12 اغسطس 2018
المقاتلون التونسيون العائدون من سورية
أصبح الإرهاب مشكلة معقدة، وله تداعيات خطيرة على الأمن الإنساني، والأمن الوطني، والتنمية. لذا تعدّدت الاستراتيجيات لمواجهته سواء من الدول الكبرى، أو من الدول العربية التي اكتوت بناره، ومن ضمنها تونس التي سعت إلى مواجهته، ونجحت في الحدّ من خطورته نسبيًا، لكنّه لا يزال يشكل كابوس رعبٍ للمجتمع وللدولة في آن معًا، لا سيما مع عودة المقاتلين التونسيين من سورية.
فبعد هزيمة تنظيم داعش في سورية والعراق، تفاعلت، خلال سنة 2017، قضية ما باتت تعرف بظاهرة عودة الجهاديين من بؤر التوتر، فالتنظيم يملك مخزونًا بشريًا ضخمًا من هؤلاء الإرهابيين، ومن المحتمل بشدة أن تعود من جديد ظاهرة "العائدون". لكن الموجة الجديدة من ظاهرة عودة الإرهابيين المنتمين لتنظيم داعش، ستكون مختلفة عن الموجة الأولى من ظاهرة عودة "الأفغان العرب" الذين شاركوا في القتال مع تنظيمات المجاهدين الأفغان ضد السوفيات في تسعينيات القرن الماضي، حيث الأعداد أكبر، والتركيبة والخصائص مختلفة، والمخاطر أعلى.
أصبحت عودة هؤلاء تشكل معضلة حقيقية بشأن كيفية تعامل الدول العربية مع هذه الموجة الجديدة من الإرهابيين العائدين، لا سيما في ظل التحولات التي شهدتها الظاهرة، وما ستفرزه من تحدياتٍ جديدة على الدول العربية، خصوصًا لعودة الإرهابيين التونسيين الذين جندتهم الجماعات السلفية الجهادية للقتال على الأرض السورية، الأمر الذي أثار تساؤلاتٍ كبيرة حول معنى قدوم شباب تونس إلى هذا البلد العربي، ليلقوا حتفهم في محرقة الموت؟ وما هي القضية التي يدافعون عنها؟
أهم التحولات
يرى الخبراء المتخصصون في الحركات الإرهابية أنّ ظاهرة عودة الإرهابيين من بؤر التوتر تختلف كثيرًا عما كانت في الماضي، لا سيما مع تعدّد التنظيمات الإرهابية المحلية والعابرة
للحدود التي أصبحت قبلة هؤلاء المقاتلين في العالم، لا سيما في العراق وسورية. وقد تطور دور المقاتلين الأجانب، خصوصا في صفوف تنظيم (داعش) الذي صار يعتمد عليهم بشكل كبير، حيث يتميزون بدرجة عالية من الالتزام الفكري والتنظيمي، وكذلك بقدرٍ كبير من الجرأة، خصوصاً في القيام بالعمليات "الانتحارية"، و"الانغماسية"، فضلاً عن تقدم الصفوف في المواجهات المباشرة. وبشكل عام، صارت التنظيمات الجهادية تحرص على ضم مقاتلين أجانب لتحقيق مفهوم الأممية، عبر تعدّد الأجناس والأعراق، إضافة إلى أن هؤلاء سيشكلون مستقبلاً ركيزة دعوية وتنظيمية في بلدانهم.
تفيد التقديرات التي قدمتها السلطات السورية بأنه يوجد في سورية حوالي 130 ألف مسلح، أغلبهم انضموا إلى الجماعات المسلحة الإرهابية (جبهة النصرة، والدولة الإسلامية)، قدموا من 49 بلدا. ويمثل المقاتلون العرب في هذه الحرب قرابة 40 ألف مقاتل، أكثرهم قدموا من السعودية ( 8000) ثم العراق (6000)، تليه تونس (5000) وتليهما ليبيا ومصر بأكثر من أربعة آلاف مقاتل لكل منهما.
