اللاجئون الفلسطينيون.. بحثٌ مستمرّ عن دول لجوء جديدة
أول الرحيل
مع حصول النكبة عام 1948، لجأ الفلسطينيون إلى الدول المجاورة، وبالدرجة الأولى إلى الأردن، نظراً لاحتفاظ الجيش الأردني بالضفة الغربية، وقربه من وسط فلسطين، حيث غالبية السكان، وبالدرجة الثانية، إلى قطاع غزة، الذي تمكّن الجيش المصري من الاحتفاظ به، والبقية، وخصوصاً سكان الجليل الأعلى، لجأوا إلى لبنان وسورية، وقبِل فلسطينيون قليلون اللجوء إلى العراق، مع عودة القوات العراقية التي حاربت في فلسطين إلى هناك. وتعترف معظم المصادر العربية بأن اللاجئين الفلسطينيين شكلوا ثروة ومكسباً للدول المجاورة، سواء بسبب ما حملوه معهم من رؤوس أموال، أو ما كانوا عليه من تعلُّم وثقافة، أو ما كان لدى معظمهم من خبرات ومهارات مهنية وصناعية وزراعية، وغيرها، وقد ساهموا في البناء والتطوير في الدول التي ذهبوا إليها، على أمل أن يعودوا بسرعة إلى فلسطين.
ومع طول فترة اللجوء واللاعودة، بدأ الفلسطينيون بتوطين النفس على لجوء طويل الأمد، وما يفرضه من ضرورات للبناء والتعلّم وتأمين مصادر العيش وضرورة الهجرة إلى دول عربية مجاورة، بحثاً عن عملٍ ودخل أفضل. فكان السفر بقصد العمل إلى دول الخليج، وكان السفر، مثلا آخر، إلى ليبيا مع أوائل السبعينات.
وعلى الرغم من غنى العراق نفطياً، لم يتوجه الفلسطينيون للعمل إليه، ولا العرب الآخرين من الدول الفقيرة، بسبب اضطرابات أوضاع العراق الأمنية والإثنية والطائفية، وبسبب سياسات العراق وتأثيراتها السلبية في أحيانٍ كثيرة على منظمة التحرير، والفلسطينيين عموماً.
موجات متتابعة
مع بدء الحضور والفاعلية العسكرية والسياسية الفلسطينية، منذ عام 1970، وتناميها تباعاً في دول الجوار عسكرياً، وفي الساحة العربية سياسياً، بدأت أوضاع اللاجئين الفلسطينيين هناك تهتز، وتتعرّض للاضطراب، والدفع باتجاه النزوح واللجوء.
1- كانت البداية من الأردن، بعد أحداث 1970، واضطرار المقاومة الفلسطينية، بكل مؤسساتها ومقاتليها، للخروج من الأردن، والنزوح إلى سورية ولبنان أولاً، بحثاً عن مأوى وملجأ آمنين.
2- ثم كان لبنان، بعد وصول قوات المقاومة الفلسطينية إليه، وبدء الحرب الأهلية وانخراط المقاومة فيها، وما تبع ذلك من تطورات عربية، بخصوص تلك الحرب، وصولاً إلى الغزو الإسرائيلي لبيروت عام 1982 وخروج المقاومة من لبنان، وبعدها حرب المخيمات في بيروت والجنوب. وخلال ذلك، دُمّرت عدة مخيمات فلسطينية، مثل تل الزعتر وضبية وجسر الباشا، وتهجير سكانها، وارتُكبت مجازر بحق الفلسطينيين في مخيماتهم، وكان أبرزها في مخيمي صبرا وشاتيلا. ثم جرت، عام 1983، أحداث طرابلس ومخيمي البداوي ونهر البارد. وقبل سنوات، وباسم الحرب على الإرهاب الذي تمثّله مجموعة عُرفت باسم (فتح الإسلام)، جرى تدمير مخيم نهر البارد، بعدما سيطرت عليه هذه المجموعة.
