لعب "المجلس العربي"، في قطر والخليج عموما، دورالمركز الثقافي فكان محفلاً لإلقاء الأشعار والشيلات وعرض حكايات وبطولات الأجداد والقصص التاريخية، كما لعب المجلس دور المنبر الإعلامي بنقل أخبار الحي والأحياء المجاورة، وقضايا المجتمع، وتداول القضايا التي تعنى بشؤون الوطن وعلى الساحة العربية، فشكل الحاضنة الثقافية والاجتماعية الأولى للأجيال، فضلا عن دوره في مناقشة مختلف الأمورالتي تواجه المجتمع، وحل المشكلات التي تنشأ بين الناس، من قبل كبار القوم وأهل الحل والعقد، ويحظى المجلس بقيمة تراثية كبيرة في العادات والتقاليد العريقة بمنطقة الخليج العربي.
وقد أدرجت اللجنة الحكومية لصون التراث الثقافي غير المادي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "يونسكو"، "المجلس العربي" في القائمة التمثيليّة للتراث الثقافي غير المادي، وذلك خلال اجتماع "يونسكو" العاشر الذي عقد بالعاصمة الناميبية ويندهوك، أواخرعام 2015 بحضور ممثلين عن 175 دولة.
أغورا عربية
وفي احتفال أقيم بالمناسبة، اعتبر وزير الثقافة والفنون والتراث القطري - آنذاك - حمد الكواري، أن المجلس في قطر كما في الدول الخليجية يعبر عن تجذر المجتمع الخليجي في ثقافة التواصل منذ القدم، حيث يمثل "أغورا" أهل الخليج، وهو الشكل التواصلي الذي استقر عليه قدماء الإغريق، حيث كان يمثل وسيلة التواصل الاجتماعي الأعمق لهذا المجتمع، مثلما هو شأن وسائل التواصل الحديثة، كما كان ملتقى لجميع الناس، فهو ثابت من ثوابت بنية قطر الثقافية والاجتماعية مثلما هو ثابت من ثوابت عمارتها وهندستها للمساكن، كما أن رمزية المجلس تتجاوز الشكل لأنه مفعم بالمعاني والوظائف، بل هو حمال لتاريخ قطر.
وتبرز أهمية المجلس باعتباره مكانا للنقاش والحوار في قضايا المجتمع، ودوره في تربية الأجيال على مبدأ الاحترام المتبادل ومبادئ السلام والإصغاء إلى الرأي المختلف، وتأكيد قيم الصدق والوفاء والصداقة، وتوطيد الروابط بين أبناء المجتمع كونه يحتضن معظم المناسبات الاجتماعية.
مكان للتعلّم
بدوره، يعتبر الكاتب والباحث في الموروث الشعبي القطري، خليفة السيد المالكي، في حديث مع " العربي الجديد"، المجالس مدارس، موضحا: أنا وغيري تعلمنا من المجالس، تعلمنا احترام الكبير، وتعلمنا حسن الاستماع عندما يتحدث الكبير وطريقة الجلوس على الأرض، فكانوا يقولون لنا "ابرك بركة الجمال وفز فزة الرجال"، تعلمنا السلام ورد السلام، تعلمنا الاحترام، في المجالس تعلمنا الحكم والأمثال والشعر والقصص، تعلمنا كل شيء على أصوله على أيدي رجال علمتهم الحياة، رجال عاصروا الماضي بحلوه ومره، بفرحه وشقاه، بفقره وعطائه.
وثمة طقوس لمجالس"الفريج"، فاستقبال الضيف يبدأ ببخور العود الطيب، ليحمل "المقهوي" دلة القهوة العربية بيساره، والفناجين بيمينه، ويصب القهوة للضيف والحاضرين، كما يقدم الشاي والزنجبيل أما التمور فهي أساسية؛ كما تقدم أطعمة شعبية وتراثية "كالبلاليط"والعصيدة و"الخنفروش" و"الخبيص".
ويوضح المالكي: في الماضي كان في كل"فريج"(حي)، مجلس واحد أو مجلسان، مجلس"النوخذة" ومجلس كبير"الفريج"، ومع ذلك كنا نتسابق في الجلوس فيها لأنها المكان المناسب للرجل، لقد كان الآباء يسألوننا عن شيئين اثنين فقط، هل ذهبت إلى المسجد، وهل ذهبت إلى المجلس، لأن المسجد هو مكان العبادة والمجلس هو مكان العلم والمعرفة ومصاحبة الرجال والتعود على طبائعهم وعاداتهم وتقاليدهم وأساليبهم في الحديث وكسب شتى العلوم والمعرفة.
تراجع للمجالس
وحول دورالمجالس اليوم، يقول الباحث الشعبي: تعاني المجالس في أيامنا هذه من ضعف الإقبال، فعدد الحضور في كل مجلس لا يتعدى أصابع اليد الواحدة بخلاف ما كان في السابق، على الرغم من أن مجالس اليوم أصبحت مزودة بأفخم الأثاث وشاشات التلفزة، وصارت بعض العوائل تزوّد المجالس بطاولات البلياردو ولعب الورق حتى يتوافد عليها الناس، ورغم ذلك لا يأتي أحد، ودور المجلس تغير، وأصبح الكل منشغلاً بالهواتف المحمولة، وإرسال الرسائل، والحديث مع الأصدقاء على "فيسبوك" و"تويتر" وغيره، ولم تعد هناك موضوعات تطرح ذات قيمة كما كان في السابق.
ودعا المالكي لإحياء دور المجالس، مطالبا الجهات الحكومية المعنية بإنشاء مجلس في كل"فريج"، يكون مجمعا ثقافيا واجتماعيا، تقام فيه مراسم العزاء، ويحتضن مناسبات الخطوبة والمواليد والتهاني ونجاحات الطلاب وغيرها.
وقد أطلقت إدارة البحوث والدراسات الثقافية بوزارة الثقافة والرياضة، منتصف العام الماضي، مبادرة لإعادة إحياء دور المجالس في قطر ثقافياً واجتماعياً، وذلك انطلاقاً من أهميتها وتاريخها، ودورها في إثراء الحياة الاجتماعية، خلاف ما تحمله من دلالات ثقافية وتراثية.
طقوس الجلسة
وتتحكم بالدخول والجلوس في المجالس، عادات وتقاليد معينة مثل إلقاء السلام ، والتحفي، والجلوس في المكان الصحيح، والإنصات، وعدم مقاطعة المتحدث، وإعطاء الأولوية بالحديث للأكبر سنا، والاهتمام باللباس القطري، والتدريب على إعداد القهوة العربية على الطريقة التقليدية وتقديمها للضيوف في دلال خاصة، وعدم الانشغال بالهاتف المحمول، وغيرها من الآداب والموروث الشعبي.
ويطلق على المجلس في الكويت والإمارات"الديوانية"، وغالبا ما يكون منفصلا عن المنزل الأصلي، وكذلك في المملكة العربية السعودية التي عرفت"الديوانيات" في وقت متأخر عن شقيقاتها في الخليج.