المغرب: غاب رجل التوافق
اتّشحت المملكة المغربية بالسواد نهاية الأسبوع الماضي، فقد مات من كان يلقب بالحكيم، مات الرجل الثاني في حكومة عبدالإله بنكيران تحت عجلات قطار في حادثة مفجعة، مات عبد الله باها الذي كان يجلس إلى جانب رئيس الحكومة في قمرة القيادة، في زمن صعب وأوقات حرجة. كانت عين الرجل على المستقبل، وفكره مشغولا بمصالحة الإسلاميين مع خصومهم أولاً، ومع العصر ثانياً، ومع مبادئ الديمقراطية ثالثاً...
الحزن الشديد الذي بدا على قطاعات واسعة من الرأي العام المغربي لم يكن على الرحيل المفاجئ للوزير، والقيادي البارز في حزب العدالة والتنمية. الحزن كان كذلك على ما كان يمثله الرجل من أخلاق سياسية نبيلة، ومن بحث متواصل عن التوافقات الكبرى في زمن الانقسامات، والسعي اليومي إلى مد جسور التواصل بين الإسلاميين الذين يقودون الحكومة وخصومهم المصابين بحساسيات سياسية وأيديولوجية من قوى الإسلام السياسي. وكان الراحل لساناً عفيفاً، لم يسمع أحد منه كلمة سوء، كان عنوانا للإسلام المغربي الوسطي المعتدل.
كنا حول طاولة واحدة في جنازة الراحل أحمد الزايدي في بوزنيقة (قرب الرباط)، وكان يتحدث بطلاقة وعفوية في السياسة والفكر والدين وتقاليد المغاربة وعاداتهم. ومما روى لنا قصة معبرة عن صعوبة التغيير في المجتمعات الاستبدادية، وعن الحاجة للتضحية من أجل إطلاق مسلسل التحول الصعب في مجتمعاتنا. تقول الحكاية، على لسان عبد الله باها، رحمه الله، إن جماعة من الفئران اجتمعوا يوماً للحديث عن محنتهم مع القط الذي يداهمهم، كل مرة، على حين غفلة، فيأكل واحداً أو اثنين، فقال أحدهم إن لديه حلا ناجعا، للتخلص من هجوم القط، سنشتري جرسا ونعلقه في عنقه، وكلما تحرك القط، رن الجرس فيصل إلينا صداه، فيكون إنذارا بضرورة الهروب إلى جحورنا. صفق الجميع للفكرة، أو الحيلة المخلصة من عدوان القط، لكن واحداً منهم نهض، وقال: نعم الفكرة جيدة، لكن من سيعلق الجرس في عنق القط؟ من سيجرؤ على الاقتراب من الخطر؟ هنا ران الصمت على الجميع، وأدركوا أن الأمر يحتاج إلى من يضحّي بنفسه، ويعلق الجرس في عنق القط.
ضحكنا من الحكاية، وأوّلها كل واحد من حول الطاولة بطريقته.. هو ذا عبد الله باها، يتحدث بالرمز، لكن فكره كان واضحاً، وعقله منظماً، والهدف أمامه ظاهرا. كان يقول إن الديمقراطية بلا أخلاق آلة صماء، وإن الدين بلا ديمقراطية استبداد، وإن التغيير عملية كيميائية وليست ميكانيكية، وإن الزمن ضروري لنضج التغيير، كما هو ضروري لنضج الثمار على الأشجار.
كان الحكيم يفهم خصومه قبل أصدقائه، ويحاول أن يستبق ردود فعلهم، وأن يمتص غضبهم، وأن يضع نفسه مكانهم. لهذا تحلى بمرونة كبيرة، وساعد بنكيران على الخروج من ورطات كثيرة وأزمات كبرى، كادت تدفعه إلى الاستقالة من رئاسة الحكومة، بعد أن انقلب الربيع العربي إلى خريف.
سيكتب التاريخ سيرة الرجل، والأدوار التي لعبها في صمت، من وراء الستار، وفي المراحل الأصعب من حياة حزب العدالة والتنمية. وسيكتشف كثيرون قيمة الرجل التي كانت مدفونة تحت غطاء سميك من تواضعه وصمته وبعده عن الأضواء، والزهد الذي عزّ نظيره، اليوم، وسط نخب سياسية، بعضها تعب وتقاعد في بلاط الاستبداد، وبعضها قضى حياته يبشر بالثورة والتغيير، ولما لاحت الفرصة، لم يتعرف عليها، فوقف في المعسكر الآخر، وبعضها تقاضى مقابل التخلي عن شعاراته دراهم معدودات، فباع الجمل بما حمل، وبعضها أعمته الحساسيات الأيديولوجية عن أن يرى المعركة الديمقراطية بوضوح.