناه في أحيان كالجمجمة والعظمتين التي كان يرسمها المقاتلون على حيطان الحي بالقرب من اسم أبو الرعب أو أبو الجماجم. وكان القناص محفّزًا لمخيلتنا على اختراع الروايات والقصص التي تدور حوله حين كنا نُترك وحدنا، نحن الصغار، في الملجأ منتظرين أهلنا، فكنا نتخيّله مرة ببندقية مهيبة مكان يده، ومرة بعينين كبيرتين يستطيع أن يرى بهما كل ما يتحرك في الشارع.
اقرأ أيضًا: حتف رقيق
وكنا حين نخرج من ملجئنا أو من المنزل في زيارات قصيرة ونادرة لأحد أقاربنا، نقرأ لافتات منتشرة على نواصي بعض الطرق والزواريب تحذر من وجود قناص: "انتبه، قناص". وكنا نسمع في أحاديث الأقارب أن فلانًا سقط ضحية رصاصة قناص، أو أن فلانًا ظلّ يزحف من أول الشارع إلى آخره بعد أن أصابه القناص، ثم ما لبث أن فارق الحياة بعد زحف طويل.
كانت قصص القناصين وقتلاهم تلك، ترعبنا نحن الأطفال الذين وُلدنا في الحرب وكرهناها، وأمضينا وقتًا مديدًا منها بين الملجأ والباحة الخلفية للبناية، حيث تترك الحرب وسخها ورائحتها وأصواتها المنفرة بين جنباتنا وفي دواخل أنفسنا.
ثم كان القناص بطل الرواية الحربية التي نحتفل، نحن الأطفال، بقصها أو بالاستماع اليها. وكنا نتناوش على لعب دور القناص حين تكون لعبتنا "الحرب". وكان أكثرنا بأسًا وأكبرنا سنًا وأعْندنا، يحصل على هذا الدور. وكان القناص أقوى من المسؤول العسكري الشرس والقوي الذي يسير في الحي وعلى خصره مسدسه، ويمشي إلى جانبه حرّاس كثر يحملون ما شاؤوا من السلاح، بغية إلقاء الرعب في نفوس من لم يحسم رضاه في تسلطهم على الحي. وكان القناص أقوى وأبأس من الزعماء السياسيين الذين نشاهدهم في شاشات الأخبار مساء كل يوم؛ فهؤلاء نظيفون، وهو وسخ. وهؤلاء يتكلمون، وهو "يقنص" ويصيب ويقتل. وهؤلاء يخافونه، ولا يخافهم. وهؤلاء يريدون وقف الحرب (كما ظننا)، وهو يريدها مشتعلة دومًا حتى يقتل فيها أكبر عدد ممكن من الأطفال والنساء والمسنين (ضحايا الحرب الأصليين بحسب الإحصائيات).
اقرأ أيضًا: لا بد من زيارة الطبيعة
القناص جبار الحرب الأهلية اللبنانية الذي من أجله رُفعت مئات المتاريس في الشوارع الطويلة والكثيرة.
ثم أتى زمن أراده اللبنانيون زمنًا للسلم والأمان والعيش الهانئ والطمأنينة ونسيان مآسي الحروب، ووقف الثأر وطلب الحياة بقتل الآخر، كان زمنًا جديدًا مقبلًا حاملًا معه ازدهارًا قد يكتمل، ووفاقًا في طريقه إلى التحقق، وسلامًا ليس ثابتًا وجامدًا ولكنه في سبيله إلى النمو. وفي هذا الزمن غابت التعابير الحربية وغارت في ضجيج الحياة الجديدة الصاخبة، ألقاب المقاتلين، أسماء الأسلحة وأنواعها، أنواع المحاربين ووظائفهم، السجالات الحربية، الشعارات السياسية الفارغة والرنانة، الأحزاب وشعاراتها وغنائيتها وجنون أفرادها... كل هذه التعابير الحربية كانت قيد الاختفاء، في مطالع هذا القرن، ومعها القناص.
عاد القناص إلى منزله، وربما وجد وظيفة وأنجب أولادًا أو حُمل إلى مستشفى للأمراض النفسية أو لمداواته من الإدمان على المخدرات، ربما هاجر إلى بلد ما. المهم أنه اختفى في النهاية... كبالون ضخم غادره الهواء دفعة واحدة.
