حمل إعلان حكومة النظام السوري، أخيراً، عن المخططات التنظيمية السكنية لمناطق اليرموك والقابون في دمشق، والذي سيصدر في الثاني من يناير/ كانون الثاني المقبل، بحسب وكالة الأنباء السورية "سانا"، مزيداً من التخوف بالنسبة للاجئين والنازحين السوريين، الذين دفعهم تصعيد النظام أو حملات التهجير المنظمة التي قادها، إلى ترك منازلهم وبيوتهم في الكثير من المدن والأحياء السورية. وأشارت "سانا" إلى أنه "طُلب من الجهات الدارسة استكمال إنجاز المخططات التنظيمية لمناطق جوبر وعين الفيجة وعين الخضراء وبسيمة في ريف دمشق". وأقر الاجتماع، الذي عقد برئاسة رئيس حكومة النظام عماد خميس، "دراسات المخططات التنظيمية لمناطق بابا عمرو والسلطانية وجوبر في حمص بعد تقديم دراسات الجدوى الاقتصادية"، ووافق على "الرؤية المستقبلية لمخطط عدد من المناطق، منها جورة الشياح والخالدية وواجهة حي القصور ومدينة القصير في محافظة حمص".
وقال وزير الأشغال العامة والإسكان في حكومة النظام، سهيل عبد اللطيف، في تصريحات صحافية، إن "إعداد المخططات التنظيمية يعني البدء بخطوات في مرحلة إعادة الإعمار"، لكنه اعتبر أن "منح التعويضات للمواطنين عن الأضرار التي لحقت بهم في المقاسم التجارية والاستثمارية والسياحية والسكنية، مرتبطٌ بدراسة المخططات بالشكل الأمثل، لجهة العائد الاستثماري والتجاري لهذه المناطق والمشاريع الاستثمارية المزمع تشميلها ضمن خطة إعادة الإعمار". ويوحي تصريح عبد اللطيف بأن حكومة النظام لن تقدم تعويضات للمواطنين لإعادة إعمار ممتلكاتهم المدمرة، بل تنتظر الحصول على استثمارات خارجية للبدء بإعادة الإعمار.
وعلى الرغم من أن هذا الإعلان يأتي في ظاهره كخطوةٍ أولى باتجاه إعادة الإعمار وعودة النازحين من هذه المناطق إلى منازلهم، إلا أن تخوف هؤلاء النازحين لا يزال طاغياً، لا سيما لجهة محاولة النظام الاستيلاء على أملاكهم من خلال المراسيم والقوانين لإحداث عملية تغيير ديمغرافي، لا سيما في دمشق وحمص، وبإشرافٍ إيراني.
وللنظام سابقةٌ في هذا الإطار، عندما أصدر القانون رقم 10 للعام 2018، الذي صدر عقب عملية تهجير سكان الغوطة الشرقية باتجاه الشمال السوري، والقاضي بإحداث مناطق تنظيمية جديدة، وضرورة تثبيت النازحين واللاجئين لملكية عقاراتهم خلال مدة 30 يوماً، الأمر الذي كان يستحيل تطبيقه من قبل اللاجئين أو النازحين على حدٍّ سواء. فإذا كان من الصعب على اللاجئ العودة من بلد اللجوء للقيام بعملية تثبيت الملكية، فإن جزءاً من النازحين هم من المطلوبين على قوائم النظام للأفرع الأمنية، وعودتهم تعني تسليم أنفسهم للزج بهم داخل السجون والمعتقلات.
وعلى الرغم من الضغوط الأوروبية، لا سيما الألمانية، لجهة إلغاء القانون، وصدور تعديلات عليه، وإعلان روسيا في ما بعد أن النظام ألغاه أو أوقف العمل به على الأقل، إلا أن الأخير أعلن تمديد الفترة لمدة عام واحد، لكنه باشر العمل به في الغوطة الشرقية التي نزح عنها معظم سكانها. ويأتي القانون رقم 10 مُكمّلاً للمرسوم رقم 66 للعام 2012، الذي يعتبره حقوقيون سوريون أنه يحمل المهمة ذاتها للقانون 10 في الاستحواذ على أملاك السوريين وتوطين غيرهم فيها، لا سيما بعد دخول آلاف المقاتلين الشيعة مع عائلاتهم إلى سورية بطلبٍ من النظام، وإشرافٍ مباشر من إيران.
ويتهم سوريون، وحقوقيون منهم على وجه الخصوص، النظام بالسعي لإحداث تغيير ديمغرافي ضمن المناطق الثائرة عليه، بتوطين مقاتلين شيعة من جنسيات مختلفة مع عائلاتهم، ويستدلون على ذلك بقيام النظام بحملات تهجير قسري، ولا سيما من محيط العاصمة دمشق التي يعتبرها النظام مجالاً حيوياً لحمايته، بالإضافة إلى محافظات حمص ودير الزور وبعض أحياء حلب، التي بات انتشار المليشيات الشيعية فيها واضحاً، مع تدخل ثقافي وديني لتغيير هوية تلك المناطق.
