لاحظ المستعربُ الروسي أغناطيوس كراتشكوفسكي مع مطلع القرن العشرين أن مندوب دولة عربية جاء إلى مؤتمر مستشرقين في فيينا، فألقى قصيدةً بدأها بذكر الأطلال ثم الرحيل على الناقة قبل أن يحط رحاله ويقدّم تحياته إلى المؤتمر.
لم يكن الأمر طرفةً أو نادرة بل واقعة. وشهدنا مثلها في النصف الثاني من القرن العشرين مع شعراء، أهمهم الجواهري، استهلوا قصائد المديح بذكر الأطلال ثم متاعب الرحيل على الراحلة وصولاً إلى القاعة الملكية.
الشاعر الحديث لا يقلد أحداً أمر نفسه وشعره؛ هذا ما يقال لنا وسمعناه مراراً وتكراراً، ولكننا نجده يتبني معجماً آخر، وواقعاً لغوياً آخر.
صحيح أن هذا المعجم والواقع قد لا يكون مما اعتاده المستمع أو القارئ، ولكنه يخضع لآلية طقس صاحب الأطلال والناقة أيضاً، أي أنه يتبنى مهاداً مفارقاً أيضاً، ويلجأ إلى أطلالٍ وراحلةٍ من نوع مختلف، ولكنه يظل يصدر عن واقع لغوي مستقل عن أية حياة معيوشة.
المفارقة هي أن الجمهور المعاصر بعامة يظلّ في توجهه أقرب إلى صاحب الناقة، وأقل احتفاءً بشاعره الحديث، لأن المهاد الذي يصدر عنه شاعره التقليدي هو ذاته مهاده المحفوظ الذي نشأ عليه وتلقاه في المدارس والجامعات.
إنه جمهور يعزز خطاب التقليد، ولا يستطيع رؤية عالمه إلا عبر نوافذه. إنه المتلقي الغائب أيضاً والسعيد بغيابه.
يحدث هذا في الشعر مثلما يحدث في السياسة والوعظ الديني وكل جوانب الحياة. ومرة أخرى؛ لماذا؟