وكان لافتاً أن أغلبيّة المقاتلين التونسيين ينتمون إلى مدينة بن قردان (جنوب) على الحدود مع ليبيا. وتعتبر هذه المدينة من محافظة مدنين من أكثر المناطق تصديراً للجهاديين إلى سورية. وهي التي قال عنها زعيم تنظيم القاعدة في العراق سابقاً أبو مصعب الزرقاوي "لو كانت مدينة بن قردان بجانب الفلوجة لتحرّر العراق". لكن مع سقوط النظام التونسي في بداية عام 2011، أصبح السلفيون منتشرين في مناطق عديدة، لا سيما في المحافظات التونسية المهمشّة من الشمال الغربي والوسط، وفي مدينة بنزرت، وفي الأحياء الفقيرة من مدينة تونس العاصمة. وإذا كان الجنوب التونسي أول من بادر إلى الذهاب إلى سورية، كونه يشكل القاعدة التقليدية للإسلاميين، فإن الوسط والشمال لحقا به، لا بل فاقاه حماسة، وها هي مدينة بنزرت في أقصى الشمال تتحول عاصمة لـ "المجاهدين في سورية".
وفي منتصف عام 2016، وصل عدد المقاتلين الأجانب في العراق وسورية، الملتحقين بتنظيم الدولة الإسلامية، العابر للقارات، والذي يتمتع بهيكلية تنظيمية قوية وخبرات عسكرية واسعة، فضلا عن امتلاكه موارد اقتصادية كبيرة، وغيره من التنظيمات الجهادية الأخرى، إلى ما يقرب من 30 ألف مقاتل، نسبة لا بأس بها منهم ينتمون إلى دول عربية، الأمر الذي سيجعل المنطقة العربية بانتظار ما يشبه طوفاناً من العائدين. ينتمي المقاتلون الأجانب المنخرطون في التنظيمات المسلحة إلى نحو 86 دولة من مناطق مختلفة. وإلى تعدّد الجنسيات، تتنوع أيضاً مشاربهم الفقهية والفكرية التي يغذي بعضها بعضاً، فتمتزج معاً، وتشكل منظومةً فكرية جديدة، تتسم غالباً بدرجة أعلى من العنف، وأعمق في التطرّف. يعني ذلك الأمر أن "العائدين الجدد" محملون بأفكار في غاية التطرّف والعنف.
والمعروف تاريخياً أن العائدين من بؤر التوتر يعتنقون عادة الفكر الجهادي التقليدي، لكن نتيجة التشدّد العقائدي الذي تبنته التنظيمات الجديدة، أصبح الفكر التكفيري المسيطر على العناصر المنخرطة فيها. كما أن لبعض تلك العناصر سجلاً جنائياً، يتنوع بين جرائم سرقة، أو تجارة مخدرات، وغيرهما. ووفقاً لدراسةٍ أجراها المكتب الاتحادي لمكافحة الجريمة ومركز المعلومات، المختص بالتصدّي للتطرف في ولاية هيسن الألمانية، العالم أمام شخصيات مقاتلة تجمع بين التشدّد الفكري والسوابق الإجرامية، ما يجعل محاولة تأهيلهم فكرياً أو اجتماعياً في غاية الصعوبة.
خطر على الأمن التونسي
الإطار الذي تحول فيه آلاف الشباب التونسيين إلى سورية والعراق وليبيا معروف، وكذا الكثير عن تلك المقاولة التي انطلقت منذ سنة 2011 لاستقطابهم وتدريبهم وتسفيرهم وتمويل
الجماعات الإرهابية، وزجّهم في أتون الحرب السورية. وقد نشطت دوائر تونسية وجهات حزبية في هذا المجال، واتخذت من المساجد ومن أجواء الانفلات الأمني في البلاد مناخًا وفضاءً لبث سموم التطرّف والإرهاب واستقطاب الآلاف لزّجهم في بؤر التوتر. والآن، يتخوف المجتمع التونسي من الذئاب الشرسة المنفردة التي في وسعها أن ترتكب جرائم إرهابية، كما حصل أخيرا حين أقدم إرهابي تونسي تبنّى الفكر الداعشي المتطرّف منذ ثلاث سنوات على نحر ضابط في وضح النهار أمام مقر مجلس النواب بعد يوم على جريمةٍ في نيويورك. وحسب بيان وزارة الداخلية، اعترف الإرهابي، زياد بن سالم الغربي، بأن لديه قناعة بأن استهداف رجال الأمن نوع من الجهاد باعتبارهم طغاة.
