أدى تقديم الانتخابات الرئاسية المصرية، على الانتخابات البرلمانية إلى كارثة تشريعية، إذ تم توحيد السلطتين التشريعية والتنفيذية في يد عبدالفتاح السيسي، والذي قام خلال عام ونصف بإصدار ما يقرب من 300 قانون، وهو ما يُعده بعضهم رقماً خرافياً بالنسبة للظرف الطارئ الذي أجازه له الدستور بشرط أن يكون، "قد حدث ما يوجب الإسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير".
عقب إعلان اللجنة العليا للانتخابات البرلمانية مواعيد الانتخابات، ينتظر قانونيون انعقاد البرلمان، الذي سيكون أمامه 15 يوماً فقط لمراجعة فيضان السيسي التشريعي طبقاً للدستور، ويتوقع مراقبون أن يقوم البرلمان الجديد بإقرار قوانين السيسي كلها، على الرغم من إصدار تشريعات وصفها العديد من القانونيين والحقوقيين، بالاستبدادية والقمعية والتي ساهمت في ترسيخ دولة الفرد الواحد وحصنت إمبراطورية الفساد.
قبل أن يبدأ هذا السيناريو، نسلط الضوء على طرف آخر في المعادلة، هو المحكمة الدستورية التي كان باستطاعتها فعل الكثير تجاه هذا الفيضان التشريعي، لكنها لم تتحرك كما فعلت أيام الدكتور محمد مرسي، فما السر وراء ذلك؟
اقرأ أيضا: مخدرات قاتلة في القاهرة.. مروجون يخلطون الترامَدول بالحشيش
العدالة المنقوصة .. ظلم كامل
يوم الإثنين 10 فبراير/شباط 2014 قامت محكمة جنح دمنهور، بإحالة نصوص مواد القانون رقم 107 لسنة 2013 المسمى قانون التظاهر إلى المحكمة الدستورية العليا للبت في دستوريته، وذلك على خلفية اتهام مجموعة من عمال شركة غاز البحيرة بالتظاهر بدون ترخيص للاحتجاج على تسريحهم من العمل، وذلك بعد طعن الدفاع بعدم دستورية القانون، وقد كانت هذه إحدى الدعاوى التي تطعن في دستورية هذا القانون.
إلا أن المحكمة لم تقم بالبت في هذه القضية، ولا قضايا أخرى تتعلق بنفس القانون، وإنما قامت بتاريخ 16 سبتمبر/أيلول 2015 بالحكم في دعوى أخرى قام صاحبها بالتنازل عن القضية، فكان الحكم هو إثبات ترك الخصومة، أما باقي الدعوات المنظورة أمامها فلم تلتفت إليها، وهو ما وصفه محمد الحلو الخبير القانوني، بالغريب إذ إن الدعوى تمس المصلحة العامة، كما أن ترك أحد المدعين الخصومة لدعواه، لا يعفي المحكمة من البت في دستورية القانون الذي تتعلق به مصالح باقي الشعب.
أي أن المحكمة لا تزال تؤجل نظر القانون الذي تم من خلاله مصادرة حق أصيل للإنسان كفله الدستور وكل المواثيق الدولية، وتسبب في ضياع سنوات من أعمار الآلاف من المصريين، الذين خرجوا للمطالبة بحقوقهم الاجتماعية والسياسية حتى كتابة هذه السطور، على الرغم من مرور أكثر من عام ونصف على إحالته لها.
كل سلطة بلا حدود هي سلطة غير شرعية.. "مونتسكيو" مؤسس نظرية الفصل بين السلطات
اقرأ أيضا: نجيب سويرس.. 5 أوجه صادمة للباكي على حال السوريين
الجانب الأخر من النهر
في يوم الإثنين 20 فبراير/شباط من عام 2012 قامت دائرة فحص الطعون بالمحكمة الادارية العليا بإحالة أوراق الدعوى رقم 2656 لسنة 13 قضائية إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية مواد قانون انتخابات مجلس الشعب، الذي سيطرت عليه أغلبية من الإسلاميين، بعد أول انتخابات برلمانية جرت بعد ثورة يناير.
