07 نوفمبر 2024
الملكة وحرم "المسؤول" الثالث في الدولة
نحن في العام 1789، في العاصمة الفرنسية باريس. الأكثر فقراً من بين الباريسين يقودون تظاهرة احتجاجية نحو قصر فرساي، حيث يسكن الملك لويس السادس عشر والملكة ماري أنطوانيت. لدى اقترابهم من القصر، علت صيحاتهم: "لا خبز .. لا خبز .. نحن ليس لدينا خبز"، وعلى وجوههم وهندامهم كل مظاهر البؤس. الملكة ماري أنطوانيت تنظر إليهم من النافذة، وتسأل أحد الضباط المولجين حراسة القصر: "ماذا يريد هؤلاء الناس"؟ فيجيب الضابط: "جلالتك .. إنهم يريدون خبزاً. ليس عندهم خبز. إنهم جائعون". تهزّ الملكة رأسها تعبيرا عن دهشتها، فتنطق بتلك الكلمة التي تحفظها أجيال وشعوب أخرى، على امتداد قرنين ونصف القرن: "ليس لديهم ما يكفي من الخبز؟ فليأكلوا إذن البريوش"، أو البسكوت، أو قطعة الحلوة المدوّرة. المؤرخون يشكّكون من زمان بصحة هذه الرواية. لكنهم يرون لها نظيراً في كل الحضارات التي حكمها ملوك، بصيغ تختلف، ولكن بمضمون واحد: "فليأكلوا البريوش".
الآن، اليوم، وفي لبنان، أزمة اقتصادية قاتلة، تسبق أخرى صحية لا تقلّ فتكاً، تضرب في عمق الاقتصاد، فتكون بطالة تاريخية، إفلاس الدولة، وشبح المجاعة. أزمة نهب موارد لبنان من قيّمين على نظامه المهترئ، ألغوا ضمائرهم، واستوطنوا الفساد. ثم حكومة جديدة حلّها الوحيد "المساعدات الخارجية"، من صندوق النقد الدولي، من مؤتمر "سيدر"، من أوروبيين وخليجيين، وبخطة هزلية، غرضها تقطيع الوقت، بانتظار انفراجة ما، أو معجزة.
في هذا المناخ المكفهر، الدامس، تطلّ علينا حرم "المسؤول" الجديد لهذه الحكومة، على الشاشة،
إلى يمينها مذيعةٌ مغلوبة تحمل الميكروفون، تسألها عن "رأيها"، وإلى يسارها وزيرة في حكومة زوجها، تبالغ في إبداء إعجابها بدُررها. والجميع ضمن قُطر لا يتجاوز المتر الواحد، بحيث لا يفصل بين السيدات الثلاث إلا بضعة سنتيمترات. وذلك في مخالفةٍ سافرةٍ لإرشاداتٍ لمعت بها الوزيرة إياها؛ فقبل أيام خصّصت مؤتمراً صحافياً من أجل إعطاء المراسلين درساً في "المسافات الآمنة" و"التباعد الاجتماعي"، وهي تقيس الأمتار، فتفوقت على نفسها، وكانت مادة سخرية هائلة. (في بلد آخر، وزير يخالف التعليمات الوقائية يستقيل من منصبه). ناهيك، طبعاً، عن خلو وجوه النساء الثلاث من كمّامات، تحفظ مياه الوجه، على الأقل أمام الإعلام، كما تفعل الوزيرة في مجلس الوزراء، عندما تلتقط صورة لاجتماعه، والجميع في أثنائها يرتدي الكمّامة وأحيانا القفازات...
المهم أن حرم "المسؤول" حصلت في ذاك اليوم على "مقابلة صحافية"، تتحدّث فيها عن حلولها للأزمة الاقتصادية. وهي سهلة للغاية: ليس على اللبنانيات سوى العمل في البيوت خادمات. فيما على اللبنانيين تولّي العمل نواطير بنايات، أو موظفين في محطات البنزين. وتدفع حجتين تعزّزان "حلها" هذا: الأولى تنسف أنظار حكومة زوجها المتّجهة كلها إلى الخارج. إذ تقول إن علينا "الاتكال على أنفسنا"، أن نكون مستقلين، فيما حكومة قرينها تشحذ من الخارج. الحجّة الثانية، الداعمة للأولى، والمستنْتَجة منها، تقول إن هذا الاتكال على النفس سوف يبقي أموالنا ضمن بلادنا، ويضمن عدم خروجها إلى بلدان هؤلاء العمال، واضعةً الملاليم التي يقبضها العمال الأجانب على المستوى نفسه، بل أقل من مستوى المليارات التي سرقها "رجال الدولة"، وهرّبوها إلى الخارج؛ ثم عمل أقواهم بعد ذلك على اختيار زوجها في الموقع الثالث في الدولة.
حرم "المسؤول" فوق هذا تجاوزت كل الوقائع. العمال الأجانب هؤلاء "يوظفهم" أرباب العمل بصفتهم مسخّرين، من غير أي قانونٍ يحميهم. وهم بذلك يوفرون على خزينتهم مبالغ تسهِّل إثراءهم. هل سيتقيّدون بهذه القوانين، ويطبقونها، في حال شغّلوا عمالاً لبنانيين؟ طبعا تؤكد حرم "المسؤول"... بديهي... وكأن زوجها وضع هذه الحقوق في صلب برنامجه "الإنقاذي -الإصلاحي".
