01 نوفمبر 2024
المسألة الديمقراطية بين الشورى والاستبداد
"وتنام الشعوب ليلها وتصحو نهارها، وهي ترمق حكّامها كما يرمق المحزون القدر الغالب، أو كما يحمل المفجوع المصيبة الفادحة. وقلّما تألفت حكومة ينظر إليها الشعب كما ينظر الإنسان إلى المرآة فيجد صورته، حتى أصبح العامّة يستغربون العدالة ويألفون المظالم".. ليست هذه كلمات أحد منظّري الديمقراطية في الغرب، ولكن هذا بعض مما كتبه الشيخ محمد الغزالي عام 1949 في كتابه "الإسلام والاستبداد السياسي"، يطلق كلماته قويةً قاطعةً لا تحتمل التأويل أو محاولات التمييع والتغرير، ليؤكّد أزمة الحكم الماضية والمستحكمة في بلاد المسلمين، والمتفاقمة في آثارها ونتائجها الخطيرة، التي تركت آثارا سلبية جمّة في الفكر والممارسة على حد سواء؛ فيُحكم الاستبداد قبضته، وتبقى الشعوب تحت طغيانه وسطوته.
اختطّ الشيخ الغزالي موقفه نفسه الذي لا يقلّ جرأةً في هجومه على الاستبداد السياسي، وهؤلاء الذين سوّغوه تحت غطاء الدين، والدين منهم براء، ورؤيته النقدية لتاريخ المسلمين فيما يتعلق بالممارسة الشورية، ولم يتوقف كثيرا عند مماحكاتٍ يحاول بعضهم إثارتها، حتى يجعل من الديمقراطية مناقضة للشريعة وأحكامها. ولكنه انطلق، ومن أقرب طريق، إلى كل ما يتعلق بتوظيف الديمقراطية ومفرداتها ووسائلها وآلياتها، ليؤصّل معانيها الإجرائية، ويتوخّى طبيعتها الوظيفية، لمواجهة أي حالةٍ قد توحي بتسرّب الظاهرة الاستبدادية. وفي الوقت نفسه، لم يركز كثيرا على إيجاد تعريفٍ معيّن لهذا المفهوم، بقدر ما جاء تركيزه منصبّا على المضمون والمحتوى، وكيفية الاستعانة بهذه الآليات والوسائل والمؤسسات في بناء الجوانب العملية للنظام السياسي الإسلامي، وإعمال مفهوم الشورى الإسلامي، تعويضاً عن حالة الجمود الفقهي الذي ساد في العالم الإسلامي منذ قرون، ومواكبة التطورات والحاجات في المجتمع.
والأساس الذي ينطلق منه الغزالي في محاولته اقتباس هذه الآليات والمؤسسات، أن "النظام
السياسي في الدولة الإسلامية يقوم على عددٍ محدودٍ من النصوص والمبادئ، إضافة إلى أنه لا يوجد أي مانع من الاقتباس مما توصل إليه الآخرون من وسائل وآلياتٍ لخدمة المبادئ الإسلامية الثابتة، وضمان الحياة السياسية السليمة، وليس فيها، أي الوسائل والآليات، ما يخالف عقلا أو نقلا"،.. "إن الديمقراطيات الغربية إجمالا وضعت ضوابط محترمةً للحياة السياسية الصحيحة، وينبغي أن ننقل الكثير من هذه الأقطار لنسدّ النقص الناشئ عن جمودنا الفقهي قرونا طويلة"،.. ومن ثم "فما الذي يمنعنا أن ننظر في الوسائل التي اتّخذها غيرُنا لمنع الفساد السياسي أو منع الاعوجاج الاقتصادي، ونقتبس منها ما لم يصادم نصا ولا يندّ عن قاعدة.. وعليه فالذي نراه ممكنا، بل واجبا، هو التوفيق بين مبدأ الشورى عندنا والأنظمة البرلمانية الناضجة عند القوم"، فليس من ميزان العدل الإسلامي "الغضّ من قيمة الثمار التي وصل إليها غيرنا في أفق المصالح المرسلة؟ وما معنى الركون إلى آبائنا وحدهم إذا كانوا قد قصّروا في ناحية فاقهم فيها غيرهم؟".. ولذلك، يرى الغزالي أنه من الضروري الاستفادة من تجربة النظم الديمقراطية في القضاء على الاستبداد السياسي والتخلّص من نظم الحكم الفردي المطلق.