في يوم الإثنين 14 يونيو/حزيران 2012 قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية بعض الفقرات الواردة في القانون، وتم الحكم بحل مجلس الشعب القائم، أي بعد أقل من 4 أشهر من تاريخ الإحالة، في سرعة غريبة أيضا، كما سيبدو بعد قليل.
اقرأ أيضا: إمبراطورية الجيش المصري (2-2)..سيطرة عسكرية على الثروة السمكية
الصورة الكاملة
كان لقضية حل مجلس شعب 2012 جانب آخر، تم الكشف عنه لاحقاً، وبالتحديد يوم 11 ديسمبر/كانون الأول 2013، أي بعد عام ونصف من حكم المحكمة الدستورية، إذ قال المستشار عبد المعز إبراهيم رئيس محكمة الاستئناف السابق، ورئيس اللجنة العليا التي أشرفت على انتخابات البرلمان في 2011، خلال حواره مع جريدة الوطن، "أنه أبلغ اللواء ممدوح شاهين، عضو المجلس العسكري، في نوفمبر/تشرين الثاني 2011 بأن قانون انتخابات مجلس الشعب «مليء بالعوار» بعد الإصرار على تقسيمه بنسبة «الثلثين للقائمة والثلث للفردي»، وأنه حال تحريك دعوى قضائية أمام المحكمة الدستورية فإنها ستحكم بحل المجلس، وأضاف أن «شاهين» قال له نصاً «أنا عارف والمشير عارف، كمل شغلك.. مهمتك تنفيذ القانون فقط».
أي أن السلطة القضائية كانت على علم بأن القانون الذي ستشرف به على العملية الانتخابية والتي ستنظر مدى دستوريته، معيب وغير دستوري، وهو ما قامت به بالفعل في الوقت المناسب.
اقرأ أيضا: صائدو القرش في عُمان.. مواجهة مع الموت
تاريخ من الموائمات
لعل تباطؤ المحكمة الدستورية عن الحكم في دستورية قانون التظاهر الذي تتخذه اليوم السلطة التنفيذية وسيلة لإسكات كل صوت معارض، يحيلنا إلى حكمها التاريخي الصادر بتاريخ 2 يونيو/حزيران 2013، والذي قضت فيه بعدم دستورية بعض بنود قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 162 لسنة 1958 والمعروف باسم قانون الطوارئ، والذي تمت إحالته لها للنظر في مدى دستوريته في يوم 20 نيسان/إبريل 1993، أي بعد مرور أكثر من 20 عاماً من تسلم القضية، والتي تعود خلفيتها لقيام مباحث أمن الدولة باعتقال شخص يدعى محمد أحمد عبد السلام في 15 مايو/أيار 1991.
أي أن المحكمة قامت بتأجيل نظر قانون غير دستوري لمدة 20 عاما، استخدمه مبارك ونظامه على مدار ثلاثين عاما في انتهاك حرمات المنازل وترويع الآمنين وتفتيش المواطنين وانتهاك خصوصياتهم واعتقال عشرات الآلاف منهم لسنوات طويلة وصلت في بعض الأحيان إلى عشرات السنين، من دون إبداء أية أسباب لتأخير الحكم والذي من المضحك المبكي أنه صدر بعد أن تم إلغاء القانون بعام ونصف.
إن القانون يجب أن يكون مثل الموت لا يستثني أحداً.. "مونتسكيو"
اقرأ أيضا: مصر: بالصور.. علاقة السيسي بأبرز متهمي قضية الفساد الكبرى
وجها العملة
كان للمحكمة الدستورية العليا موقف قوي ومعارض تجاه الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس محمد مرسي في 22 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2012، تمثل في البيان المقتضب الذي أصدرته آنذاك، تبعه حوار لنائب رئيس المحكمة المستشارة تهاني الجبالي التي وصفته بأنه انقلاب على الشرعية وهدم لدولة القانون، مضيفة بأن مرسي بإصداره هذا الإعلان قد فقد شرعيته رئيساً للجمهورية.
