09 نوفمبر 2024
اللا يقين يكتنف الحراك الجزائري
مضى نصف عام على الحراك الجزائري الذي أسقط حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ونتج منه وضع مسؤولين حكوميين وأمنيين ورجال أعمال كثيرين قيد الاعتقال والمحاكمة. وأتيحت حرية تعبير واسعة، أطلقت كل المكبوت السياسي تقريبا. وبينما يؤكد الحكام الفعليون للجزائر: رئيس أركان الجيش أحمد قايد صالح، ورئيس مجلس الدولة عبد القادر بن صالح ورئيس الحكومة نورالدين بدوي، أن ثورة الشعب انتصرت وحققت أهدافها، وأن التغيير قد تم، ولم يتبق سوى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، فإن الحراك الشعبي والجسم السياسي والحزبي، متعدّد الأطياف، تتراوح مطالبه بين رحيل الحكومة الحالية وتشكيل حكومة كفاءات وطنية تشرف على المسار الانتقالي، والدعوة الى تنحّي بقية رموز العهد السابق، وحل حزب جبهة التحرير الوطني، من أجل أن يستكمل التغيير حلقاته.
وكان رئيس مجلس النواب، بن صالح، قد تقلّد بصورة مؤقتة (تسعين يوما) منصب رئيس الجمهورية إعمالاً للدستور. وبانقضاء المدة الزمنية المحدّدة، بدون خروج البلاد من أزمتها الانتقالية، فقد أعلن الرجل في الرابع من يوليو/ تموز الماضي استمراره في الحكم إلى حين انتخاب رئيس جديد.
ولمواجهة هذا الانسداد المصحوب بالتأزم، جرى التوافق على تشكيل هيئة وطنية للوساطة
والحوار، أنيطت رئاستها برئيس مجلس النواب السابق، كريم يونس. واستعانت الهيئة بأربعين شخصية لأداء دور استشاري (بعض الشخصيات المسمّاة، نفت استمزاج رأيها بالانضمام وأعلنت رفض المشاركة). وتولت الهيئة مهمة الاستماع إلى الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وشخصيات وطنية. وكان قد جرى، خلال ذلك التوافق، على أن الحوار الذي تجريه هذه الهيئة لن يشمل القوى والأطراف التي أيّدت العهدة (الولاية) الخامسة لبوتفليقة. وليس للهيئة برنامج عمل أو خطة طريق أو أرضية محددة كما يقول رئيسها، إذ يقتصر عملها على بلورة الاتجاهات والخطوط العريضة التي يلتقي عليها الفاعلون في جميع المواقع.
ومع ذلك، ما زالت حالة الاضطراب واللايقين السياسي تلقي بظلالها على المشهد السياسي والشعبي. ومن دلائل ذلك أن تشكيل هيئة الوساطة والحوار قد اقترن (شعبياً) بضرورة تلبية عدة مطالب، منها: رحيل حكومة بدوي، الإفراج عن معتقلي الحراك، ومنهم من رفع العلم الأمازيغي، وقف عنف الشرطة إزاء المتظاهرين، حرية الوصول إلى العاصمة في أيام التظاهرات، فتح وسائل الإعلام الرسمية أمام سائر القوى الثورية. فيما كان رئيس أركان الجيش يتحدث في الأثناء عن "رفض الإملاءات"، وهو ما جعل تلك المطالب معلقة، أو يجري تنفيذ بعضها فقط وبالتقسيط.