على الرغم من تمدّد تنظيم داعش وانتشاره على نطاق واسع، بشكلٍ لم يصل إليه أي تنظيم إرهابي آخرمن قبل، لا سيما حين أعلن "الخلافة" وتنصيب أبي بكر البغدادي خليفة للدولة الإسلامية المزعومة، وذلك عقب سيطرته على مدينة الموصل في يونيو/ حزيران 2014، الأمر الذي جعل هذا التنظيم الإرهابي محط أنظار المتطرّفين والمتشددين من كل أصقاع المعمورة، نظرًا لقدسية "الخلافة" لهؤلاء، إذ تعد الهدف الأسمى لكل التيارات الجهادية، على الرغم من هذا كله، تؤكد الوقائع الميدانية، في كل من العراق وسورية، أن التنظيم يقترب كل يوم من نهايته، خصوصا بعد سيطرة الجيش السوري، يوم 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، على مدينة دير الزور، آخر معقل رئيسي للتنظيم في سورية. وفي العراق، تمكّنت قوات الجيش من انتزاع السيطرة على آخر بلدة مهمة لتنظيم داعش مدينة القائم على الجانب الآخر من الحدود.
يمكن الحديث عن نهاية هذا التنظيم وتلاشيه، غير أن هذا لا يعني نهاية الفكر التكفيري الداعشي. وسوف يحتاج الأمر بعض الوقت، قبل تجفيف منابع هذا الفكر وإقناع مريديه بأنه لا بديل عن الوسطية والاعتدال والانخراط في العمل السلمي والمشاركة السياسية... وفي الانتظار، يمكن التأكيد أن الفترة هي لذئاب منفردة (خصوصا مع عودة مئات الارهابيين الذين ولغوا في الدم والخراب في العراق وسوريا وليبيا). وبذلك، تصبح هذه الفترة فترة تحرك الذئاب المنفردة الذين يحدّدون بأنفسهم مكان هذا التحرك وزمانه، وهو ما يسبّب صعوبة كبرى في كشف مفعول هذه الأعمال الإرهابية المعزولة وإبطاله، حتى لدى أكبر الدول وأكثرها تطورا. ولدى أكبر أجهزة الاستخبارات عددا وعدّة وتجهيزاتٍ، من قبيل المخابرات الأميركية والبريطانية والفرنسية.
صعوبة تأهيل
دعوة قوى الإسلام السياسي في تونس إلى سَنِّ "قانون التوبة" استئناسًا بالتجربة الجزائرية التي تبنت ميثاق السلم والمصالحة الوطنية لإنهاء حقبة العشرية السوداء في عقد التسعينيات، وراح ضحيتها نحو 200 ألف شخص، تبدو مخطئة، لأن المقارنة لا تَصُّحُ بين البلدين، كما أن هذه المصالحة الجزائرية (قانون الوئام المدني) لم تمنع بعضا منهم اليوم للعودة إلى الجبال والتعرّض للقوات الجزائرية من أجل إقامة "ولاية الجزائر" الداعشية. وحتى "الجماعة الليبية المقاتلة" التي قامت بمراجعاتها باشراف سيف الإسلام القذافي، وأعلنت توبتها، عادت إلى نشاطها الجهادي المسلح، في شكل مليشيات، بعد "ثورة 17 فبراير" في العام 2011، وهي منذ سنوات تحكم القبضة على العاصمة طرابلس.