استعرض الغزالي بعد ذلك مفردات المنظومة الديمقراطية، مثل الدستور والمشاركة السياسية والتعدّدية الحزبية والحقوق الإنسانية والمسألة الانتخابية، مؤكّدا على دورها الحاسم في مواجهة الاستبداد والترجمة الفعلية للمسألة الشورية؛ فقد أكد بدايةً على أهمية وجود دستور ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويحدّد اختصاصات الحاكم وسلطاته، وبشكلٍ يضمن عدم تجاوز السلطة الحاكمة حدودها، وعدم اعتدائها على حقوق الأفراد وحرياتهم، ومنع الاستبداد وإساءة استعمال السلطة، إضافة إلى أن مثل هذا الدستور ضروري لضمان المبادئ الإسلامية وتحويلها إلى واقع ملموس، مثل مبدأ الشورى. وفي الوقت نفسه، يرى الغزالي أن وضع الدستور وصياغته لا يعنيان نهاية المطاف، بل من الضرورة توفّر الضمانات التي تكفل تطبيق هذا الدستور على أرض الواقع، ويمنع تحوّله إلى أداةٍ تتحكّم فيها المصالح والأهواء. ويتطرق من بعد إلى قضايا مرتبطة بالمجالس التمثيلية أو البرلمانية. فالمجلس النيابي أو البرلمان، كما يرى الغزالي، يمثل ضمانةً مهمةً لمنع استبداد السلطة الحاكمة، أو السلطة التنفيذية. أما الانتخابات العامة، فتشكل، عند الغزالي، الأداة غير الشريعة الوحيدة لشغل أيٍّ من مناصب الحكم في الدولة، سواء كان ذلك للرئاسة أو المجلس النيابي. وأخيرا، تناول الغزالي قضية الأحزاب السياسية. ويرى ضرورة قيام الأحزاب الفاعلة وتعدّدها، لأن من شأن هذا العمل عدم احتكار جهة واحدة القوة والسلطة. كما يؤكد قيام المعارضة المنظمة من خلال الأحزاب، ويرى أن في ذلك ضمانة مهمة لمنع الاستبداد واستئثار جهة معينة بالسلطة.
أما المشاركة السياسية، فيرى الغزالي أنها تقوم أساسا على اختيار الأمة مَن يحكمونها، ثم حق
الأمة في إبداء رأيها في القضايا والشؤون التي تتعلق بمصالحها؛ وترتبط هذه المشاركة بمبدأ سيادة الأمة. ويربط الغزالي بين المشاركة السياسية ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفيما يتعلق بالتعدّدية السياسية، فقد رأى الغزالي أنها ترتبط بحرية الرأي وحق الاختلاف. وقد تناول مسألة حقوق الإنسان وحرياته؛ وبداية يقرّ بأن ما تضمنته المواثيق العالمية لحقوق الإنسان لا تختلف كثيرا عما جاء به الإسلام من حقوق وحريات للإنسان. ويؤكد الغزالي على ضرورة عدم الاعتداء على حقوق الإنسان، أو وضع العوائق أمامها، باستثناء بعض الضوابط التي تهدف إلى حماية حقوق الآخرين، ويمنع الإنسان من إساءة استخدامها. ويركز الغزالي في معالجته قضية حقوق الإنسان على الحرية، باعتبارها مفتاحا للتمتّع بالحقوق الأخرى.
في قدرة نافذة وبصيرة ثاقبة في النظر إلى جوهر التجربة الديمقراطية الغربية بآلياتها وعمقها وجدواها في مجال الإجراءات لترجمة القيمة إلى فعل سياسي واجتهاد مؤسّسي، اقترن منهج النظر عنده إلى المسألة الديمقراطية بالجمع بين الرؤية المقاصدية والترجمة الوسائلية الإجرائية، إعمالا لحقائق المصالح المعتبرة لتجسيد النموذج الحكمي الشوري الإسلامي، من دون حرج في جلب الوسيلة الناجعة والفعالة والمؤثرة، بلوغا للغاية الشريفة والمقاصد العامة الكلية الحافظة.
إن مناط إعمال قيمة الشورى الحقّة ومواجهة تمرير الاستبداد وتزوير الخيار المتعلق بالأمة، والذي لا يمكن تمكينه ورسوخه "حتى تختفي من بيننا أوهام كثيرة في فهم معنى السلطة، وحتى ترقى أمتنا ماديا ومعنويا، فتكون الدولة في يدها لخير الجماهير لا لإرضاء فرد مغرور.. لقد اختفت تحت أطباق الثرى تقاليد الخلافة الراشدة، وبقيت في العقل الباطن للدهماء تقاليد السلاطين الذين هم ظل الله في الأرض، وفتاوى العلماء الذين تواصوا بقبول الأمر الواقع، أو بالتعبير الفقهي الخضوع لمن نالوا الحكم بالغلبة والقهر". ضمن هذا المنهج في النظر كانت المنظومة الديمقراطية في قمّة اعتباره واهتمامه، طريقا وأسلوبا، يواجه من خلالهما الحالة الاستبدادية.
