كل من في مخيم الوحدات للاجئين الفلسطينيين (وسط العاصمة عمّان) يعرف أم رزق، والتي لم يعد يفصلها عن المائة عام سوى أعوام قليلة، لكن اللاجئة التي حفرت السنين في ملامحها قصص للمعاناة لا تعرف أبناء جيل النكبة الجدد.
تسأل ضيوفها محاولة التعرف عليهم "مين جدك؟"، فإذا كان الجد من قريتها التي هجرت منها كفر عانة، أو من القرى المجاورة، حتماً ستعرفه، فهي كما تقول "ما بانسى ولا واحد كان في البلد. كلهم ماتوا بس ما بنساهم".
العجوز التي سقطت قريتها كفر عانة، شرقي يافا، في عام النكبة، ترسم لزوارها بالكلمات صورة للقرية التي لم تشاهدها منذ اللجوء، البيوت بأسماء أصحابها، البساتين، الأرض بمساحاتها وملاكها، بابور الماء، مسجد القرية، مدرستها، جيرانها من اليهود، وتعتقد "لو رجعت للقرية بعرفها حجر حجر. لو شو ما عملوا فيها بعرفها".
عن يوم الخروج من القرية، تروي "طلعنا وتخبينا في البساتين على طرف البلد. قلنا يوم وبنرجع ومر يوم وكمان يوم وما رجعنا"، وتشير إلى أنها ألحت على زوجها بالعودة إلى القرية بعد أسبوع من الاختباء، وبعد أن علمت أن عدداً من أهل القرية عادوا إليها. "لكن أبو رزق حتم أنه ما نرجع وقال: "يعني بدك إيانا نرجع يا رسمية عشان بكرا يخذوا بناتنا؟ والله ما نرجع"، ولأنه رفض العودة غادرت معه يحملان أطفالهما الأربعة إلى "أريحا" التي عاشوا فيها حتى نكسة 1967، والتي غادرتها مع زوجها برفقة تسعة من الأبناء إلى الأردن، واستقر بهم الحال في مخيم الوحدات.
يوثق عقد زواجها الذي لا تزال تحتفظ به، والصادر عن حكومة فلسطين، أنها ولدت عام 1917، وتوثق أوراق تحصيل الضريبة المفروضة على الأراضي التي بحوزتها، أنها وزوجها كانا من الملاك، وهي الأراضي التي حاول اليهود قبل النكبة شراءها منهما، تتذكر تلك المحاولات. "أجاني واحد بعيد منك يهودي ولا أجنبي، مش عربي، قلتله بابيع أولادي ولا بابيع أرضي، قال: أف، قلت له: معلوم، أرض جدودي أبيعك إياها، واللي بيضل بيروح لابني ابن ابني من هون ليموتوا ولا شي ماشي".
وتذكر أن زوجها أبو رزق كان سيضرب من حاول شراء أرضهم، فمنعته حتى "ما يعربشنا (يتسبب بمشكلة لنا) مع اليهود".
وتميز العجوز بين اليهود الذين عاشت معهم، واليهود الذين جاءوا إلى فلسطين، "اليهود تاعين زمان كنا نعرفهم ونبيعهم ونشتري منهم، وكانوا يحكوا عربي زينا. بس اليهود الجدد تيوس ما بيفهموا كحشونا (طردونا) من البلاد".
ما رفض الزوجان التنازل عنه بإغراء المال، أجبروا على تركه بالقوة، لكنها تصر "هذا حقنا وما بيموت حق وراه مطالب".
اقرأ أيضاً: والدة اللاجئ رامي العاشق في "قبضة البحر" لتلقاه بألمانيا
تتذكر "أم رزق" حادثة مثيرة وقعت في قريتها، ووفقاً لتقديراتها فإنها وقعت في نهاية الثلاثينيات "طلع علينا المختار وقال أجانا ضيوف وكل دار تجيب طبخة، والله احنا صرنا نذبح من هالجاج ونطبخ، كانوا كثار الضيوف بطلع أكثر من ثلاثين زلمة، وكان معهم بواريد (بنادق) وعلى بوزها من قدام سكين"، تواصل "عملنا الأكل وقبل ما يكملوا هجموا اليهود بسيارتهم وانهزموا (هربوا) الضيوف واللي تخبا في الكروم واللي في بركة الميه، وظل واحد منهم اسمه حسن سلامة، قعد شوي بعدين لبس لباس عربي وطلع".
"عشت كتير. كل اللي كانوا بعمري في البلد ماتوا"، لكن أكثر ما يحزنها موت زوجها قبل ست سنوات، عندما أمسكت بمسبحته المزينة بالعملات الفلسطينية التي جلبوها معهم بكت بحرقة، وأنشدت أهازيج حزينة على فراقه.
تمتلك "أم رزق" متحفاً للنكبة، إضافة إلى عقد زواجها ووصولات الضرائب التي تثبت ملكية أرضها، والعملات الفلسطينية، تحتفظ بأثوابها القديمة، والأواني التي كانت تستلم فيها المؤنة التي كانت توزعها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وكان لديها مفتاح منزلها في قرية كفرعانة، لكن أحد زوارها الكثر استعاره قبل سنتين ليصوره، ولم يعده، وهي لا تتذكر الشخص الذي استعاره، لكنها تختصر حكاية مفتاح منزلها بالقول "إذا راح الجمل لا تتحسّر عالرسن".