05 نوفمبر 2024
اللاهوت العربي الجديد: كورونا والدولة
فكرتان، أو كائنان يكادان يكونان ميتافيزيقيين في بعض بلاد شرق المتوسط وبعض من غربه، الفيروس كورونا والدولة. قد يبدو العنوان بمثابة تمرين للملهاة على تكبيد المأساة غيرَ قليل من المفارقة. لِنَقل المعادلة بشكل آخر: هل السؤال الذي يطارد العالم ما بعد كورونا يليق بالشرط العربي والعقل العربي في السلطة؟ هل الدولة العربية، في مطلقِ افتراض وجودها أو نسبية فعلها وتحققها، يمكنها أن تستقبل سؤال الما - بعد كورونا بعقلٍ يليق بالدولة؟
هذه المعادلة، في الجمع بين الفيروس والدولة، لا تقف عند عتبة المزاح التراجيدي العربي، بل تطرحها كل شعوب العالم اليوم، ولا يخلو مقال أو حوار، مع فيلسوف أو باحث أو سوسيولوجي أو عالم أفكار (من إدغار موران إلى يورغن هابرماس مرورا بفوكوياما وتوماس بيكيتي وهنري كيسنجر)، من تفكير جماعي حوله، إلا نحن، فنجد أننا مطالبون أولا بافتحاص التاريخ والمقولات السياسية الكبرى، مثل الدولة على قاعدة الواقع؟ قبل أن نسأل: هل نفهم الدولة وهل نفهم الفيروس نفسه، كما يفهمهما العالم، لكي نقيم معادلة سوية في فهم السؤال؟ بالنسبة للفيروس، ما زلنا ننتظر إلى حد الساعة تعريفه من الآخرين، ومثل كل كائن نستعطفه بفهم ميتافيزيقي، لكي نتعايش معه، في الحدود البشرية المعترف بها.
نحن لا رأي لنا بعدُ، في مصدره، ولا في شكله ولا تطوّراته، إلا ما جاء في كتابات الآخرين وإعلامهم. نحن نبحث، في أحيان كثيرة، عن اللعنة في ما حلّ بالشعوب المسلمة، العربية منها خصوصا، تلك التي تعيش منذ قرون طويلة في انتظار سقوط السماء بفعل نية سيئة أو شهوة
عابرة في ركن مظلم. نحن لا نعرفه، لأننا لا نملك وجهة نظر فيه، ولا نملك العلم الذي أوصتنا كل تعاليمنا الروحية بأن نسلكه طريقا يقودنا إلى معنى الوجود والعقيدة نفسها؛ فهذا العلم، الطريق المختصر إلى المعرفة والحضارة، لا نملك مفاتيحه، ولا مختبراته، ولا ذهنيته بالأساس، ولا دارسيه ولا جماعاته. هذه العقيدة الرائعة حولناها إلى بؤس تاريخي بشري فينا، وإلى حاجز فعلي ضد العلم بالذات، وطوّرنا كل مجسّات الالتقاط الميتافيزيقي ونَدَهْنا العلم ليثبت تفوقنا في التحجر وتبريره! وأضفنا إلى ذلك الإثارة والانفعال الجماعي..
لا بأس، قلنا كمواساة ساذجة: لنا تاريخ، وربما لنا وجهة نظر في الدولة، بيد أنه، ربما، آن الأوان كي نُقرَّ بأن ما نملكه من تصوّر أو معيش مع الدولة هو نوع من الميتافيزيقا التاريخية!
نعني بها وحدة قياس حقيقة تتجاوز التاريخ، حقيقة ما فوق تاريخية. لهذا عندما تتحدّث الشعوب الآن عن الدولة والتاريخ ترفع صوتها وعقلها وفكرها، وتهتف، فرحةً، بعودة الدولة، فنجد أنفسنا أننا غير معنيين، ونتابع بِحيرةٍ هذا العالم الجديد الذي يولد من تحت معطف فيروس متناهي الصغر.
كل شعوب العالم تفهم معنى تلاشي المراهم النيوليبرالية، وتتناقش في اعتناق الدولة الحامية، تجسيدا لدولة الفصل الاجتماعي والحماية الصحية، دولة التعليم والعقلانية المشتركة، ودولة الاستراتيجيات الوجودية الكبرى، كفكرة هيغلية عن التاريخ المتحقق، هذه الدولة التي تعود
اليوم، ضد السوق وضد تذويب العولمة للأوطان، يفرح بها الجميع.
