دعا الإعلام المصري في مرات عدة الى تدخل مصر عسكرياً في دول الجوار، في ليبيا وفي قطاع غزة، وفي إثيوبيا لحل مشكلة سد النهضة.
إلا أن الحوار الأخير لوزير الدفاع المصري السابق، والمرشح الرئاسي، عبدالفتاح السيسي، تجاه الجزائر، أثار العديد من المخاوف.
فالرسالة التي حملها تصريح السيسي، بقدرته على اجتياح الجزائر في ثلاثة أيام، كانت موجهة الى ليبيا، وكما يقول العرب "الكلام لك واسمعي يا جارة "، حملت رسالة سلبية الى ليبيا التي جعلتها حسب تصريحات مسؤوليها تدرس إمكانية حفر خندق وإقامة ساتر ترابي على الحدود المصرية الليبية.
المرة الوحيدة التي استخدمت فيها مصر، قواتها العسكرية منذ تاريخ طويل ضد دولة جوار، كانت مع ليبيا في عهد الرئيس الأسبق، أنور السادات، ولم يتجاوز الأمر ساعات عدة، وعادت القوات الى الأراضي المصرية، من دون أن تضرب أهدافاً ليبية، أو تأسر جنوداً أو مواطنين ليبيين، أو تحتل أراضي ليبية. وكانت هذه رسالة من السادات الى الديكتاتور، معمر القذافي، بأن مصر قادرة على حماية حدودها.
ولكن أن تستغل القوة في حل خلاف سياسي بين مصر وليبيا أو قطاع غزة، فهذا هو الجديد، ولا بد أن نعي أن استخدام القوة في المنطقة لم يعد قراراً فردياً، ولكنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بهذا العبث الإقليمي والدولي الذي مكن لنفسه في المنطقة منذ عام 1990.
وعليه فالإقدام على استخدام القوة في قضية سد النهضة في أثيوبيا، أو في الخلاف السياسي مع ليبيا أو قطاع غزة له حسابات أخرى لا بد من أخذها في الحسبان.
ثمة قراءة ساذجة تدفع الى استخدام مصر القوة تجاه ليبيا للاستفادة من النفط في أراضيها، وكذلك تأمين حصة مصر من المياه في إثيوبيا، وإنهاء سيطرة حركة حماس على الحكم في قطاع غزة، من أجل منع تهريب السلع الغذائية والنفط عبر الأنفاق.
إن الدراسات التي تمت في إطار التكامل الاقتصادي العربي، كانت تركز دائماً على إمكانية تحقيق حالة نجاح في إطار المثلث الذهبي بين مصر والسودان وليبيا، بما تملكه الدول الثلاث من تواصل جغرافي وسهولة في النقل، وتوافر الإمكانات المادية والطبيعية والبشرية.
وتؤكد هذه الدراسات بأن هذه التجربة لها آثارها الاستراتيجية التي بإمكانها أن تحقق الاكتفاء الذاتي للدول الثلاث في مجالات متعددة، وتضمن أمنها القومي في هذه المجالات.
ولكن للأسف مضت عقود عدة من دون أن يدخل هذا المشروع دائرة التنفيذ، وبقي حبراً على ورق في أروقة مؤتمرات العمل العربي المشترك. وحتى إن لم تنجح هذه الدول الثلاث في تحقيق مشروعها التكاملي، فلا أقل أن تظل علاقاتها الاقتصادية الحالية في إطارها الضعيف، ولا تصل إلى محاولة إضرار كل طرف بالآخر، وضياع ما بقي من أواصر اقتصادية تعود على تلك الدول بالنفع المتبادل.
لم تكن هذه السطور مجرد خواطر لدى الكاتب، ولكن تصريحات وزير الخارجية السوداني علي كرتي، في الكويت مؤخراً تدلل على العبث في ملفات مهمة من قبل دوائر مصرية، فقد طالب الوزير السوداني الإعلام المصري وبعض الجهات الأخرى بوقف "المنهج التهريجي" في ملف سد النهضة.