وقد دفع ذلك كله، إضافة إلى الظروف القاسية والصعبة التي يعيشها الفلسطينيون في لبنان، بسبب القوانين اللبنانية التي تمنعهم من العمل في عشرات المهن، وبسبب ضيق مساحات المخيمات التي يعيشون فيها، ومنعهم من السكن خارجها، وبسبب انتشار الفقر والمجموعات المسلحة في هذه المخيمات، دفع، ويدفع بأعداد كبيرة من الفلسطينيين في لبنان، وخصوصاً فئة الشباب، إلى الهجرة باتجاه الدول الأوروبية وغيرها، وخصوصاً التي أتاحت لهم فرصة اللجوء إليها، للعيش والعمل والإقامة وحتى حمل الجنسية. وقد حرص هؤلاء على الزواج من الأقارب في لبنان، وجذب المزيد من أقاربهم بطرق مشروعة، وغير مشروعة، وهم يُعتبرون، الآن، مصدر رزق وعيش ما تبقى من أسرهم في لبنان.
لاجئون في مخيم اليرموك تحت وطأة الحالة السورية (31يناير/2014/أرشيف الأمم المتحدة) |
3- مع غزو العراق للكويت، عام 1990، ومن ثم تحريرها، اضطر نحو نصف مليون فلسطيني (بعدما اتهمتهم الحكومة الكويتية بالترحيب بالاحتلال العراقي، وبأن قيادة منظمة التحرير، ممثلهم الشرعي الوحيد، أيّدته)، إلى النزوح والعودة إلى الأردن وسورية ولبنان، حيث كانوا يقيمون، أو للبحث عن أماكن عمل وإقامة جديدة في دول عربية وأجنبية أخرى.
4- بعد توقيع القيادة الفلسطينية على اتفاق أوسلو، 1993، ووقوف النظام الليبي ضده ومعاداته القيادة الفلسطينية، لجأت القيادة الليبية، عام 1995، إلى الضغط على الفلسطينيين المقيمين فيها، وإلغاء عقود عمل وإقامات آلاف منهم ودفعتهم للهجرة من ليبيا، ما تسبّب بخروج عشرات الآلاف منهم عبر المنافذ الحدودية، وعلق بعضهم، ممّن لا يمتلكون وثائق سفر معترف بها، على الحدود مع مصر، في السلوم، حيث أقاموا هناك مخيماً أطلقوا عليه اسم "مخيم العودة"، الذي استمر إلى أن حُلّت أزمتهم بعد تدخل منظمات دولية عديدة معنية. وعند اندلاع الثورة على نظام العقيد معمر القذافي، واضطرار عشرات الآلاف من العاملين العرب والأجانب لمغادرة ليبيا، استُهدف الفلسطينيون في ليبيا، بتهمة أنهم كانوا مؤيدين لنظام القذافي ومستفيدين منه، الأمر الذي دفع أعداداً كبيرة منهم للفرار من ليبيا، ومنع بعضهم، ممّن لا يملكون وثائق سفر معترف بها، من دخول الأراضي التونسية، وأقيم لهم على الحدود مخيم سُمّي "مخيم الشوشة".
5- بعد إسقاط النظام العراقي، عام 2003، استهدفت ميليشيات عراقية طائفية الفلسطينيين الذين لجأوا إلى العراق عام 1948 (نحو 30 ألفاً)، وعملت بهم قتلاً وتدميراً وتهجيراً، بذريعة أنهم كانوا مؤيدين للنظام السابق، ما اضطرهم للمغادرة باتجاه الأردن وسورية اللتين منعتهم من عبور حدودهما، واضطروا للإقامة في مخيمات هناك على الحدود، أهمها "مخيم الرويشد" على الحدود مع الأردن، وبقيت مشكلتهم قائمة سنوات عدة، إلى أن قررت دول أجنبية منحهم حق اللجوء والإقامة، في مقدمتها البرازيل وتشيلي والسودان.