"إن المحكمة الدستورية لم تكن يومًا أداة طيعة لينة في يد أحد يستخدمها وقت يشاء، في ما يشاء، ولن تكون أبدًا، وأنها تتحمل مسؤولية الوفاء بحماية حقوق وحريات هذا الشعب والذود عن حرماته".
من بيان المحكمة الدستورية العليا عقب الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس المعزول محمد مرسي، حينذاك.
بغض النظر عن الحكم الشخصي على هذا الموقف واختلاف الآراء ووجهات النظر فيه، إلا أن المحكمة وأعضاءها لم يصدُر منهم أية مواقف، تجاه ما قاله الرئيس عبد الفتاح السيسي عن الدستور الذي أقسم باحترامه والولاء له، والذي قال عنه "إنه قد كُتب بحسن نية، وأن الأوطان لا تُبنى بالنوايا الحسنة"، والذي يُفهم منه عدم اعترافه بالدستور الحالي أصلاً كأحد ركائز بناء الدولة أو الوطن، والذي هو أحد الاتهامات التي قد تؤدي إلى محاكمة رئيس الجمهورية وعزله من منصبه وفق الدستور ذاته كما ورد في المادة 159.
كما أن المحكمة لم يصدُر عنها أي رد فعل على قيام السيسي بإصدار ما يُشبه الإعلان الدستوري، وإعطاء نفسه حق إعفاء رؤساء الأجهزة الرقابية من مناصبهم، وهو ما يُخالف نصوص الدستور الصريحة، كما أنه لا يجوز وضع مصير الجهات التي من المفترض أن تراقبه هو نفسه في يده.
لن يكون هناك أي حرية إذا كانت سلطة القضاء غير منفصلة عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية.. "مونتسكيو"
اقرأ أيضا: مصر.."العربي الجديد" يكشف من هو والد قاضي "الرشوة الجنسية"
موحد السلطات
بعد تولي المستشار عدلي منصور رئاسة الجمهورية عقب إعلان 3 يوليو/تموز، وعزل الرئيس محمد مرسي عن الرئاسة، نشأت بينه وبين السيسي علاقة أقوى بكثير من علاقة رئيس جمهورية بأحد الوزراء، والتي بدت في أكثر من موقف وحادث، وهو ما أكده منصور نفسه في حواراته، وهو ما تجلى في منح منصور رتبة مشير للسيسي (أهم رتبة عسكرية مصرية)، ليصبح ثاني من يحصل على هذه الرتبة من دون تحقيق أي إنجاز عسكري بعد المشير عبد الحكيم عامر، وهو المعروف الذي رده السيسي له بعد الجلوس مكانه على كرسي الرئاسة بمنحه قلادة النيل أرفع وسام مصري، واصطحابه في عدد من المناسبات والاحتفاليات.
يضع الموقف السابق، أداء المحكمة الدستورية العليا بعد عودة منصور لرئاستها على المحك تجاه القوانين التي يصدرها السيسي، إذ إنها لم تقم بالبت في المئات من قوانين السيسي، سوى بطلان قانون الانتخابات البرلمانية والذي أعطى السيسي وقتاً إضافياً متمتعاً فيه بالسلطة التشريعية، كما أن منصور يترأس المحكمة التي من المفترض أن تنظر في مدى دستورية القوانين التي أصدرها منصور نفسه أو التي أصدرها ويصدرها السيسي الذي يصحبه في مناسبات عديدة، لم يحدث أن جمعت بين رئيس للجمهورية ورئيس المحكمة الدستورية، وهو الشيء الذي تم توجيه انتقادات بالغة له من قبل العديد من القانونيين والفقهاء الدستوريين عقب عودة منصور إلى رئاسة المحكمة الدستورية، التي أصبح أداءها مطابقا للمثل الشهير، لا أرى، لا أسمع، لا أحكم.