ويرى الملمون بطبيعة حركات الإسلام السياسي في تونس، الداعية والمدافعة عن هذه "التوبة"،
بوصفها الحل الأمثل لاستيعاب معضلة هؤلاء الإرهابيين التكفيريين الذين تنتظر تونس عودتهم، أن هؤلاء سيشكلون ظهيرًا خفيًّا من أخطر ما يكون داخل البلاد، لا سيما تأثيرها الملحمي غير المباشر على "الإرهابيين النائمين" بين ظهراني الشعب، والذين يمارسون التقية في انتظار دق ساعة الصفر. و"التوبة" في هذه الحالة ليست إلا طقسا للعبور، عبور الذئب والراعي في سُبات إلى كنف الزّريبة، ودونك فإن "التوبة" هي رمي الإرهاب بالغيب.
يختلف الفكر التكفيري السائد في أوساط العائدين كثيراً عن الفكر الجهادي التقليدي الذي اعتنقه العائدون في الماضي، والذي كان يتمتع ببعض المساحات الفكرية التي تسمح بالحوار، مثل وجود العذر بالجهل، ولو نسبيا، وعدم تكفير العوام على الإطلاق، فضلاً عن عدم إباحة دماء المخالفين بصورة مطلقة. أما الفكر الداعشي الذي يعتنقه معظم العائدين، فهو يتميز بالتحجّر الفكري الذي يختلف عن التشدّد الفكري القابل بوجود احتمالية للمرونة، ولو بقدر ضئيل، ما قد يمثل قاعدة أو أرضية للالتقاء أو الحوار. بينما يرى الفكر التكفيري المتحجّر أنه الوحيد الذي يمثل الإسلام، وأن معتنقيه فقط هم المسلمون، ومن سواهم كفار. ويفسّر هذا تكفير تنظيم الدولة الإسلامية الجميع، حتى التيارات الإسلامية الجهادية. وهو ما جعل هذا الفكر محل انتقادٍ، حتى من أصحاب الفكر القاعدي المتطرّف، فوصفوه بالتشدد والغلو. ويؤمن أتباع الفكر التكفيري بأن كل من حولهم كفار، مع إجازة التعامل معهم بالتقية، إذا كانوا أقوى منهم، مثل التعامل مع الحكومات والمؤسسات الأمنية، بإظهار التخلي عن المعتقد، أو كما يطلقون عليه "كتم الإيمان"، والتظاهر بقبول أي مراجعات فكرية، أو برامج تأهيلية، وذلك من أجل الحفاظ على النفس من السجن، أو الهلاك، من باب الضرورة، ثم العودة إلى الفكر التكفيري، والإفصاح عنه بمجرد زوال تلك الضرورة. وهذا ما يفسر فشل محاولات عديدة للترشيد الفكري التي ثبت أنها، في الأغلب، لا تكون مجدية، في ظل تلك التقية العقائدية. والحال هذه يصبح القتل عند أصحاب الفكر التكفيري غاية وليس وسيلة، حتى إن إقامة الدول عندهم لا تتحقق إلا بالقتل. فقد أعلن تنظيم داعش صراحة أن دولته باقية، لأنها بنيت بالدماء والأشلاء. لذلك، يسرف معتنقو هذه الأفكار في قتل مخالفيهم، واستخدام الوسائل البشعة، مثل الذبح، وفصل الرقاب، والحرق. ولا يقتصر هذا على فئاتٍ بعينها، أو من يقاتلونهم فقط، بل يسري على الجميع، حتى المدنيين، وكل من كان في استهدافه مصلحة للإسلام.
أخيراً، يجب اعتبار هؤلاء الإرهابيين العائدين إلى تونس مجرمين ارتكبوا جرائم ضد شعوب عربية شقيقة، ما يتطلب أساسًا تنظيم محاكمتهم بوصفهم كذلك، وتطبيق قانون مكافحة الإرهاب ضدهم.
