بعد سنوات من الترقب على أمل العودة إلى بيوتهم وحاراتهم، صُدم أهالي مخيم اليرموك جنوبي العاصمة السورية أخيراً، بصدور مخطط تنظيمي عن محافظة دمشق، يغيّر ملامح المخيم للاجئين الفلسطينيين في سورية، ويحرم نسبة كبيرة من سكانه من العودة إليه، إذ لن تتم إعادة إعمار بيوتهم وممتلكاتهم بحجة أنها مهدمة كلياً، وسيعاد تنظيم المنطقة من دون النظر إلى طبيعة الملكيات السابقة.
وأصدرت المحافظة المخطط الجديد في 25 يونيو/حزيران الماضي، لمنطقتي مخيم اليرموك والقابون، وأعطت مهلة لسكان المخيم من اللاجئين الفلسطينيين والمواطنين السوريين للاعتراض على القرار، وهو الأمر الذي تم بالفعل من جانب المئات منهم، على أمل النجاح في إيقافه، لكن الكثير من المتابعين استبعد ذلك، لكون لجنة تلقي الاعتراضات مكونة في غالبيتها من مندوبين عن سلطات النظام السوري المختلفة، مقابل مندوب واحد عن الأهالي.
وقد عبّر سياسيون ومثقفون وناشطون فلسطينيون وسوريون عن رفضهم لما اعتبروه محاولات من النظام السوري لتغيير هوية مخيم اليرموك الذي يوصف بأنه عاصمة الشتات الفلسطيني، باعتباره أكبر تجمع للفلسطينيين خارج دولتهم، ويحمل رمزية كبيرة في النضال، إذ خرج من أزقته معظم قادة العمل الوطني الفلسطيني. وقال بيان تمّ تناقله باسم هؤلاء على مواقع التواصل الاجتماعي، إنه "منذ قرابة عشر سنوات ومخيم اليرموك يتعرض لعملية شطب مدروسة وممنهجة وفق أدوات وآليات مختلفة تنوعت بين القصف والتجويع والحصار والهدم والتدمير وكذا تهجير سكانه، مروراً بمسرحية تحريره من تنظيم داعش في معركة هزلية دمرت أجزاء ومساحات واسعة من بنيانه".
منذ قرابة عشر سنوات ومخيم اليرموك يتعرض لعملية شطب مدروسة وممنهجة
واعتبر البيان أنّ المخطط التنظيمي لمخيم اليرموك "حلقة مشبوهة في سلسلة شطب المخيم بكل رمزيته ومدلولاته الوطنية في الوعي والوجدان الجمعي لشعبنا الفلسطيني"، مضيفاً: " يأتي هذا المخطط لينهي ما تبقى من المخيّم ويحوّله إلى حي من أحياء دمشق بعد تغيير ملامحه وشطب 50 في المائة من جغرافيته المعروفة والثابتة منذ آخر مخطط في العام 2004".
بدوره، طالب تجمّع "المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج" في بيان نشره الاثنين الماضي، بالحفاظ على ما تبقى من مخيم اليرموك، ووقف المخطط التنظيمي الجديد الذي اعتبر أنه "يهدد بإنهاء عاصمة الشتات الفلسطيني وحق العودة لأكثر من 200 ألف لاجئ فلسطيني من سكان اليرموك".
من جهته، دعا رئيس الدائرة الإعلامية في حركة "حماس" في منطقة الخارج، رأفت مرة، إلى إعادة إعمار مخيم اليرموك وعودة أهله إليه، وتثبيت اللاجئين في المخيم وفي أماكنهم وممتلكاتهم القديمة التي كانوا يشغلونها. وتعقيباً على المخطط الجديد، رفض مرة أي محاولة لتغيير طابع مخيم اليرموك، أو إجراء تغيير في ملكية الأهالي، أو نقلهم إلى أماكن أخرى.
كذلك، اعتبر "المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية" هذه الخطوة "محاولة لطيّ صفحات كاملة من جرائم النظام السابقة، وتغييراً ديمغرافياً بعد جريمة التهجير القسري، ومحاولة من المجرمين لقطع الطريق نهائياً على إعادة الحقوق للضحايا في المستقبل بتمكين آخرين من الاستفادة من الملكيات بعد تغيير ماهية وحدود العقارات والملكيات". ورأى المركز أنّ "محاولة النظام إغلاق باب إمكانية عودة اللاجئين إلى بيوتهم، هي جزء من حربه عليهم لتدمير أي أمل لديهم في إمكانية تحقيق العدالة".
