08 سبتمبر 2019
المقاطعة الأكاديمية والمجتمع المدني
بفارق 39 صوتاً فقط، خسرت حملة مقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية التصويت في إحدى كبريات الروابط المهنية والأكاديمية في العالم، هي الرابطة الأميركية لعلم الإناسة (الأنثربولوجيا). وعلى الرغم من الخسارة وانعكاساتها الرمزية، إلا أن هذه الحملة تستحق التقدير على إنجازاتها في إثارة النقاش ونشر المعرفة، على الرغم من الهجمة المضادة. كما تستحق الإشادة بسبب طلائعيتها، ذلك أن روابط مهنية عديدة دعمت المقاطعة، في السنوات الأخيرة، كانت نسبياً صغيرة الحجم، وتمثل تخصصاتٍ فرعية أو مناطقية، وذات طابع راديكالي بحكم التخصّص. لذا، الحملة في رابطة الأنثروبولوجيا هي الأولى في رابطةٍ بهذا الحجم وهذه الأهمية والمركزية في شمال أميركا. ومن هذا الباب، تستحق التوقف عند دروسها في هذه العجالة.
لا بدّ للمراقب للحيّز العام، في الولايات المتحدة تحديداً في العقد الأخير، أن يتفاءل من حيث التغيير العام بالخطاب، وانفتاح الحيز، لإمكانية أكبر للنقاش بشأن ممارسات إسرائيل، وتبادل المعلومات عنها، وشرعية متزايدة لنقدها، وإن كان هذا النقد ما زال محدوداً، ولم يترجم إلى دوائر صنع القرار الرسمية. وقد عشنا هذا التغيير طلاباً على مدى السنوات في الحرم الجامعي في أميركا، من حيث تنظيم الندوات والمؤتمرات وازدياد الإقبال عليها، والتعامل مع إدارات الجامعات والمحاضرين، وما إلى ذلك. وأكبر دليلٍ على هذا التغيير أن الأنثروبولوجيا، وهو العلم الذي انتقده إدوارد سعيد قبل عقود، بسبب تاريخه المساند للاستعمار، أصبح يحصر النقاش حول إسرائيل في الوسائل، لا في الغايات. فنتيجة التصويت كانت رفض المقاطعة أداة، لكن رئيسة الرابطة أعلنت أن هناك "إجماعاً" بين الأعضاء على نقد ممارسات إسرائيل، كما أن الخسارة الطفيفة تعبّر عن سأم متزايد بين الأكاديميين من الإدعاءات الليبرالية التي تفضّل "الحوار" على الفعل النضالي.
ولا شك في أن المجال الأكاديمي عموماً، مثل حقولٍ مهنيةٍ وثقافيةٍ عديدة، عرضة لتأثير الدولة أو المال الخاص، ويمتاز بتياراتٍ محافظة في التدريس والإدارة، خصوصاً في مجالاتٍ مثل القانون، وتحديداً في الجامعات الأغنى والأشهر. ولدينا أمثلة عديدة على الضغوط المتزايدة على الجامعات الأميركية في السنوات الأخيرة من المتبرعين، إن كان ذلك في توظيف المحاضرين النقديين، أو في معارضة نشاطات طلابية نقدية تجاه إسرائيل. وأخيراً، أمر حاكم ولاية نيويورك بمقاطعة الشركات التي تقاطع إسرائيل. كما هاجم رئيس الحكومة البريطانية المحافظ جامعاتٍ اعتبرها ملجأ للراديكاليين، مثل كلية الدراسات الشرقية والإفريقية التي تبنت مشروع المقاطعة الأكاديمية في السنة الماضية. كما يطلب القانون البريطاني من الجامعات الانتباه من الطلاب الراديكاليين والتبليغ عنهم. ومحصلة هذه الضغوط والسياسات الانتقاص من حرية التعبير عن الرأي، وتحجيم الحركات الطلابية.
في هذه الحالات، نلاحظ فجوةً بين إدارات الجامعات من ناحية، والأكاديميين والطلاب من ناحية أخرى. وسبب هذه الفجوة أن الإدارة عموماً تخضع لمنطق السوق والربح، بينما يرفض طلابٌ ومحاضرون عديدون التعامل مع التعليم كسلعة في ما يسمى "السوق الحر". لكنّ الطلاب يتعرّضون للضغط، بسبب الخصخصة المتزايدة. وبالتالي، ارتفاع أقساط التعليم وازدياد الديون، ما يدفع بعضهم إلى التوجه إلى العمل الربحي والتجاري، لا العام. أما التراتبية الأكاديمية وظروف التنافس على العمل، فتجعلان من الصعب على الأكاديميين أن يجاهروا بآراء نقدية ضد إسرائيل، خصوصاً وهم في بداية مشوارهم الأكاديمي، وبالتالي، ليس لديهم الحصانة المهنية التي تأتي مع التثبيت الأكاديمي. وهذا كله محاولة لإزهاق السياسة من الجامعات، تحت اسم المهنية والسوق. في المقابل، توفر الروابط المهنية، مثل الرابطة الأنثروبولوجية، حيزاً أوسع من الجامعات للتحرك السياسي، لأنها روابط تعاونية واختيارية. ومن هنا، أهمية بقائها حيزاً مثابراً وجذوة للنضال.