والأساس الذي ينطلق منه الغزالي في محاولته اقتباس هذه الآليات والمؤسسات، أن "النظام
استعرض الغزالي بعد ذلك مفردات المنظومة الديمقراطية، مثل الدستور والمشاركة السياسية والتعدّدية الحزبية والحقوق الإنسانية والمسألة الانتخابية، مؤكّدا على دورها الحاسم في مواجهة الاستبداد والترجمة الفعلية للمسألة الشورية؛ فقد أكد بدايةً على أهمية وجود دستور ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويحدّد اختصاصات الحاكم وسلطاته، وبشكلٍ يضمن عدم تجاوز السلطة الحاكمة حدودها، وعدم اعتدائها على حقوق الأفراد وحرياتهم، ومنع الاستبداد وإساءة استعمال السلطة، إضافة إلى أن مثل هذا الدستور ضروري لضمان المبادئ الإسلامية وتحويلها إلى واقع ملموس، مثل مبدأ الشورى. وفي الوقت نفسه، يرى الغزالي أن وضع الدستور وصياغته لا يعنيان نهاية المطاف، بل من الضرورة توفّر الضمانات التي تكفل تطبيق هذا الدستور على أرض الواقع، ويمنع تحوّله إلى أداةٍ تتحكّم فيها المصالح والأهواء. ويتطرق من بعد إلى قضايا مرتبطة بالمجالس التمثيلية أو البرلمانية. فالمجلس النيابي أو البرلمان، كما يرى الغزالي، يمثل ضمانةً مهمةً لمنع استبداد السلطة الحاكمة، أو السلطة التنفيذية. أما الانتخابات العامة، فتشكل، عند الغزالي، الأداة غير الشريعة الوحيدة لشغل أيٍّ من مناصب الحكم في الدولة، سواء كان ذلك للرئاسة أو المجلس النيابي. وأخيرا، تناول الغزالي قضية الأحزاب السياسية. ويرى ضرورة قيام الأحزاب الفاعلة وتعدّدها، لأن من شأن هذا العمل عدم احتكار جهة واحدة القوة والسلطة. كما يؤكد قيام المعارضة المنظمة من خلال الأحزاب، ويرى أن في ذلك ضمانة مهمة لمنع الاستبداد واستئثار جهة معينة بالسلطة.
أما المشاركة السياسية، فيرى الغزالي أنها تقوم أساسا على اختيار الأمة مَن يحكمونها، ثم حق
في قدرة نافذة وبصيرة ثاقبة في النظر إلى جوهر التجربة الديمقراطية الغربية بآلياتها وعمقها وجدواها في مجال الإجراءات لترجمة القيمة إلى فعل سياسي واجتهاد مؤسّسي، اقترن منهج النظر عنده إلى المسألة الديمقراطية بالجمع بين الرؤية المقاصدية والترجمة الوسائلية الإجرائية، إعمالا لحقائق المصالح المعتبرة لتجسيد النموذج الحكمي الشوري الإسلامي، من دون حرج في جلب الوسيلة الناجعة والفعالة والمؤثرة، بلوغا للغاية الشريفة والمقاصد العامة الكلية الحافظة.
إن مناط إعمال قيمة الشورى الحقّة ومواجهة تمرير الاستبداد وتزوير الخيار المتعلق بالأمة، والذي لا يمكن تمكينه ورسوخه "حتى تختفي من بيننا أوهام كثيرة في فهم معنى السلطة، وحتى ترقى أمتنا ماديا ومعنويا، فتكون الدولة في يدها لخير الجماهير لا لإرضاء فرد مغرور.. لقد اختفت تحت أطباق الثرى تقاليد الخلافة الراشدة، وبقيت في العقل الباطن للدهماء تقاليد السلاطين الذين هم ظل الله في الأرض، وفتاوى العلماء الذين تواصوا بقبول الأمر الواقع، أو بالتعبير الفقهي الخضوع لمن نالوا الحكم بالغلبة والقهر". ضمن هذا المنهج في النظر كانت المنظومة الديمقراطية في قمّة اعتباره واهتمامه، طريقا وأسلوبا، يواجه من خلالهما الحالة الاستبدادية.