وفي السياق ذاته، أطلق محامون فلسطينيون وسوريون مبادرة للدفاع عن حقوق أهالي مخيم اليرموك، بعد المخطط التنظيمي الذي وصفوه بـ"المجحف بحق أهالي المخيم". ونقلت "مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية"، عن محامين قولهم إنهم سيتقدمون بدعوى أمام القضاء بصفتهم الشخصية بخصوص أملاكهم وأملاك أهالي المخيم المتضررين من قرار المحافظة. وطلب المحامون من أهالي المخيم التوجه إلى القصر العدلي، لتوكيل محامين بصفتهم الشخصية لتمثيلهم أمام القضاء. إلا أنّ "مجموعة العمل" قالت إنّ آخرين يرون أنّ "مثل هذه الدعاوى لا قيمة لها أمام القضاء السوري الذي يفتقد النزاهة والاستقلالية".
ولم يشذّ عن هذا الإجماع الفلسطيني بشأن التحذير من خطر شطب المخيم، إلا صوت المسؤول الأمني والعسكري في "الجبهة الشعبية – القيادة العامة"، خالد جبريل، الذي حمّل مسؤولية ضياع المخيم لسكانه بسبب عدم وقوفهم إلى جانب قوات النظام حسب تعبيره. وقال جبريل خلال تسجيل صوتي تم تداوله عبر مواقع التواصل إنّ "من باع مخيم اليرموك ليست محافظة دمشق، بل أهالي المخيم ومن هاجر إلى أوروبا".
الجدير بالذكر أنّ فصيل "الجبهة الشعبية- القيادة العامة" الذي يرأسه أحمد جبريل، والد خالد، كان له دور بارز في محاصرة المخيم وقصفه إلى جانب قوات النظام السوري خلال السنوات الماضية.
"المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية": المخطط التنظيمي محاولة لطيّ صفحات كاملة من جرائم النظام السابقة
محنة المخيم
يعتبر مخيم اليرموك أكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين في سورية، ويقع داخل الحدود الإدارية لمدينة دمشق. كان يضم نحو 160 ألف لاجئ مسجّل لدى "وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، حتى تاريخ ما قبل اندلاع الثورة في سورية عام 2011، وهو ما يعادل نحو 40 في المائة من اللاجئين الفلسطينيين في البلاد، إضافة إلى عشرات الآلاف من المواطنين السوريين.
تأسس المخيّم عام 1957 على مساحة 2,1 كيلومتر مربع، وشهد مع مرور الزمن تطوراً وازدهاراً عمرانياً وتجارياً جعلاه مركز استقطاب سكني وتجاري. وضمّ مخيم اليرموك الذي لا يُصنّف كمخيم رسمي لدى وكالة "أونروا"، العديد من المراكز والمنشآت الصحية والتعليمة والمهنية التابعة للوكالة.
وبعد انطلاق الثورة السورية في مارس/آذار عام 2011، تمّ استدراج المخيم إلى المواجهات بين النظام والمعارضة أواخر العام 2012، بعد أن ظلّ خلال الفترة السابقة مقصداً للكثير من النازحين من المناطق المجاورة جراء المعارك فيها. لكن النقطة الأبرز في تاريخ محنة المخيم كانت في تاريخ 16 ديسمبر/كانون الأول 2012، حين قصفت طائرة تابعة للنظام السوري مسجد عبد القادر الحسيني ومدرسة الفالوجة وسط المخيم، ما أسفر عن مجزرة راح ضحيتها 150 مدنياَ بين قتيل وجريح، ليشهد المخيم على أثر ذلك أكبر موجة نزوح للأهالي، ترافقت مع انتشار شائعات تفيد بعزم قوات النظام على اقتحام المخيّم، ليخرج على أثر ذلك أيضاً الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين والمواطنين السوريين، ولكن بقي داخله آلاف آخرون.
ومع بداية عام 2013، بدأ النظام يضيّق على المتبقين من خلال فرض حصار جزئي في البداية، عبر تقنين إدخال المواد الغذائية والطبية والصحية، إضافة إلى عمليات التفتيش الدقيقة والتحكم في الدخول والخروج من وإلى المخيم، إلى جانب عمليات الاعتقال العشوائية التي طاولت المئات. ثمّ انتقل النظام إلى الحصار الكلي للمخيم، مع قطع سبل الحياة عنه من ماء وكهرباء ومواد غذائية وطبية، ما أدى إلى وفاة نحو 200 شخص من الجوع والمرض.