فبعد هزيمة تنظيم داعش في سورية والعراق، تفاعلت، خلال سنة 2017، قضية ما باتت تعرف بظاهرة عودة الجهاديين من بؤر التوتر، فالتنظيم يملك مخزونًا بشريًا ضخمًا من هؤلاء الإرهابيين، ومن المحتمل بشدة أن تعود من جديد ظاهرة "العائدون". لكن الموجة الجديدة من ظاهرة عودة الإرهابيين المنتمين لتنظيم داعش، ستكون مختلفة عن الموجة الأولى من ظاهرة عودة "الأفغان العرب" الذين شاركوا في القتال مع تنظيمات المجاهدين الأفغان ضد السوفيات في تسعينيات القرن الماضي، حيث الأعداد أكبر، والتركيبة والخصائص مختلفة، والمخاطر أعلى.
أصبحت عودة هؤلاء تشكل معضلة حقيقية بشأن كيفية تعامل الدول العربية مع هذه الموجة الجديدة من الإرهابيين العائدين، لا سيما في ظل التحولات التي شهدتها الظاهرة، وما ستفرزه من تحدياتٍ جديدة على الدول العربية، خصوصًا لعودة الإرهابيين التونسيين الذين جندتهم الجماعات السلفية الجهادية للقتال على الأرض السورية، الأمر الذي أثار تساؤلاتٍ كبيرة حول معنى قدوم شباب تونس إلى هذا البلد العربي، ليلقوا حتفهم في محرقة الموت؟ وما هي القضية التي يدافعون عنها؟
أهم التحولات
يرى الخبراء المتخصصون في الحركات الإرهابية أنّ ظاهرة عودة الإرهابيين من بؤر التوتر تختلف كثيرًا عما كانت في الماضي، لا سيما مع تعدّد التنظيمات الإرهابية المحلية والعابرة
تفيد التقديرات التي قدمتها السلطات السورية بأنه يوجد في سورية حوالي 130 ألف مسلح، أغلبهم انضموا إلى الجماعات المسلحة الإرهابية (جبهة النصرة، والدولة الإسلامية)، قدموا من 49 بلدا. ويمثل المقاتلون العرب في هذه الحرب قرابة 40 ألف مقاتل، أكثرهم قدموا من السعودية ( 8000) ثم العراق (6000)، تليه تونس (5000) وتليهما ليبيا ومصر بأكثر من أربعة آلاف مقاتل لكل منهما.
وكان لافتاً أن أغلبيّة المقاتلين التونسيين ينتمون إلى مدينة بن قردان (جنوب) على الحدود مع ليبيا. وتعتبر هذه المدينة من محافظة مدنين من أكثر المناطق تصديراً للجهاديين إلى سورية. وهي التي قال عنها زعيم تنظيم القاعدة في العراق سابقاً أبو مصعب الزرقاوي "لو كانت مدينة بن قردان بجانب الفلوجة لتحرّر العراق". لكن مع سقوط النظام التونسي في بداية عام 2011، أصبح السلفيون منتشرين في مناطق عديدة، لا سيما في المحافظات التونسية المهمشّة من الشمال الغربي والوسط، وفي مدينة بنزرت، وفي الأحياء الفقيرة من مدينة تونس العاصمة. وإذا كان الجنوب التونسي أول من بادر إلى الذهاب إلى سورية، كونه يشكل القاعدة التقليدية للإسلاميين، فإن الوسط والشمال لحقا به، لا بل فاقاه حماسة، وها هي مدينة بنزرت في أقصى الشمال تتحول عاصمة لـ "المجاهدين في سورية".
وفي منتصف عام 2016، وصل عدد المقاتلين الأجانب في العراق وسورية، الملتحقين بتنظيم الدولة الإسلامية، العابر للقارات، والذي يتمتع بهيكلية تنظيمية قوية وخبرات عسكرية واسعة، فضلا عن امتلاكه موارد اقتصادية كبيرة، وغيره من التنظيمات الجهادية الأخرى، إلى ما يقرب من 30 ألف مقاتل، نسبة لا بأس بها منهم ينتمون إلى دول عربية، الأمر الذي سيجعل المنطقة العربية بانتظار ما يشبه طوفاناً من العائدين. ينتمي المقاتلون الأجانب المنخرطون في التنظيمات المسلحة إلى نحو 86 دولة من مناطق مختلفة. وإلى تعدّد الجنسيات، تتنوع أيضاً مشاربهم الفقهية والفكرية التي يغذي بعضها بعضاً، فتمتزج معاً، وتشكل منظومةً فكرية جديدة، تتسم غالباً بدرجة أعلى من العنف، وأعمق في التطرّف. يعني ذلك الأمر أن "العائدين الجدد" محملون بأفكار في غاية التطرّف والعنف.