6- مع اندلاع أعمال العنف والحرب في سورية، وجد الفلسطينيون أنفسهم وسط "معمعانها"، وخصوصاً أن معظمهم كان يعيش في دمشق ومخيماتها وفي مدن أخرى، الأمر الذي جعل المخيمات عرضة لعمليات عسكرية وللدمار، ودفع معظم الفلسطينيين للخروج منها، والعيش في مراكز المدن، وخصوصاً دمشق وضواحيها الآمنة، ونزح نحو 50 ألفاً منهم، أو أكثر، إلى لبنان، كما نزحت قلّة قليلة منهم إلى الأردن، الذي رفض فتح حدوده للاجئين الفلسطينيين من سورية، ونزح آخرون إلى تركيا ومصر وليبيا. ومن هذه الدول، بدأ فلسطينيون كثيرون مرحلة اللجوء عبر البحر المتوسط، وبطرق غير شرعية، إلى الشواطئ الأوروبية، متوجهين، أساساً، إلى الدول الأفضل للجوء، مثل السويد والنرويج والدنمارك وهولندا وألمانيا. وقد هاجرت عائلات عبر ما وصفت بقوارب الموت، وأرسلت عائلات أخرى بعض أفرادها، وأحياناً صغار السن منهم، لكي يتمكنوا بعد وصولهم إلى تلك الدول من الحصول على الحق في لمّ شمل أسرهم. ولا يزال اللجوء إلى هذه الدول من اللاجئين الفلسطينيين مستمراً، وعبر كل الطرق والموانئ والمطارات، ما ينذر بانتقال أعداد كبيرة منهم إلى تلك الدول، طالبين اللجوء والإقامة والجنسية.
7- لعلّ الأخطر على صعيد بحث اللاجئين الفلسطينيين عن ملاجئ جديدة، ما كُشف أخيراً عن هجرة الفلسطينيين من قطاع غزة عبر الأنفاق إلى الموانئ المصرية، باتجاه سواحل الدول الأوروبية، طلباً للجوء. فالقطاع، الذي يقطنه نحو مليوني فلسطيني، معظمهم من اللاجئين، هو الأرض الفلسطينية الوحيدة المحررة، وتحاصره إسرائيل منذ 2007، وقد شنت إسرائيل ثلاثة اعتداءات واسعة، ودمرت في أثنائها أعداداً كبيرة من المنازل والمدارس والمؤسسات والمراكز الصناعية والطبية والبنى التحتية. وأدى ذلك إلى تزايد الصعوبات والضغوط الاقتصادية والاجتماعية، مع ما يعانيه، بالأصل، من ندرة في الموارد، الأمر الذي يدفع بأعداد متزايدة من أبناء القطاع، وخصوصاً اللاجئين المعدمين، إلى الهجرة منه، ولو عبر الأنفاق، إلى عرض البحر، بحثاً عن ملجأ آمن، يمكّنهم من العيش بسلام. وتشير معطيات راهنة إلى أن استمرار الحصار والتجويع المفروض على القطاع قد يسبّب انفجارات اجتماعية وأمنية وسياسية كبيرة، وإن رفع الحصار، إذا لم يترافق مع برامج إنعاش وتشغيل وتطوير اقتصادي، قد يدفع، أيضاً، إلى هجرات كبيرة في كل الاتجاهات، بحثاً عن ملاجئ أكثر أمناً واستقراراً.
8- لم نشهد نزوحاً فلسطينياً أو طلباً للجوء إلى ملاجئ جديدة من الفلسطينيين في الضفة الغربية والأردن، ربما بسبب استقرار أوضاعهم الأمنية والسياسية، وإلى حد ما، الاقتصادية والاجتماعية، وخصوصاً فلسطينيي الأردن الذين يحملون جوازات سفر أردنية، وما زالوا قادرين على الحصول على فرص عمل في دول الخليج، والسفر بشكل عادي إلى الدول الأخرى. لكن هذا لا يمنع من وجود حالات من الهجرة الفردية، سواء من فلسطينيي الضفة، أو الأردن، إلى الدول الأوروبية، بحثاً عمّا هو أفضل.
