أمس، حلت الذكرى الخمسين لمعركة الكرامة في 21 مارس/ آذار 1968، التي مثّلت أول هزيمة عسكرية مكتملة الأركان للجيش الإسرائيلي، ومرغت بالوحل أسطورته كجيش لا يقهر. قبل خمسين عاماً، وبعدها، لا تزال الكرامة إحدى أكبر المعجزات العسكرية الحديثة بمخالفتها قواعد النصر والهزيمة المتعارف عليها بالعلوم العسكرية، مع تسطير العسكري الذي كان ما يزال يتجرّع مرارة هزيمة يونيو/ حزيران 1967، ويعاني نقصاً في العدد والعتاد، نصراً على نشوة العدو المدجج بكل أسلحة الأرض.
قد تشكّل الكرامة لغزاً للباحثين المنحازين للتفسير العملي للأشياء والأحداث، فيما هي للمؤمنين بالإنسان المؤمن بأرضه، وعدالة القضية التي يحارب من أجلها، لا تتعدّى حدثاً يمكن تكراره كلما توافرت الظروف الموضوعية التي أنتجته، من دون أن يعني ذلك التقليل من قيمة النصر الذي ما يزال مصدراً للفخر. كان النصر حليف شعار "كل البنادق ضد إسرائيل"، الذي اختاره قائد المعركة مشهور حديثة الجازي، وتحت هذا الشعار التحم الجندي والفدائي مع المزارع، دفاعاً عن الوطن، قبل اشتداد الخلاف على جني ثمار النصر، الشعار الذي لم تتمكن الأمة المهزومة للآن من استعادته.
حملت المعركة اسم البلدة التي شهدت أعنف الاشتباكات، لكنها تجاوزت حدود المكان إلى مدلولات الاسم، لتكون رمزاً للشرف والعزّة والقيمة واحترام الذات، في مواجهة كل محاولات تشويه مشاعر الأردنيين وضرب كرامتهم الوطنية عبر اتفاقية السلام ومنتجاتها.
بعد خمسين عاماً على الكرامة التي وضعت حداً لأطماع العدو بالسيطرة ولو على سنتيمتر واحد من الأرض الأردنية، انتزعت من أجل تدعيم اقتصاده مساحات واسعة من الأرض الأردنية لأغراض مدّ أنبوب "الغاز الإسرائيلي"، تحت مبررات المصلحة الأردنية. وبعد خمسين عاماً تتلكأ الحكومة في العمل على فرض السيادة الوطنية على الأراضي التي مكّن السلام لإسرائيل حق الانتفاع بخيراتها، وبعد خمسين عاماً تستقر العلاقة مع إسرائيل في وجدان النظام أحد المقومات الرئيسية للاستقرار والقوة والمنعة. تقزّم السياسة الرسمية الكرامة، إذ تواصل التعامل معها حدثاً تاريخياً منزوع الأثر في حاضر البلاد ومستقبلها، في وقت يتعمّق فيه الإيمان الشعبي بأن الكرامة معركة مستمرة لهزيمة كل أشكال الظلم والاحتلال والتبعية.