حتى ولو انتصرت الدولة الوليدة لقيم وتصوراتٍ كانت الليبرالية، المهيمنة غربا، والتي خرجت منتصرة من الحرب الباردة وحرب النفوذ الجيواستراتيجي، ومن الثورة الرقمية، قد رمتها في سلة المتلاشيات الأيديولوجية، مثل قيم التأميم وتصوراته (ولو مؤقتا)، ومثل الدولة العاقلة، فنحن لم نساير العالم في فرحه، بل شدّنا سؤال ميتافيزيقي يليق بحيرتنا: هل نفرح بعودة الدولة، أم نفرح أولا بإثبات وجودها؟ لننظر إلى حالتنا: نحن شعوب ودول اختفت، كما في الفيلم الشهير والجميل "حلقة الشعراء المفقودين". نزيد في الميتافيزيقيات عندما نتعالى عمَّا يشغل الناس، ولا نرى في الفيروس سوى فيلق إلهي يقتل الجميع، بمن فيهم الأشد تقوى وورعا وإيمانا من شعوب المليار ونصف مليار مسلم. وتزيد "ميتافيزيقانا" عندما نعتبر الدولة سبةً في حق القبيلة والعشائر والدعائم القديمة لنظم الامتثال.
لهذا، فإن جزءا من أسئلة العالم: أي نموذج مجتمعي نود أن نعيش في ظلاله بعد الجائحة؟ سؤال يبدو غريبا فعلا، لأن سؤال "ما قبل" و"ما بعد" مثلما يَعقِل العالم كله ذلك، هو بوابة لحسم في احتمالين: التغيير أو استمرار الحال كما كان؟
وبالمعنى الفلسفي: هل سينتصر هيراقليس، فيلسوف الحركة، و"لن نستحم في النهر مرتين"، أم سينتصر بارمينديس الذي يقول إن الجمود هو الأصل و"الوجود الحقيقي هو الثابت الذي يكمن وراء الظاهر"؟ ونحن نفضل الجمود في الجوهر والتغيير في الظاهر إلى حد الساعة.
ووسط الاتهامات المتبادلة اليوم، حد الانتفاء، بين الخارجين عن الدائرة الشرعية والداخلين
فيها، والاتهامات بين أصحاب القومية، أو من تبقوا منهم، وأصحاب الأممية الخضراء، وبين دعاة الحشر ودعاة الحجر، ربما قد نستشف أن البريء الوحيد فينا هو الفيروس! كما كتب الفرنسي المثير للجدل، جان فرانسوا كان، مؤسس الأسبوعية اليسارية، ماريان، أو أن الـ"ما بعد" سيكون أفظع ولا شك.
إدراج الواقع في خطاطة التفكير الخاص بنا يجعل من الصعب أن نشارك العالم قلقه: نحن شعوب اختفت منذ زمان، بقوة الأنظمة وتغولها، وزاد اختفاؤها بعد الفيروس، وزاد أن الأنظمة، وهو الأقرب إلى توصيف الدولة عندنا، اختفت بدورها، فصار اختفاؤنا مزدوجا، مضاعفا، شعوبا وأنظمة: لنلاحظ عندما صار للعالم شغل أكبر يشغله نسي كل حروبنا، وكل طوائفنا وكل احتجاجاتنا، ونسي حتى أسماء الرؤساء والكانتونات والوزراء، فالعالم ينشغل بنا عندما يكون في فسحة تأمين الاستهلاك، ونموذج الدولة التي تعيش رفاهيتها على حساب شعوب أخرى، العالم يتذكر الجيواستراتيجية الشرق أوسطية أو الغرب أوسطية عندما يكون في حاجةٍ إلى الأموال، وبيع الأسلحة، ووضع المتاريس حيث يجب.
أما العالم عندما يكون منشغلا بشيء جدّي، مثل الدولة ومثل كورونا، فإنه ينسانا، وينسى حتى أقدس مقدّساتنا وحروبنا وغزواتنا على بعضنا. وقد يكلف بنا مديرا إقليميا في الصليب الأحمر من أجل أن نظل أحياء، حتى يعود العالم إلى استهلاكياته السعيدة.
نحن لا رأي لنا بعدُ، في مصدره، ولا في شكله ولا تطوّراته، إلا ما جاء في كتابات الآخرين وإعلامهم. نحن نبحث، في أحيان كثيرة، عن اللعنة في ما حلّ بالشعوب المسلمة، العربية منها خصوصا، تلك التي تعيش منذ قرون طويلة في انتظار سقوط السماء بفعل نية سيئة أو شهوة
لا بأس، قلنا كمواساة ساذجة: لنا تاريخ، وربما لنا وجهة نظر في الدولة، بيد أنه، ربما، آن الأوان كي نُقرَّ بأن ما نملكه من تصوّر أو معيش مع الدولة هو نوع من الميتافيزيقا التاريخية!