خلاصة القول من هذا العرض المقتضب إن النضال من أجل مقاطعة الأكاديميا الإسرائيلية للضغط على إسرائيل، ولفت الانتباه إلى معاناة الشعب الفلسطيني، هي ليست معركة خاصة بفلسطين. بل هي معركة داخلية للمجتمعات الغربية، مثل بريطانيا والولايات المتحدة. هي معركة على الجامعات والحركات الطلابية والروابط المهنية وحرية التعبير عن الرأي. باختصار، هي معركة على المجتمع المدني ومدى إمكانيته بالتأثير على السياسات. والعبرة ليست بخسارةٍ طفيفةٍ في معركة واحدة، بل في استمرار النضال إلى مزيدٍ من التراكم.
لا بدّ للمراقب للحيّز العام، في الولايات المتحدة تحديداً في العقد الأخير، أن يتفاءل من حيث التغيير العام بالخطاب، وانفتاح الحيز، لإمكانية أكبر للنقاش بشأن ممارسات إسرائيل، وتبادل المعلومات عنها، وشرعية متزايدة لنقدها، وإن كان هذا النقد ما زال محدوداً، ولم يترجم إلى دوائر صنع القرار الرسمية. وقد عشنا هذا التغيير طلاباً على مدى السنوات في الحرم الجامعي في أميركا، من حيث تنظيم الندوات والمؤتمرات وازدياد الإقبال عليها، والتعامل مع إدارات الجامعات والمحاضرين، وما إلى ذلك. وأكبر دليلٍ على هذا التغيير أن الأنثروبولوجيا، وهو العلم الذي انتقده إدوارد سعيد قبل عقود، بسبب تاريخه المساند للاستعمار، أصبح يحصر النقاش حول إسرائيل في الوسائل، لا في الغايات. فنتيجة التصويت كانت رفض المقاطعة أداة، لكن رئيسة الرابطة أعلنت أن هناك "إجماعاً" بين الأعضاء على نقد ممارسات إسرائيل، كما أن الخسارة الطفيفة تعبّر عن سأم متزايد بين الأكاديميين من الإدعاءات الليبرالية التي تفضّل "الحوار" على الفعل النضالي.
ولا شك في أن المجال الأكاديمي عموماً، مثل حقولٍ مهنيةٍ وثقافيةٍ عديدة، عرضة لتأثير الدولة أو المال الخاص، ويمتاز بتياراتٍ محافظة في التدريس والإدارة، خصوصاً في مجالاتٍ مثل القانون، وتحديداً في الجامعات الأغنى والأشهر. ولدينا أمثلة عديدة على الضغوط المتزايدة على الجامعات الأميركية في السنوات الأخيرة من المتبرعين، إن كان ذلك في توظيف المحاضرين النقديين، أو في معارضة نشاطات طلابية نقدية تجاه إسرائيل. وأخيراً، أمر حاكم ولاية نيويورك بمقاطعة الشركات التي تقاطع إسرائيل. كما هاجم رئيس الحكومة البريطانية المحافظ جامعاتٍ اعتبرها ملجأ للراديكاليين، مثل كلية الدراسات الشرقية والإفريقية التي تبنت مشروع المقاطعة الأكاديمية في السنة الماضية. كما يطلب القانون البريطاني من الجامعات الانتباه من الطلاب الراديكاليين والتبليغ عنهم. ومحصلة هذه الضغوط والسياسات الانتقاص من حرية التعبير عن الرأي، وتحجيم الحركات الطلابية.
في هذه الحالات، نلاحظ فجوةً بين إدارات الجامعات من ناحية، والأكاديميين والطلاب من ناحية أخرى. وسبب هذه الفجوة أن الإدارة عموماً تخضع لمنطق السوق والربح، بينما يرفض طلابٌ ومحاضرون عديدون التعامل مع التعليم كسلعة في ما يسمى "السوق الحر". لكنّ الطلاب يتعرّضون للضغط، بسبب الخصخصة المتزايدة. وبالتالي، ارتفاع أقساط التعليم وازدياد الديون، ما يدفع بعضهم إلى التوجه إلى العمل الربحي والتجاري، لا العام. أما التراتبية الأكاديمية وظروف التنافس على العمل، فتجعلان من الصعب على الأكاديميين أن يجاهروا بآراء نقدية ضد إسرائيل، خصوصاً وهم في بداية مشوارهم الأكاديمي، وبالتالي، ليس لديهم الحصانة المهنية التي تأتي مع التثبيت الأكاديمي. وهذا كله محاولة لإزهاق السياسة من الجامعات، تحت اسم المهنية والسوق. في المقابل، توفر الروابط المهنية، مثل الرابطة الأنثروبولوجية، حيزاً أوسع من الجامعات للتحرك السياسي، لأنها روابط تعاونية واختيارية. ومن هنا، أهمية بقائها حيزاً مثابراً وجذوة للنضال.
خلاصة القول من هذا العرض المقتضب إن النضال من أجل مقاطعة الأكاديميا الإسرائيلية للضغط على إسرائيل، ولفت الانتباه إلى معاناة الشعب الفلسطيني، هي ليست معركة خاصة بفلسطين. بل هي معركة داخلية للمجتمعات الغربية، مثل بريطانيا والولايات المتحدة. هي معركة على الجامعات والحركات الطلابية والروابط المهنية وحرية التعبير عن الرأي. باختصار، هي معركة على المجتمع المدني ومدى إمكانيته بالتأثير على السياسات. والعبرة ليست بخسارةٍ طفيفةٍ في معركة واحدة، بل في استمرار النضال إلى مزيدٍ من التراكم.