والمعروف تاريخياً أن العائدين من بؤر التوتر يعتنقون عادة الفكر الجهادي التقليدي، لكن نتيجة التشدّد العقائدي الذي تبنته التنظيمات الجديدة، أصبح الفكر التكفيري المسيطر على العناصر المنخرطة فيها. كما أن لبعض تلك العناصر سجلاً جنائياً، يتنوع بين جرائم سرقة، أو تجارة مخدرات، وغيرهما. ووفقاً لدراسةٍ أجراها المكتب الاتحادي لمكافحة الجريمة ومركز المعلومات، المختص بالتصدّي للتطرف في ولاية هيسن الألمانية، العالم أمام شخصيات مقاتلة تجمع بين التشدّد الفكري والسوابق الإجرامية، ما يجعل محاولة تأهيلهم فكرياً أو اجتماعياً في غاية الصعوبة.
خطر على الأمن التونسي
الإطار الذي تحول فيه آلاف الشباب التونسيين إلى سورية والعراق وليبيا معروف، وكذا الكثير عن تلك المقاولة التي انطلقت منذ سنة 2011 لاستقطابهم وتدريبهم وتسفيرهم وتمويل
على الرغم من تمدّد تنظيم داعش وانتشاره على نطاق واسع، بشكلٍ لم يصل إليه أي تنظيم إرهابي آخرمن قبل، لا سيما حين أعلن "الخلافة" وتنصيب أبي بكر البغدادي خليفة للدولة الإسلامية المزعومة، وذلك عقب سيطرته على مدينة الموصل في يونيو/ حزيران 2014، الأمر الذي جعل هذا التنظيم الإرهابي محط أنظار المتطرّفين والمتشددين من كل أصقاع المعمورة، نظرًا لقدسية "الخلافة" لهؤلاء، إذ تعد الهدف الأسمى لكل التيارات الجهادية، على الرغم من هذا كله، تؤكد الوقائع الميدانية، في كل من العراق وسورية، أن التنظيم يقترب كل يوم من نهايته، خصوصا بعد سيطرة الجيش السوري، يوم 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، على مدينة دير الزور، آخر معقل رئيسي للتنظيم في سورية. وفي العراق، تمكّنت قوات الجيش من انتزاع السيطرة على آخر بلدة مهمة لتنظيم داعش مدينة القائم على الجانب الآخر من الحدود.
يمكن الحديث عن نهاية هذا التنظيم وتلاشيه، غير أن هذا لا يعني نهاية الفكر التكفيري الداعشي. وسوف يحتاج الأمر بعض الوقت، قبل تجفيف منابع هذا الفكر وإقناع مريديه بأنه لا بديل عن الوسطية والاعتدال والانخراط في العمل السلمي والمشاركة السياسية... وفي الانتظار، يمكن التأكيد أن الفترة هي لذئاب منفردة (خصوصا مع عودة مئات الارهابيين الذين ولغوا في الدم والخراب في العراق وسوريا وليبيا). وبذلك، تصبح هذه الفترة فترة تحرك الذئاب المنفردة الذين يحدّدون بأنفسهم مكان هذا التحرك وزمانه، وهو ما يسبّب صعوبة كبرى في كشف مفعول هذه الأعمال الإرهابية المعزولة وإبطاله، حتى لدى أكبر الدول وأكثرها تطورا. ولدى أكبر أجهزة الاستخبارات عددا وعدّة وتجهيزاتٍ، من قبيل المخابرات الأميركية والبريطانية والفرنسية.