الخطوة التالية التي أعدّها النظام لتصفية المخيم، كما يقول مراقبون، هي تمكين عناصر تنظيم "داعش" من الوصول إليه والسيطرة على معظم مساحته مع حلول ربيع 2015، وسط تساؤلات حول كيفية وصول عناصر التنظيم إلى هذه البقعة المحاصرة؟ ونتج من احتلال "داعش" للمخيّم نزوح آلاف السكان إلى بلدات يلدا وببيلا وبيت سحم المجاورة، ولم يتبق في المخيّم سوى بضع مئات من العائلات، قبل أن يبدأ النظام السوري عملية عسكرية واسعة بدعم جوي روسي في ربيع 2018 اشتملت على قصف جوي ومدفعي وصاروخي مكثف، استمرت لنحو شهرين، من دون مبرر عسكري كما يرى مراقبون، إذ كان الهدف تدمير المخيم بحجة محاربة "داعش"، ويدللون على ذلك بالقول إنّ عناصر التنظيم كانوا محدودي العدد والتسليح، ولم تكن قوات النظام عاجزة عن اجتياح المنطقة العسكرية من دون تدميرها بشكل شبه كلي. وأدّت هذه الحملة إلى تدمير نحو 80 في المائة من مباني المخيم وبناه التحتية، بينما خرج معظم عناصر "داعش" سالمين، إذ نقلهم النظام بالحافلات إلى بادية السويداء.
وتلا ذلك فصل آخر من التدمير والقهر لسكان مخيّم اليرموك، عبر قوات النظام ومليشياتها، من خلال عمليات سلب منظمة أو ما يعرف بـ"التعفيش" لممتلكات الأهالي علناً وبشكل مصوّر، طاولت حتى شبكات المياه والصرف الصحي والتمديدات الكهربائية في المنازل، واستمرت هذه العمليات لفترة طويلة، في رسالة فسرها الأهالي على أنها متمّمة لرسالة تدمير المخيم، ومفادها بأنّ عليهم أن ينسوا أمر العودة لهذا المكان.
وكانت هذه الرسالة واضحة حتى قبل الوصول إلى هذه المرحلة، إذ غادر قرابة نصف سكان المخيم سورية في السنوات السابقة، ليستقر بهم الحال في بلدان أوروبية شتى، أو في بلدان الجوار، بينما يعيش النصف الآخر حالة نزوح داخلي مزرية على أطراف العاصمة على أمل العودة إلى بيوتهم يوما ماً.
تبديد حلم العودة
غير أنّ المخطط التنظيمي الأخير، يبدو أنه قضى على أحلام العودة، إذ يتضمّن "إعادة تنظيم شاملة للمنطقة الأكثر تضرراً" وتقدّر بنحو 60 في المائة من مساحة المخيم، إضافة إلى تخديم المناطق الأقل ضرراً بما يسهم في إعادة نحو 40 في المائة من الأهالي فقط.
وتتضمّن إعادة الإعمار تشييد أبراج بارتفاع 13 طابقاً، إضافة إلى كتل سكنية من أبنية بطوابق عدة من دون أن يمنح سكان المنطقة المشمولة في التنظيم بدائل سكنية، إنما نالوا أسهما تنظيمية وفق المرسوم التشريعي رقم 2 لعام 1982، حسبما أعلن مدير الدراسات الفنية في محافظة دمشق معمر دكاك، خلال جلسة لمجلس المحافظة في 7 يوليو/تموز الماضي، بحجة أنّ الأرض، من الناحية القانونية، مِلك لمؤسسة اللاجئين الفلسطينيين، والأهالي لا يمتلكون فيها سوى البناء فقط. أما العقارات التي بنيت في المخيّم فبشكل مخالف، وفي حال تهدمها، لن يسمح ببنائها، وسيطبق عليها التنظيم.
المخطط الجديد يحرم أكثر من نصف سكان المخيم من أملاكهم العقارية
في السياق، أعرب منسق "تجمع مصير" الفلسطيني السوري، المحامي أيمن أبو هاشم، في تصريح لـ"العربي الجديد"، عن اعتقاده بأنّ المخطط الذي أصدره النظام يستهدف "تغيير الهوية الديمغرافية للمخيم". ورفض أبو هاشم ما يسوقه النظام من حجج بشأن حقوق الملكية في المخيم، موضحاً أنّ قسماً من المخيم كان مملوكاً لقيود "الهيئة العامة لمؤسسة اللاجئين الفلسطينيين"، باعتبارها هي الجهة الحكومية المستأجرة لمدة 99 عاماً لأرض المخيم من الدولة السورية، إلى جانب ملكيات أخرى لمناطق توسع المخيم من الجهات الغربية والجنوبية، من بينها الملكيات المسجلة لدى الكاتب بالعدل، وعقارات حكم قضائي، وغيرها. وأكد أنّ المخطط الجديد يحرم أكثر من نصف سكان المخيم من أملاكهم العقارية، وكذلك لا يضمن حقوق القسم الآخر، لأنّ القانون رقم 10 الصادر عن النظام عام 2018، يضع عقبات كثيرة أمام إثبات الملكية.