وتعليقاً على هذا الإعلان، استطلعت "العربي الجديد" آراء محامين سوريين ناشطين في "رابطة المحامين السوريين الأحرار" التي تعنى بمتابعة الجوانب القانونية والحقوقية للقضية السورية وتوثيق انتهاكات النظام السوري بحق السوريين وأملاكهم الخاصة، والأملاك العامة. وفي هذا الإطار، أشار المحامي والناشط الحقوقي سامر الضيعي، وهو المدير التنفيذي للرابطة، إلى أن "التعليل الوارد في الإعلان عن المخططات التنظيمية في بعض الأحياء المدمرة والخالية من أهلها، على أنه خطوة تُمهد لعودة النازحين من أهالي هذه المناطق إليها، غير صحيح بالمطلق"، معتبراً أن الإعلان عن المخطط التنظيمي الجديد، "ليس سوى الخطوة الأولى لتطبيق القانون رقم 10 سيئ الذكر". وأوضح الضيعي أن "المرسوم اشترط أن يقوم أصحاب الحقوق العقارية في المنطقة التي يصدر فيها مخطط تنظيمي جديد، بتسجيل تلك الحقوق أو الإعلان عنها خلال سنة واحدة (تبدأ من تاريخ نشر المخطط الجديد)، وذلك ليتم استبدال ملكيتهم بأسهمٍ في العقارات التي ستتم إشادتها، بدون تحديد نوع تلك الأسهم أو مقدارها، وترك المشرّع ذلك مفتوحاً بيد الجهة التنفيذية التي ستقوم بالتخطيط ووفق نوع الأبنية التي سيتم إنشاؤها بدل الأبنية القديمة التي كانت موجودة في المنطقة المستهدفة، الأمر الذي عارضه أغلب الحقوقيين بسبب مغادرة ثلث السوريين لبلادهم، ما يجعل من مراجعتهم للدوائر واستخراج الثبوتيات وصكوك الملكية أمراً صعباً، خصوصاً مع وجود لوائح أمنيّة تضم مئات آلاف المطلوبين لفروع الأمن السورية".
ورأى الضيعي أن اجتماع حكومة النظام لإقرار تلك المخططات، والذي ركّز "على ضرورة توافق هذه المخططات مع الخصوصية التي تتمتع بها هذه المناطق من النواحي العمرانية والبيئية والزراعية والسياحية، بما يعوض على الأهالي الأضرار التي أصابت ممتلكاتهم من خلال مراعاة البعد الاقتصادي والاجتماعي"، يأتي ضمن "التصريحات الإعلامية الفارغة من أي مضمون قانوني واقعي". وعلل الناشط الحقوقي ذلك، شارحاً أن "القانون رقم 10 أكد أن المخطط التنظيمي الجديد سيغير من معالم المنطقة المستهدفة تماماً، بحيث لن يستطيع مالكو العقارات في المنطقة – أو بالأدق من استطاع منهم تسجيل حقّه خلال مهلة العام الواحد - العودة إلى ملكياتهم السابقة، كونها ستستبدل بأسهم في الأبنية الجديدة دون تحديد ماهية تلك الأسهم على وجه الدقة". ما يعني أن "المخططات التنظيمية الجديدة هي التي ستحدد نوع العقارات الجديدة ومساحاتها وصفاتها بشكل عام، ولن تنفع حينها التصريحات الإعلامية، أو تطمينات النظام بعد أن يتم تنفيذ المخطط على أرض الواقع".
واستكمالاً لهذه الجزئية، شدد الضيعي على ضرورة الإشارة إلى أن الأحياء التي ذكرت في الإعلان، "جميعها خاليةٌ تماماً من أهلها، الذين تمّ تهجيرهم قسراً من قبل النظام والمليشيات الداعمة له، ومُنعوا من العودة لسنوات". مثال فاضح على هذا التهجير القسري، كما قال، "الحال في مدينة القصير بريف حمص التي تمّت السيطرة عليها قبل ست سنوات، ولم يوافق النظام السوري أو حزب الله اللبناني على عودة أهاليها إليها طوال السنوات الماضية"، معتبراً أن ذلك "يؤكد زيف ادعاءات النظام لجهة إعادة أهالي تلك المناطق أو تعويضهم، علماً أنه هو الذي قام بتدمير تلك الأحياء، وبتهجير أهلها، فكيف سيقوم هو بإعادتهم إليها وإعادة إعمارها". وحول ترويج النظام بأن الإعلان يأتي كبدايةٍ لمرحلة إعادة الإعمار، وصف الضيعي هذه الفرضية بـ"المضحكة"، كونها "تصدر من حكومة مُفلسة، تنتظر تبرعات وهبات خارجية كي تبدأ بإعادة الإعمار، وبالتالي لا تملك أصلاً حق إصدار مثل هذا القرار من الناحيتين السياسية واللوجستية، وإلا لكانت بدأت بها دون انتظار أحد". ويتبادر إلى ذهن الناشط الحقوقي هنا "عشرات التصريحات السياسية الروسية التي تحدثت عن ضرورة البدء بإعادة الإعمار، وهو ما رفضه الاتحاد الأوروبي مراراً، مشترطاً البدء بخطوات الانتقال السياسي بشكل حقيقي ملموس".
