منذ البداية، تأسّس المشروع الاستعماري الصهيوني، ووليدته "إسرائيل"، على الأنشطة الاستيطانية، كمشروع استعماري، إجلائي وإحلالي، يعتمد طرد السكان الأصليين وإحلال المهاجرين اليهود مكانهم، وهذا ما يميّزه عن التجربة الاستعمارية التقليدية، وحتى عن الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر، والهولندي في جنوب أفريقيا، اللذين لم يتأسسا على طرد السكان الأصليين، كما حصل في التجربة الفلسطينية.
ثمة ميزة ثانية للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي وهي أنه لا ينتمي إلى بلد "أمّ" بعينه، كما بالنسبة إلى التجارب الاستيطانية الأخرى، إذ إن اليهود الإسرائيليين يتحدّرون من بلدان متعدّدة، في أوروبا وأسيا وأفريقيا وأميركا.
الميّزة الثالثة، وهي أن العقيدة الاستيطانية الاستعمارية هي جزء مكون، وليس طارئاً، من العقيدة الإسرائيلية، أو من رؤية "إسرائيل"، لذاتها، ورؤية المجتمع الإسرائيلي لذاته، حيث أن هذه الرؤية تحمل بعدا أسطورياً ودينياً وأيديولوجياً، باعتبار فلسطين بمثابة "أرض الميعاد" لليهود.
تبقى الميّزة الرابعة، وهي أن التجارب الاستيطانية المعروفة، في الجزائر وجنوب أفريقيا، كما في كل التجارب الاستعمارية كان الهدف منها اقتصادياً، أي تتوخّى المنفعة الاقتصادية، في حين أن المشروع الصهيوني هو مشروع سياسي وظيفي في أساسه، وإن اكتسب أبعاداً اقتصادية.
هذه مقدمة كان لا بد منها للتوضيح بأن أية تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حتى بالمعنى النسبي، أو المؤقت لا بد أن تعالج قضية الوجود الاستيطاني في الضفة الغربية، معالجة جذرية، إذ من دون ذلك تستحيل إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات تواصل.
لكن الأسئلة المركزية هنا هي: هل تستطيع "إسرائيل" اتخاذ قرار بإنهاء الاستيطان من الضفة الغربية، على نحو ما جرى في شبه جزيرة سيناء أو في قطاع غزة؟ أو هل يمكن إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات تواصل وصاحبة سيادة مع وجود المستوطنات وجمهور المستوطنين؟ وفي حال تعذر هذا وذاك ما مصير خيار الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة والقطاع؟
بديهي أننا سنحاول الإجابة على هذه التساؤلات من قراءة العقل السياسي الإسرائيلي، وليس اعتماداً على التمنيات أو الرغبات، باعتبار أن "إسرائيل" هي العامل المقرر هنا، لأنها هي التي تملك السيطرة والقوة.
وتؤكد التجربة التفاوضية أن "إسرائيل" غير قادرة على الحسم في مسألة الضفة الغربية، فهي غير قادرة على ضمها، وغير قادرة على الانسحاب منها، وطبعا هي غير قادرة على وقف الاستيطان فيها، أي أن القرار الإسرائيلي في هذا الخصوص يعتمد على ترسيخ الأمر الواقع، وهو هنا يتمثل بتعزيز الأنشطة الاستيطانية، وبناء الجدار الفاصل، وإنشاء مزيد من الطرق الالتفافية، والسيطرة على موارد المياه في الضفة، والاحتفاظ بالمرتفعات للأغراض الأمنية، والبقاء على الحدود مع الأردن في الغور وشواطئ البحر الميت.
وقد رأينا أن "إسرائيل" عمدت في اتفاق أوسلو (1993)، رغم كل الإجحافات المتضمنة فيه، على استدعاء بدعة جديدة في التفاوض وهي ترحيل القضايا الأساسية إلى مرحلة تفاوضية أخرى، والاتفاق فقط على إقامة سلطة ذاتية للفلسطينيين، مما أدى إلى تأجيل البت في قضية الاستيطان (مع قضايا: اللاجئين والقدس والحدود والأمن) إلى ما سمي مفاوضات الحل النهائي، التي لم تحصل حتى الآن، الأمر الذي أتاح لها مضاعفة عدد المستوطنين والمستوطنات في الضفة الغربية، في تلك الفترة، تحت هذه الحجة، وهو المطب الذي وقع فيه المفاوض الفلسطيني بسبب تهوره وتسرعه وسذاجته.