وإن كانت الخارجية المصرية قد ردت على تصريحات الوزير السوداني، بأنها تتعامل مع ملف سد النهضة بمنتهى الجدية، وأن لديها دراسات لمخاطر هذا السد.
بلا شك، فالقضايا العالقة بين مصر وبعض دول الجوار، أو مع اثيوبيا، لها دلالاتها السياسية، وتحتاج الى معالجات مختلفة، في إطار دبلوماسي وسياسي بعيداً عن الدعوة الى استخدام القوة، وعلى مصر أن تستفيد من المارد الصيني الذي يثبت أقدامه لابتلاع إفريقيا.
فقد أُعلن يوم أمس، عن توقيع عقد بين الصين ودول إفريقية لإقامة شبكة سكك حديدية تصل تكلفتها 5 مليار دولار، تربط بين دول شرق إفريقيا. وهو ما دعا حكام هذه الدول الإفريقية الى الثناء على التوجه الصيني، واعتباره شريكاً، على خلاف نظرتهم الى أوروبا وأمريكا، التى يكسوها طابع الاستغلال والوصاية.
وفي إطار هذه الأجواء غير المريحة لعلاقة مصر بكل من ليبيا وقطاع غزة وإثيوبيا، وما اعترى علاقات مصر مؤخراً مع الجزائر، فإننا نرصد الخسائر الاقتصادية التي تحيق بمصر نتيجة هذا التوجه، الذي يتبناه بعض الإعلاميين والمسؤولين المصريين.
- هشاشة الوضع الاقتصادي في مصر
بلا شك أن قرار استخدام القوة من أية دولة تجاه دولة أخرى، له كلفته الاقتصادية، ومصر لا تملك ترف استخدام القوة في حل قضاياها السياسية في الظروف الحالية، فلديها معضلات اقتصادية واجتماعية، تجعلها تعيد النظر مرات ومرات قبل الدخول في معترك استخدام القوة.
فقد أصبحت مصر تعتمد بشكل واضح على الدعم والمساعدات لتسيير أوضاعها الاقتصادية غير المرضي عنها من المجتمع المصري، في ظل معدلات تضخم تصل الى نحو 16 %، وبطالة بمعدل 13.5 %، وفقر بين السكان وصل الى نسبة 26% من السكان، ومعدلات للنمو الاقتصادي لا تتجاوز 2.3% في أحسن التقديرات، وحصولها على دعم خليجي على مدار الشهور العشرة الماضية، قدر بما يزيد عن 20 مليار دولار، حسب تصريحات المرشح الرئاسي، عبدالفتاح السيسي.
فكيف بدولة تعاني هذه المشكلات الاقتصادية، وتعتمد على هذا الحجم من الدعم والمساعدات أن تدخل غمار اتخاذ قرار استخدام القوة في حل قضايا سياسية مع آخرين؟
- المتنفس الليبي
لا شك أن العلاقات الاقتصادية بين ليبيا ومصر على مدار الثلاث سنوات الماضية، تعكس مصالح متبادلة للطرفين، ففي الوقت الذي تحتاج فيه ليبيا مدّها بالعديد من السلع الأساسية، لقرب المساحة والحدود البرية بين البلدين، فمصر تحتاج لهذه العلاقة التي انتشلت كثيراً من مصانعها من حالة الركود بعد ثورة 25 يناير، فضلاً عن العمالة المصرية الموجودة في ليبيا، سواء كانت هذه العمالة موجودة بشكل شرعي أو غير شرعي.
إلا أن الملاحظ أن السلطات الليبية بدأت تتحسب في أوضاع العمالة المصرية، وخاصة بعد التصريحات الإعلامية الداعية الى استخدام القوة تجاهها. فضلاً عن تراجع المعاملات التجارية بين البلدين بسبب ما اعترى حركة التجارة من غياب الأمن، والاعتداء المتكرر على العمالة المصرية بليبيا.