من جهته، رأى المحامي رامي عساف، العضو في "رابطة المحامين السوريين الأحرار"، أنه "لا بد من تسليط الضوء على تطبيق النظام السوري سياسة التغيير الديمغرافي على الأرض داخل العديد من المناطق التي خرجت عن سيطرته وقاتلته لسنوات، حيث لا يزال ينفذ بحق أهلها سياسة العقاب الجماعي، خصوصاً في المنطقة المحيطة بالعاصمة دمشق، مثل مدينة داريا وحي جوبر، اللذين تمّ تهجير أهلهما بالكامل، ودون أي أملٍ بعودتهم الى المنطقتين". ويفتح ذلك الباب أمام النظام لـ"تغيير الواقع العقاري في هاتين المنطقتين، وهدم ما يشاء من الأبنية وفتح الطرق ومصادرة الأراضي، والسماح لطوائف معينة بسكنها، دون معرفة أهلها بما حلّ بممتلكاتهم".
وأشار عساف إلى أنه "من الناحية التقنية، يجب الحديث عن صعوبة قدرة مالكي العقارات في بعض المناطق السورية على إثبات ملكيتهم، بسبب تدمير دوائر السجل لعقاري أو ملفات ووثائق الكاتب بالعدل أو المحاكم، وجميع الدوائر المذكورة تتضمن ورقيات ومستندات رسمية تثبت ملكيات أصحاب العقارات، وبالتالي لا يمكن لهم إثبات ملكياتهم دون وجود النسخ الأساسية لتلك الوثائق". وأعطى مثالاً "تدمير دوائر السجل العقاري في محافظتي حمص ودير الزور عام 2012 بشكل مقصود من قبل سلاح الجو التابع للنظام السوري، إضافة إلى استهداف العديد من المحاكم وحرقها، وكذلك دوائر الكاتب بالعدل في أحياء دمشق الجنوبية ودير الزور، ما يعني استحالة إثبات أي ملكيات في هذه المناطق إلا بأوراق قديمة تسبق الحرب الدائرة في سورية، إضافة إلى مخاطر التزوير الذي انتشر بشكل كبير جداً طيلة السنوات الماضية، ما يزيد هذا الجانب تعقيداً".
ولفت عساف إلى أن "النظام السوري أصدر القانون رقم 3 لعام 2018 قبل إصدار القانون رقم 10، حيث تخصص القانون الأول بإزالة الأنقاض للأبنية المدمرة نتيجة الكوارث الطبيعية وشرح كيفية اقتسام الأنقاض بين الجيران، سواء كانوا يسكنون في بناء متعدد الطبقات أو في أبنية متجاورة، حيث يتم جمع مالكي العقارات في كل منطقة بإشراف مجالس المدن والبلدات، وتثبيت حقوق المالكين منهم في كل منطقة مدمرة على الواقع، ومعرفة الموجودين والمغادرين منهم، بغية إجراء إحصاءٍ للعقارات المدمرة وللمالكين الموجودين على حد سواء".
وأوضح عساف أنهم في "الرابطة" يعتقدون أن "المشرّع السوري لم يعد يُنظر إليه بمبدأ حسن النية، بعد كل ما ارتكبه النظام طوال سنوات الحرب الماضية من جرائم وتجاوزات". كذلك فإن السوريين "لم يعودوا يصدقون أن هذا النظام يمكن أن يصدر مخططاً تنظيمياً بغية تنظيم مناطق المخالفات أو السكن العشوائي، وهو نفسه الذي تسبب بتدميرها خلال سنوات النزاع، كما تسبب بتعقيد القوانين العقارية طيلة 50 عاماً من حكم سورية بدون تطويرٍ حقيقي للبنى العقارية أو للقوانين الناظمة لها، الأمر الذي تسبب بخنق المدن السورية وإحاطتها بأطواق من العشوائيات المليئة بالمخالفات العقارية والمسكونة من قبل موالين للنظام، بحيث لم تتمكن أي من الجهات الإدارية في سورية من تصحيح أو حتى العمل على تصحيح الوضع القائم فيها".
وختم عساف بالإشارة إلى أن مجرد ورود عبارة "إعلان المخططات التنظيمية السكنية" ضمن إقرار الحكومة، هو "خطأ قانوني كبير، إذ لا توجد في القوانين السورية مخططات تنظيمية خاصة بالسكن وأخرى غير خاصة بالسكن". فالمخطط التنظيمي، بحسب رؤيته، "هو مخطط عقاري عام، يشمل جميع المرافق العامة والخاصة في المنطقة، إضافة إلى جميع المساكن في المنطقة والمحال والأبنية التجارية، وجميع أنواع العقارات في المنطقة المراد تنظيمها، بما فيها عقارات الأوقاف ودور العبادة والأملاك العامة، وغالباً ما يشمل منطقةً تضم أكثر من حي واحد تتم إعادة إعمارها وفق أسس حديثة مهما كانت طبيعتها القديمة التي ستزول بالبدء في تنفيذ المخطط التنظيمي الجديد".