صعوبة تأهيل
دعوة قوى الإسلام السياسي في تونس إلى سَنِّ "قانون التوبة" استئناسًا بالتجربة الجزائرية التي تبنت ميثاق السلم والمصالحة الوطنية لإنهاء حقبة العشرية السوداء في عقد التسعينيات، وراح ضحيتها نحو 200 ألف شخص، تبدو مخطئة، لأن المقارنة لا تَصُّحُ بين البلدين، كما أن هذه المصالحة الجزائرية (قانون الوئام المدني) لم تمنع بعضا منهم اليوم للعودة إلى الجبال والتعرّض للقوات الجزائرية من أجل إقامة "ولاية الجزائر" الداعشية. وحتى "الجماعة الليبية المقاتلة" التي قامت بمراجعاتها باشراف سيف الإسلام القذافي، وأعلنت توبتها، عادت إلى نشاطها الجهادي المسلح، في شكل مليشيات، بعد "ثورة 17 فبراير" في العام 2011، وهي منذ سنوات تحكم القبضة على العاصمة طرابلس.
ويرى الملمون بطبيعة حركات الإسلام السياسي في تونس، الداعية والمدافعة عن هذه "التوبة"،
يختلف الفكر التكفيري السائد في أوساط العائدين كثيراً عن الفكر الجهادي التقليدي الذي اعتنقه العائدون في الماضي، والذي كان يتمتع ببعض المساحات الفكرية التي تسمح بالحوار، مثل وجود العذر بالجهل، ولو نسبيا، وعدم تكفير العوام على الإطلاق، فضلاً عن عدم إباحة دماء المخالفين بصورة مطلقة. أما الفكر الداعشي الذي يعتنقه معظم العائدين، فهو يتميز بالتحجّر الفكري الذي يختلف عن التشدّد الفكري القابل بوجود احتمالية للمرونة، ولو بقدر ضئيل، ما قد يمثل قاعدة أو أرضية للالتقاء أو الحوار. بينما يرى الفكر التكفيري المتحجّر أنه الوحيد الذي يمثل الإسلام، وأن معتنقيه فقط هم المسلمون، ومن سواهم كفار. ويفسّر هذا تكفير تنظيم الدولة الإسلامية الجميع، حتى التيارات الإسلامية الجهادية. وهو ما جعل هذا الفكر محل انتقادٍ، حتى من أصحاب الفكر القاعدي المتطرّف، فوصفوه بالتشدد والغلو. ويؤمن أتباع الفكر التكفيري بأن كل من حولهم كفار، مع إجازة التعامل معهم بالتقية، إذا كانوا أقوى منهم، مثل التعامل مع الحكومات والمؤسسات الأمنية، بإظهار التخلي عن المعتقد، أو كما يطلقون عليه "كتم الإيمان"، والتظاهر بقبول أي مراجعات فكرية، أو برامج تأهيلية، وذلك من أجل الحفاظ على النفس من السجن، أو الهلاك، من باب الضرورة، ثم العودة إلى الفكر التكفيري، والإفصاح عنه بمجرد زوال تلك الضرورة. وهذا ما يفسر فشل محاولات عديدة للترشيد الفكري التي ثبت أنها، في الأغلب، لا تكون مجدية، في ظل تلك التقية العقائدية. والحال هذه يصبح القتل عند أصحاب الفكر التكفيري غاية وليس وسيلة، حتى إن إقامة الدول عندهم لا تتحقق إلا بالقتل. فقد أعلن تنظيم داعش صراحة أن دولته باقية، لأنها بنيت بالدماء والأشلاء. لذلك، يسرف معتنقو هذه الأفكار في قتل مخالفيهم، واستخدام الوسائل البشعة، مثل الذبح، وفصل الرقاب، والحرق. ولا يقتصر هذا على فئاتٍ بعينها، أو من يقاتلونهم فقط، بل يسري على الجميع، حتى المدنيين، وكل من كان في استهدافه مصلحة للإسلام.
أخيراً، يجب اعتبار هؤلاء الإرهابيين العائدين إلى تونس مجرمين ارتكبوا جرائم ضد شعوب عربية شقيقة، ما يتطلب أساسًا تنظيم محاكمتهم بوصفهم كذلك، وتطبيق قانون مكافحة الإرهاب ضدهم.