وكان الباحث الاستراتيجي، ألوف هارئيفين، قد تحدث عن أهمية الاستيطان بالنسبة إلى "إسرائيل" في بحث له تناول فيه أربعة قرارات حاسمة، ويصعب على "إسرائيل" اتخاذ قرار بشأنها هي: "مستقبل المناطق، ودلالة يهوديتنا، واستقلالنا الاقتصادي، وماهية الإنسان الإسرائيلي في القرن المقبل.
إن القرار الحاسم الصعب الذي يواجه في (إسرائيل) في السنوات المقبلة يتعلق بمستقبل يهودا والسامرة وقطاع غزة، ومستقبل المليون وربع المليون (آنذاك) من العرب الفلسطينيين الذين يعيشون في هذه المناطق تحت الحكم العسكري الإسرائيلي (…) إن الحسم بشأن هذه المناطق (…) يحمل في طياته مسائل مصيرية تتعلق بأمن إسرائيل وهويتها". (إسرائيل نحو العام 2000 على عتبة القرن الواحد والعشرين-إصدار مؤسسة فان لير-القدس 1988).
المعنى من ذلك أن قضية الاستيطان في العقل الإسرائيلي تفتح على قضايا الحدود والأمن وقضية السيادة للفلسطينيين كما تفتح على معنى "إسرائيل" أو هويتها، الأمر الذي يبين مدى التعقيد في هذه المسألة.
مقاربات إسرائيلية
الجانب الآخر الذي ينبغي أخذه في عين الاعتبار هنا هو جمهور المستوطنين في الضفة، الذي يتمتع بامتيازات يريد الحفاظ عليها، ومعه لوبي المستوطنين الذي يضم الإسرائيليين المتدينين والقوميين، الذين يرون أي تنازل في الضفة بمثابة تنازل عن "إسرائيل" وعن أمنها، وعن معنى وجودها كدولة يهودية، أي أن موضوع الاستيطان في مجتمع استيطاني عقائدي ليس موضوعاً خارجياً، بين الدولة المستعمِرة والمجتمع المستعمَر، وإنما هو موضوع إشكالي وصراعي بين الإسرائيليين أنفسهم، وهو يخضع لتجاذباتهم السياسية.
على أية حال فإن مختلف المقاربات الإسرائيلية تجاه مسألة الاستيطان والأراضي الفلسطينية المحتلة، تمحورت حول الحدود الآتية:
1- التمسك بعدم الانسحاب من القدس، أو إعادة تقسيمها، واعتبار القدس الموحدة عاصمة "إسرائيل"، علماً بأن حوالى 50 بالمائة من المستوطنين يتركزون في القدس ومحيطها.
2- رفض الانسحاب من كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة لأغراض الاستيطان والمياه والأمن، وفقط ثمة عروض لانسحاب جزئي من الضفة الغربية.
3- ضرورة إبقاء شكل من أشكال الترابط بين "إسرائيل" والفلسطينيين، سواء بإبقاء الكيان الفلسطيني الناشئ تحت السيادة الإسرائيلية، أو عبر إقامة علاقات فيدرالية أو كونفيدرالية مع هذا الكيان، وكذلك فرض أشكال من العلاقات التي تكرّس تبعية الكيان الفلسطيني لـ"إسرائيل" في مجالات الاقتصاد والبنية التحتية والمياه والطاقة والأمن.
4- أما بالنسبة إلى حلّ الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، وفق خيار التفاوض أو التسوية، الذي تم انتهاجه، طوال عقدين، فلا يبدو أن إسرائيل مستعدّة للاستجابة له، والبديل عن ذلك هو سياسة الأمر الواقع لفرض الأجندة الإسرائيلية، من دون ضم، ومن دون إدخال فلسطينيي الضفة إلى دائرة المواطنة الإسرائيلية.
ويمكن تفسير استمرار هذا الخط، المتعلق بالاستيطان والانسحاب، بثلاثة عوامل خارجية، أولها، يكمن في أن "إسرائيل" ترى بأنها غير ملزمة، في هذه المرحلة، بتقديم "تنازلات" للفلسطينيين، فهي غير متيقّنة من المستقبل بعد الثورات العربية، فضلاً عن أن الوضع العربي منشغل عنها بثوراته واضطراباته، وصراعاته الداخلية، وليس ثمة ما يضغط عليها بهذا الشأن.
وثانيها، أن الفلسطينيين ليسوا في حال حسنة، فهم منقسمون، وليس ثمة في أوضاعهم ما يرشّح التحوّل نحو مقاومة "إسرائيل" وسياساتها. وثالثها، أن الولايات المتحدة مشغولة اليوم في الانتخابات، وفي تطوير أوضاعها الاقتصادية، فضلاً عن انشغالها بجنوب شرق آسيا وبالسياسة الروسية، وبالتحولات الجارية في المنطقة العربية؛ مما يصرفها عن الضغط على "إسرائيل" لإنفاذ عملية التسوية.