إن ملف إعمار ليبيا يمثل أهمية اقتصادية كبيرة لمصر، ولا بد أن يكون لها منه نصيب وافر، وتوتر العلاقات بين البلدين، أو استمرار الخطاب التحريضي باستخدام القوة، من شأنه أن يحول دون حصول مصر على حصتها في ملف الإعمار.
ويقدر بعض العمالة المصرية بليبيا حالياً بحوالي 300 ألف، في حين كان حجم هذه العمالة قبل الثورة الليبية يقدر بنحو مليوني عامل، وظلت السوق الليبية على مدار عقود محط رغبة العمالة المصرية، على الرغم من الاختلافات السياسية المتعددة التي مرت بها العلاقة بين البلدين.
- إثيوبيا والمصير المشترك
لم تعد إفريقيا تلك القارة المهملة، ولكن ثمة صحوة اقتصادية تعيشها الدول الإفريقية، وبخاصة بعد أن أولتها الدول الصاعدة كثيراً من الاهتمام، للحصول على المواد الأولية، وإقامة شراكات اقتصادية، غيرت من الأوضاع الاقتصادية في الدول الإفريقية.
وإثيوبيا وبقية دول المنبع لنهر النيل، تشهد هذا التزاحم من العديد من القوى الدولية والإقليمية، فلم تعد إثيوبيا وحدها المعنية بمسألة إقدام مصر على استخدام القوة في إنهاء ملف سد النهضة، فسيكون لشركائها الاقتصاديين مواقف تحول دون استخدام القوة لحل مشكلة السد.
لقد أدى غياب مصر على مدار عقود عن دول حوض النيل، إلى تهميش دورها الإقليمي، وضياع مصالحها الاقتصادية هناك، وعلى مصر أن تستعيد هذا الدور من خلال الأدوات الناعمة، والتي من أهمها التعاون الاقتصادي، وليس استخدام القوة.
- غزة واقتصاديات سيناء
أُهملت سيناء اقتصادياً وتنموياً منذ تحريرها بشكل كامل من يد الكيان الصهيوني في عام 1982، مما أدى إلى شيوع تجارة المخدرات وزراعتها، وكذلك تجارة السلاح، إلا أن أوضاع الحصار الاقتصادي التي عاشها قطاع غزة منذ يناير/كانون الثاني 2006، أدت إلى وجود نشاط اقتصادي كبير لعدد لا بأس به من أبناء سيناء، عبر التجارة مع قطاع غزة من خلال ما عرف بالأنفاق.
وفي حالة التفكير في استخدام القوة تجاه قطاع غزة، والاستمرار في سياسة تدمير الأنفاق، فمعنى ذلك أن تكون تجارة المخدرات والأنشطة الاقتصادية المحظورة الملجأ لعدد لا بأس به من أبناء سيناء، على الأقل في الأجل القصير. وفي أحسن الأحوال انتشار البطالة بمعدلات كبيرة بين أبناء سيناء، وما يستدعيه ذلك من مشكلات اقتصادية واجتماعية.
هذا بافتراض أن الحكومة المصرية جادة في إعمار سيناء، بما يسمح باستيعاب أبنائها في مشروعات اقتصادية وتنموية تسمح لهم بتوفير فرص عمل، ومشروعات توفر لهم احتياجاتهم الضرورية، ومقومات معيشة كريمة.
لقد تعقدت الأمور في المنطقة، بالشكل الذي يجعل من الصعوبة بمكان، أن يتخيل أن الصراع بين بلدين قاصر على مصالحهما المباشرة، بل إن هناك متغيرات كثيرة، تجعل مصر تعيد ترتيب ملفاتها، وأن تخلق مصالح مشتركة مع دول الجوار، بما يعظم من دورها الإقليمي، وليس تقليصه بالتفكير في استخدام القوة لحل مشكلاتها السياسية مع شركاء الجوار، أو شركاء آخرين.