الآن يعود القناص، يعود من نوافذ كثيرة إلى حياتنا. قناص يحمل بندقية بمنظار، أو يتباهى بلسان سليط... استمع إلى نشرات الأخبار وستراه بكل تأكيد. قناص بكل أناقته يقف أمام الكاميرا ولا يغادر عدستها.
اقرأ أيضًا: حتف رقيق
وكنا حين نخرج من ملجئنا أو من المنزل في زيارات قصيرة ونادرة لأحد أقاربنا، نقرأ لافتات منتشرة على نواصي بعض الطرق والزواريب تحذر من وجود قناص: "انتبه، قناص". وكنا نسمع في أحاديث الأقارب أن فلانًا سقط ضحية رصاصة قناص، أو أن فلانًا ظلّ يزحف من أول الشارع إلى آخره بعد أن أصابه القناص، ثم ما لبث أن فارق الحياة بعد زحف طويل.
كانت قصص القناصين وقتلاهم تلك، ترعبنا نحن الأطفال الذين وُلدنا في الحرب وكرهناها، وأمضينا وقتًا مديدًا منها بين الملجأ والباحة الخلفية للبناية، حيث تترك الحرب وسخها ورائحتها وأصواتها المنفرة بين جنباتنا وفي دواخل أنفسنا.
ثم كان القناص بطل الرواية الحربية التي نحتفل، نحن الأطفال، بقصها أو بالاستماع اليها. وكنا نتناوش على لعب دور القناص حين تكون لعبتنا "الحرب". وكان أكثرنا بأسًا وأكبرنا سنًا وأعْندنا، يحصل على هذا الدور. وكان القناص أقوى من المسؤول العسكري الشرس والقوي الذي يسير في الحي وعلى خصره مسدسه، ويمشي إلى جانبه حرّاس كثر يحملون ما شاؤوا من السلاح، بغية إلقاء الرعب في نفوس من لم يحسم رضاه في تسلطهم على الحي. وكان القناص أقوى وأبأس من الزعماء السياسيين الذين نشاهدهم في شاشات الأخبار مساء كل يوم؛ فهؤلاء نظيفون، وهو وسخ. وهؤلاء يتكلمون، وهو "يقنص" ويصيب ويقتل. وهؤلاء يخافونه، ولا يخافهم. وهؤلاء يريدون وقف الحرب (كما ظننا)، وهو يريدها مشتعلة دومًا حتى يقتل فيها أكبر عدد ممكن من الأطفال والنساء والمسنين (ضحايا الحرب الأصليين بحسب الإحصائيات).
اقرأ أيضًا: لا بد من زيارة الطبيعة
القناص جبار الحرب الأهلية اللبنانية الذي من أجله رُفعت مئات المتاريس في الشوارع الطويلة والكثيرة.
ثم أتى زمن أراده اللبنانيون زمنًا للسلم والأمان والعيش الهانئ والطمأنينة ونسيان مآسي الحروب، ووقف الثأر وطلب الحياة بقتل الآخر، كان زمنًا جديدًا مقبلًا حاملًا معه ازدهارًا قد يكتمل، ووفاقًا في طريقه إلى التحقق، وسلامًا ليس ثابتًا وجامدًا ولكنه في سبيله إلى النمو. وفي هذا الزمن غابت التعابير الحربية وغارت في ضجيج الحياة الجديدة الصاخبة، ألقاب المقاتلين، أسماء الأسلحة وأنواعها، أنواع المحاربين ووظائفهم، السجالات الحربية، الشعارات السياسية الفارغة والرنانة، الأحزاب وشعاراتها وغنائيتها وجنون أفرادها... كل هذه التعابير الحربية كانت قيد الاختفاء، في مطالع هذا القرن، ومعها القناص.
عاد القناص إلى منزله، وربما وجد وظيفة وأنجب أولادًا أو حُمل إلى مستشفى للأمراض النفسية أو لمداواته من الإدمان على المخدرات، ربما هاجر إلى بلد ما. المهم أنه اختفى في النهاية... كبالون ضخم غادره الهواء دفعة واحدة.
الآن يعود القناص، يعود من نوافذ كثيرة إلى حياتنا. قناص يحمل بندقية بمنظار، أو يتباهى بلسان سليط... استمع إلى نشرات الأخبار وستراه بكل تأكيد. قناص بكل أناقته يقف أمام الكاميرا ولا يغادر عدستها.