من حسن الطالع والتدبير أن الحراك الجزائري اتسم بالسلمية وحافظ عليها، وتشدّد الشرطة حيال الحراكيين ظل من دون درجة القمع، ولم تنجح أسطوانة المندسّين بين المتظاهرين في المرور، والذي حدث خلالئذ أن النظام انقلب على نفسه، بقيادة رأس المؤسسة العسكرية، وتحققت من خلال ذلك مطالب أساسية للحراكيين، تتعلق برموز الفساد أو بـ"العصابة"، حسب الوصف السائد لرموز عهد بوتفليقة. كما فشلت أية محاولات للتدخل من الخارج، وظل الحدث الجزائري في إطار محلي وداخلي، وحافظت مرافق الدولة على عملها. ولم تنشأ منازعات اجتماعية أو مناطقية في أتون الحراك المضطرم، بل تعزّزت لحمة الوحدة الوطنية، وهذه في مجملها نتائج إيجابية تستفيد من دروس موجة الربيع العربي والثورة المضادّة.
غير أن طول أمد الحراك، وما تمتعت به المؤسسة العسكرية من مرونةٍ في الحركة، ومن قدرة على المناورة، فضلا عن تماسكها، مع التهويل من خطر الفراغ الدستوري، قد أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه من ضبابية. وقد فاقم من ذلك عدم تبلور قيادة متجانسة للحراك الشعبي، وانشغال الأحزاب بمصالحها وانهماكها في حساباتٍ تتعلق بمستقبلها، مع تحول البلاد إلى هايد بارك (حديقة الخطابة في لندن)، تزدهر فيها الخطابات والطروحات من كل لون أيديولوجي وسياسي، باستثناء مناصري العهد السابق، ما أدخل البلاد في حالةٍ أقرب إلى شد الحبال. وقد طالت عملية الشد هذه، وتنذر باستنزاف الطاقات، وتثير الخشية من كسر الحلقة المفرغة، بطريقةٍ تُخرج الأمور عن سياقها الطبيعي الجاري احترامه.
وبينما يصف بعضهم رئيس هيئة الوساطة والحوار، كريم يونس (71 عاما)، بأنه من رموز
العهد السابق، كونه تقلد منصبا وزاريا في السابق (التكوين المهني)، إلا أن الرجل شق طريقه إلى هذه المهمة، بمبادرة ذاتية ثابر وواظب عليها، وتتمحور حول عدم ترك الأحوال رهنا للتجاذبات والانفعالات السياسية، وأنه لا بد من شق الطريق للتوسط بين مختلف الفاعلين من جهة، وللتوسط بين هؤلاء ورموز الدولة، ليس بغرض التجسير، بل من أجل بلورة رؤية وطنية للحلول، لا ترتهن إلى حدّي الانتخابات الرئاسية، وتشكيل حكومة كفاءات انتقالية. وهذا نموذج للمبادرات التي يصعب رفضها، لانعدام بدائل راهنة لها. وتبقى المشكلة بعدئذ في أن هذه الهيئة لا تتمع بغطاء دستوري وسياسي كافٍ أو ملحوظ. وقد يفسر الفاعلون السياسيون مُخرجاتها على النحو الذي يرتأونه، أو يستلهمون منها خريطة طريق تتناسب مع رؤاهم الأصلية. وقد يتطلب الأمر مُحكمّين دستوريين للنظر في النتائج وسُبل تطبيقها، إذ يتمسّك ممثلو الدولة بأولوية الانتخابات الرئاسية ومحوريتها مدخلاً لكل الحلول أو التغييرات، ولملء الفراغ، ولتجنيب البلاد الانزلاق إلى معمعة الفوضى، كما يصرّحون بذلك في صيغ مختلفة. بينما يتمسّك الحراكيون وبعض الأحزاب بالذهاب إلى الحراك إلى منتهاه بتغيير النظام برمّته، وتنحّي جميع رموزه بمن فيهم الرموز الثلاثة الباقون، واستدعاء الرئيس السابق بوتفليقة، ومساءلته، وعدم الارتضاء بـ "نصف ثورة" أو التوقف عنده، كما يقول بعض الناشطين.
هكذا تتواصل "لعبة" شد الحبال، على أمل أن لا تنقطع الحبال هذه، وأن لا يتم الالتفاف على مطالب الشعب الجوهرية، وأن تنقضي إلى غير رجعة عهود الحكم العسكرية ذات الواجهات المدنية.