تزايد ديمغرافي ومسؤوليات وطنية
تكاثر الفلسطينيون ديموغرافياً على امتداد السنوات الـ66 التي مضت على النكبة بشكل كبير جداً، حيث تضاعف عددهم من نحو المليون نسمة، عام 1948، إلى 11 مليون نسمة، أي أنهم ازدادوا بمعدل مليون نسمة كل ست سنوات، وكان معظمهم يعيش ظروفاً اقتصادية صعبة، وأكثر من نصفهم من اللاجئين الذين يتلقون المساعدات من وكالة الغوث. وقد جرى تجاوز تلك الظروف، حتى قبل عقدين، بفعل ما توفّر لهم من فرص عمل، سواء في بلدان الملجأ الأول، أو في دول الخليج وليبيا، وتمكّن كثيرون منهم من الحصول على تعليم جيد، وخوض غمار التجارة والصناعة، وتنفيذ مشاريع اقتصادية، أفادت كثيراً الفلسطينيين في المدن والمخيمات التي يقطنون فيها. ومع ازدياد تأزم الظروف الاقتصادية والاجتماعية، ومعها الأزمات السياسية والأمنية، وأعمال العنف المسلح، في معظم بلدان الملجأ الأول، أصبح عيش الفلسطينيين وأمنهم واستقرارهم صعباً جداً، وأصبحت بلدان الملجأ الأول تلك بمثابة ملاجئ نابذة للفلسطينيين، إذ يكفيها ما تعانيه هي من أزمات، ولم تعد قادرة على تقديم ما يساعد الفلسطينيين، المتكاثرين بسرعة، على استمرار العيش الآمن والكريم، حتى في قطاع غزة، الأمر الذي يجبر أعداداً كبيرة منهم على البحث عن ملاجئ جديدة، أكثر أمناً واستقراراً.
أصبحت قضية الهجرة والبحث عن ملاجئ جديدة للاجئين الفلسطينيين قضية ملحّة ومركزية، خصوصاً وهم يزدادون اقتناعاً بأن الوصول إلى الدولة المستقلة على كامل أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة قد يطول كثيراً، وسيطول أكثر فأكثر أمر عودتهم إلى وطنهم طبقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 194، الأمر الذي يفرض على كل المنظمات والهيئات والسلطات والفصائل الفلسطينية ضرورة التعجيل في بحث هذه القضية، من كل جوانبها وآفاقها الراهنة والمستقبلية، وطرح الحلول الممكنة لها بكل جرأة ومصداقية وطنية، وبما يساعد على استمرار تمسّك الفلسطيني بهويته وحقوقه الوطنية، حيثما توجّه واستوطن. ولعلّ الأهم على هذا الصعيد، أن تبادر القيادات الفلسطينية كافة إلى عقد مؤتمر وطني فلسطيني مخصص للنظر في هذه القضية، ورسم السبل لأفضل الحلول لها.
وفي انتظار ذلك، وتهيئةً له، يمكن لقيادة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير أن تبادرا إلى إنشاء هيئة وطنية، ووزارة خاصة بمتابعة أوضاع المهجرين واللاجئين، وأن تقيما مركز أبحاث ودراسات متخصّص باقتراح الحلول المناسبة لهذه القضية الوطنية. ومن ذلك، مثلاً، طرح قضية اللاجئين وحمايتهم اقتصادياً وسياسياً وأمنياً على القمة العربية، مع مقترحات بأن تسهم الدول العربية القادرة والغنية في استيعاب ملايين اللاجئين وتشغيلهم ومنحهم الإقامات وإجازات العمل الملائمة، وأن تبادر السلطة إلى منح كل فلسطيني جواز السفر الفلسطيني، وأن تحصل من جامعة الدول العربية والهيئات الدولية على قرارات تسهّل مرور وعمل وإقامة مَن يحمله، في الدول العربية والأجنبية، خصوصاً منها الاسكندنافية، القادرة على استقبال ملايين من اللاجئين واستيعابهم ومنحهم الإقامة المؤقتة. إن لم يكن مرغوباً ولا مسموحاً القول بحق الإقامة والجنسية الدائمة إلى جانب الجنسية الفلسطينية، فهل نجرؤ على طرح واجتراح حلول لمعادلة جديدة، تشمل اللجوء والتوطين والتجنيس وحق العودة، سواء في الملاجئ القديمة، أو في الجديدة وتلك المنتظرة؟