ثمة ثلاثة عوامل داخلية، أيضاً، أولها، يتعلّق بتغيّر الوضع على الأرض في الضفة لناحية استشراء الأنشطة الاستيطانية وتزايد نفوذ المستوطنين، ما يصعّب قيام دولة فلسطينية ذات تواصل إقليمي، كما يصعب من إمكان إجلاء المستوطنين من أراضي الضفّة.
وثانيها، يتعلّق بالتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية الحاصلة في "إسرائيل" ذاتها تبعاً لازدياد نفوذ القوى اليمينية والقومية والدينية فيها، الأمر الذي يجعلها في هذه المرحلة أكثر يمينية وعنصرية ودينية واستعمارية من ذي قبل؛ وبديهي أنه في ظلّ إسرائيل كهذه لا يمكن توقّع الذهاب نحو التسوية، ولا نحو تفكيك الاستيطان من الضفة.
أما ثالثها، فيتمثل في تنامي شعور لدى الإسرائيليين بأنهم يعيشون في نمط من الاحتلال المريح، بل والمربح، فليس ثمة ثمن لوجودهم الاستعماري والاستيطاني في الأراضي المحتلة، وحتى أنه لم يعد ثمة احتكاك بينهم وبين الفلسطينيين، بنتيجة بناء الجدار الفاصل والأطواق الأمنية والطرق الالتفافية.
وفوق ذلك فإن الوجود الإسرائيلي في الضفة بات وكأنه بمثابة استثمار مربح، مع استغلال الأراضي والمياه، ومع اعتبار الضفة بمثابة سوق للسلع الإسرائيلية الاستهلاكية والخدمية؛ تقدّر ببضعة مليارات من الدولارات.
"ثنائية قومية"
مع كل ذلك ثمة في "إسرائيل" من يدعو إلى الحذر من الاتكاء على هذا الوضع المخادع، لأنه بمثابة وضع مؤقّت ربما ينفجر في أية لحظة. هكذا يرى البعض بأن الثورات العربية تدقّ جرس الإنذار وتنبّه "إسرائيل" إلى ضرورة استغلال الوضع لفتح صفحة جديدة، تبدأ من إنهاء الاحتلال وحلّ الصراع مع الفلسطينيين.
كما ثمة من يحذّر من المخاطر الناجمة عن استمرار السيطرة بالقوة على الفلسطينيين، باعتبار أن ذلك يمكن أن يؤدي إلى قيام واقع من دولة "ثنائية القومية"، تهدّد الطابع اليهودي للدولة الإسرائيلية.
طبعاً، ثمة وجهات نظر أخرى ترى أن ما يجري في العالم العربي يؤكّد أن "إسرائيل" ليست هي سبب الاضطراب في الشرق الأوسط، وأن العطب في الواقع العربي هو نتاج الواقعين السياسي والاجتماعي، فيه. ووجهة النظر هذه ترى في تفكيك المستوطنات والانسحاب من الأراضي المحتلة إضراراً بمكانة "إسرائيل"، وبصورتها كدولة رادعة، كما أن من شأنه أن يوهن الإجماعات الداخلية فيها.
اللافت أنه في إطار وجهة النظر اليمينية والقومية المتطرفة هذه ثمة من يطرح إمكان البقاء في الضفة الغربية، مع هضم الفلسطينيين فيها، عبر منحهم المواطنة الإسرائيلية في إطار دولة ديمقراطية "ثنائية القومية"، لكن على أساس سيادة طابعها كدولة يهودية، مما يوصم هذه الدعوات بصبغة العنصرية. ويبرز من أصحاب وجهة النظر هذه موشي أرينز (أحد زعماء الليكود ووزير الدفاع سابقاً)، وروبي ريفلين (من زعماء ليكود ورئيس الكنيست حالياً).
وإلى جانب وجهات النظر تلك شهدت "إسرائيل" أخيراً بروز وجهات نظر جديدة تطالب بقيام "إسرائيل" بخطوات أحادية إزاء الفلسطينيين، أي بمعزل عن المفاوضات وعن عملية التسوية، على أساس أن هاتين استهلكتا، وأن الزمن والوقائع والتطورات، ومواقف الطرفين، استنزفتهما.
في كل الأحوال ستبقى المستوطنات، وسيبقى المستوطنون، عقبة كأداء في وجه التسوية، لا سيما بعد أن بات هؤلاء بمثابة قوة مقرّرة في السياسات الإسرائيلية.