وكان رئيس مجلس النواب، بن صالح، قد تقلّد بصورة مؤقتة (تسعين يوما) منصب رئيس الجمهورية إعمالاً للدستور. وبانقضاء المدة الزمنية المحدّدة، بدون خروج البلاد من أزمتها الانتقالية، فقد أعلن الرجل في الرابع من يوليو/ تموز الماضي استمراره في الحكم إلى حين انتخاب رئيس جديد.
ولمواجهة هذا الانسداد المصحوب بالتأزم، جرى التوافق على تشكيل هيئة وطنية للوساطة
ومع ذلك، ما زالت حالة الاضطراب واللايقين السياسي تلقي بظلالها على المشهد السياسي والشعبي. ومن دلائل ذلك أن تشكيل هيئة الوساطة والحوار قد اقترن (شعبياً) بضرورة تلبية عدة مطالب، منها: رحيل حكومة بدوي، الإفراج عن معتقلي الحراك، ومنهم من رفع العلم الأمازيغي، وقف عنف الشرطة إزاء المتظاهرين، حرية الوصول إلى العاصمة في أيام التظاهرات، فتح وسائل الإعلام الرسمية أمام سائر القوى الثورية. فيما كان رئيس أركان الجيش يتحدث في الأثناء عن "رفض الإملاءات"، وهو ما جعل تلك المطالب معلقة، أو يجري تنفيذ بعضها فقط وبالتقسيط.
من حسن الطالع والتدبير أن الحراك الجزائري اتسم بالسلمية وحافظ عليها، وتشدّد الشرطة حيال الحراكيين ظل من دون درجة القمع، ولم تنجح أسطوانة المندسّين بين المتظاهرين في المرور، والذي حدث خلالئذ أن النظام انقلب على نفسه، بقيادة رأس المؤسسة العسكرية، وتحققت من خلال ذلك مطالب أساسية للحراكيين، تتعلق برموز الفساد أو بـ"العصابة"، حسب الوصف السائد لرموز عهد بوتفليقة. كما فشلت أية محاولات للتدخل من الخارج، وظل الحدث الجزائري في إطار محلي وداخلي، وحافظت مرافق الدولة على عملها. ولم تنشأ منازعات اجتماعية أو مناطقية في أتون الحراك المضطرم، بل تعزّزت لحمة الوحدة الوطنية، وهذه في مجملها نتائج إيجابية تستفيد من دروس موجة الربيع العربي والثورة المضادّة.
غير أن طول أمد الحراك، وما تمتعت به المؤسسة العسكرية من مرونةٍ في الحركة، ومن قدرة على المناورة، فضلا عن تماسكها، مع التهويل من خطر الفراغ الدستوري، قد أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه من ضبابية. وقد فاقم من ذلك عدم تبلور قيادة متجانسة للحراك الشعبي، وانشغال الأحزاب بمصالحها وانهماكها في حساباتٍ تتعلق بمستقبلها، مع تحول البلاد إلى هايد بارك (حديقة الخطابة في لندن)، تزدهر فيها الخطابات والطروحات من كل لون أيديولوجي وسياسي، باستثناء مناصري العهد السابق، ما أدخل البلاد في حالةٍ أقرب إلى شد الحبال. وقد طالت عملية الشد هذه، وتنذر باستنزاف الطاقات، وتثير الخشية من كسر الحلقة المفرغة، بطريقةٍ تُخرج الأمور عن سياقها الطبيعي الجاري احترامه.
وبينما يصف بعضهم رئيس هيئة الوساطة والحوار، كريم يونس (71 عاما)، بأنه من رموز
هكذا تتواصل "لعبة" شد الحبال، على أمل أن لا تنقطع الحبال هذه، وأن لا يتم الالتفاف على مطالب الشعب الجوهرية، وأن تنقضي إلى غير رجعة عهود الحكم العسكرية ذات الواجهات المدنية.