نعني بها وحدة قياس حقيقة تتجاوز التاريخ، حقيقة ما فوق تاريخية. لهذا عندما تتحدّث الشعوب الآن عن الدولة والتاريخ ترفع صوتها وعقلها وفكرها، وتهتف، فرحةً، بعودة الدولة، فنجد أنفسنا أننا غير معنيين، ونتابع بِحيرةٍ هذا العالم الجديد الذي يولد من تحت معطف فيروس متناهي الصغر.
كل شعوب العالم تفهم معنى تلاشي المراهم النيوليبرالية، وتتناقش في اعتناق الدولة الحامية، تجسيدا لدولة الفصل الاجتماعي والحماية الصحية، دولة التعليم والعقلانية المشتركة، ودولة الاستراتيجيات الوجودية الكبرى، كفكرة هيغلية عن التاريخ المتحقق، هذه الدولة التي تعود
حتى ولو انتصرت الدولة الوليدة لقيم وتصوراتٍ كانت الليبرالية، المهيمنة غربا، والتي خرجت منتصرة من الحرب الباردة وحرب النفوذ الجيواستراتيجي، ومن الثورة الرقمية، قد رمتها في سلة المتلاشيات الأيديولوجية، مثل قيم التأميم وتصوراته (ولو مؤقتا)، ومثل الدولة العاقلة، فنحن لم نساير العالم في فرحه، بل شدّنا سؤال ميتافيزيقي يليق بحيرتنا: هل نفرح بعودة الدولة، أم نفرح أولا بإثبات وجودها؟ لننظر إلى حالتنا: نحن شعوب ودول اختفت، كما في الفيلم الشهير والجميل "حلقة الشعراء المفقودين". نزيد في الميتافيزيقيات عندما نتعالى عمَّا يشغل الناس، ولا نرى في الفيروس سوى فيلق إلهي يقتل الجميع، بمن فيهم الأشد تقوى وورعا وإيمانا من شعوب المليار ونصف مليار مسلم. وتزيد "ميتافيزيقانا" عندما نعتبر الدولة سبةً في حق القبيلة والعشائر والدعائم القديمة لنظم الامتثال.
لهذا، فإن جزءا من أسئلة العالم: أي نموذج مجتمعي نود أن نعيش في ظلاله بعد الجائحة؟ سؤال يبدو غريبا فعلا، لأن سؤال "ما قبل" و"ما بعد" مثلما يَعقِل العالم كله ذلك، هو بوابة لحسم في احتمالين: التغيير أو استمرار الحال كما كان؟
وبالمعنى الفلسفي: هل سينتصر هيراقليس، فيلسوف الحركة، و"لن نستحم في النهر مرتين"، أم سينتصر بارمينديس الذي يقول إن الجمود هو الأصل و"الوجود الحقيقي هو الثابت الذي يكمن وراء الظاهر"؟ ونحن نفضل الجمود في الجوهر والتغيير في الظاهر إلى حد الساعة.
ووسط الاتهامات المتبادلة اليوم، حد الانتفاء، بين الخارجين عن الدائرة الشرعية والداخلين
إدراج الواقع في خطاطة التفكير الخاص بنا يجعل من الصعب أن نشارك العالم قلقه: نحن شعوب اختفت منذ زمان، بقوة الأنظمة وتغولها، وزاد اختفاؤها بعد الفيروس، وزاد أن الأنظمة، وهو الأقرب إلى توصيف الدولة عندنا، اختفت بدورها، فصار اختفاؤنا مزدوجا، مضاعفا، شعوبا وأنظمة: لنلاحظ عندما صار للعالم شغل أكبر يشغله نسي كل حروبنا، وكل طوائفنا وكل احتجاجاتنا، ونسي حتى أسماء الرؤساء والكانتونات والوزراء، فالعالم ينشغل بنا عندما يكون في فسحة تأمين الاستهلاك، ونموذج الدولة التي تعيش رفاهيتها على حساب شعوب أخرى، العالم يتذكر الجيواستراتيجية الشرق أوسطية أو الغرب أوسطية عندما يكون في حاجةٍ إلى الأموال، وبيع الأسلحة، ووضع المتاريس حيث يجب.
أما العالم عندما يكون منشغلا بشيء جدّي، مثل الدولة ومثل كورونا، فإنه ينسانا، وينسى حتى أقدس مقدّساتنا وحروبنا وغزواتنا على بعضنا. وقد يكلف بنا مديرا إقليميا في الصليب الأحمر من أجل أن نظل أحياء، حتى يعود العالم إلى استهلاكياته السعيدة.