النساء والرجال أصحاب مهن، أو شهادات أو مهارات، أو قدرات، بطالَتهم تحقّقت، واقتربوا من
قارعة الطريق؛ ولن يجدوا عملا ًفي القريب العاجل. فلبوا رجاء حرم "المسؤول" التي تكرمّت عليهم بهذه الفكرة الهائلة.. حسنا.. بعد ذلك، كيف سيعيشون هذا السقوط من الطبقة الوسطى إلى العوز؟ إلى الفقر، المدقع أحياناً؟ بسيطة: فقراء جدد سوف ينضمون إلى قافلة الأفقر منهم. ومع ذلك، السؤال "التقني": كيف يقبضون المئتي دولار، وهو أعلى راتب لعامل "أجنبي"؟ باللبناني، طبعاً؟ وبأية تسعيرة؟ هذه عيّنة من الأسئلة الصعبة التي لم يجد زوجها حتى الآن أي جواب عليها، على الرغم من أنه مدعوم بقوة من أصحاب القرار الأعلى.
ثمّة جانب آخر من هذه الأفكار المبتكرة، يتعلق بالطموح "النسوي" لحرم "المسؤول". لم يمض شهر على تعيين هذا الأخير في المنصب الثالث للدولة (19/ 1/ 2019)، حتى أصدر مكتبه رسالة يطلب فيها استبدال النائبة العامة للهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية بزوجته؛ إلى جانب رئيسة الهيئة، ابنة رئيس الجمهورية. لكن حرم "المسؤول" يبدو أنها، لشدّة استعجالها بتقديم الحلول، أسقطت على كلمتها التقسيم الجنسي التقليدي للعمل، المخالف أبسط قواعد الخطاب النسوي، التقليدي أيضاً: تكرّمت على النساء اللبنانيات بوظيفة "داخلية"، وبأدوار داخلية صرفة: غسل، طبخ، تنظيف، كنس... إلخ. وتبرّعت بوظيفة إلى الرجال اللبنانيين، "خارجية"، في كعوب البنايات، أو في الشارع على محطات البنزين. أي أن حرم "المسؤول" تريد أن تحتل موقعاً نسوياً في الدولة التي يدير زوجها وزراءها، من دون أن تراجع واجباتها، فتقرأ ألف باء أدبيات هذا الموقع، لتعرف كيف تنافق وكيف تدلّس على "حقوق المرأة اللبنانية".
والآن، تأتي المقارنة بين ماري أنطوانيت، وحرم "المسؤول": الأولى، أميرة نمساوية، حفيدة الإمبراطورين النمساويين، فرنسوا الأول وماري تيريز. أي إنها طول عمرها عائشة في الترف والثراء والتميز الحاد. إلى حدّ أنها لا تعرف أصلاً أن ثمّة جياعا في باريس. ضباطها ساهموا في جهلها، كما يفعل عادة رجال الحاشية. المهم أن ماري أنطوانيت لم تر حلاً لجياع باريس سوى أن ترفعهم طبقياً، بأن يفعلوا مثلها، يأكلوا البريوش. أما حرم "المسؤول"، فبالعكس تماماً. لم تصدّق تعيين زوجها، حتى هرعت للسكن في السرايا الكبيرة. في سابقةٍ تدلّ على الاستعجال بتولي هذا الخير، هذه الأبهة، قبل أن يفوتها ارتقاؤها، لسبب من الأسباب، فالمنطقة قلابة.. الحل الذي تقترحه للبطالة، تعزيزاً لموقعها الجديد، هو حل حديثي النعمة الذين يخوضون صراع وجود مع الطبقة التي انتموا إليها يوماً، ويريدون أن يديموا إنتصارهم الجديد هذا. حداثة النعمة تفرض عليها إسقاط الطبقة الوسطى، مكملةً بذلك سياسة الحكومة التي يرأسها زوجها. الملكة المطمنئة إلى طبقتها، صاحبة العزّ الأصلي القديم تقدّم حلاً يرفع الفقراء، بأن تطعمهم ما تأكله هي. فيما حرم "المسؤول"، المتعلمة، العارفة، المعاصرة، جديدة على النعمة. وحلّها هو إسقاط طبقي للجائعين، ومن بعدهم المرشّحين للجوع، ليختلط بذلك الفقراء الجدد بالقدماء.
تتمّة: كل النساء الوزيرات في حكومة حرم "المسؤول" تضامنّ معها وأطلقن هاشتاغ "الشغل
مش عيب"، في تزلّف إعلامي واضح لها. وبلسان شعبوي يريد أن يمرّر سياسةً غير شعبية. فهن، المتعلمات، حاملات الشهادات العليا، اللواتي صعدن إلى الوزراة على حصان الخطاب النسوي من "إشراك المرأة في السياسة"، أو "الكوتا النسائية" في كذا وكيت من المواقع، والأدوار؛ هن اللواتي اطلقن أوهاماً ومطالب حول "حقوق المرأة" .. لم يتفوّهن ببنت شفة عن واحدة من تلك الحقوق. ولكن عندما أطللن، مجتمعاتٍ، لإطلاق موقف نسائي موحد، تكاتفنَ مع حرم مسؤولهن.. وبالأساس كيف يمكن أن يكنّ غير ذلك؟ هن الآتيات من طبقة والصاعدات إلى أخرى؟ العمل ليس عيباً، صحيح. ولا حاجة إلى المزايدة الشعبوية في هذا المضمار. لكن العيب، بل الهول، هو السقوط الطبقي، أي التحوّل إلى فقراء جدد. وكأن المعادلة تفصح عن نفسها: بأن لا فقراء جددا من دون أغنياء جدد.
تتمّة أخرى: قد لا تكون حرم "المسؤول" مقتنعةً بكلامها. قد لا يكون تصريحها هذا إلا ذا غرض محدّد: ولوج الساحة الإعلامية، بالعدد الأكبر من ردود الفعل على كلامها، من ترداد اسمها، ومن نشر صورتها. وهي نجحت بذلك تماماً؛ تصريحها شوهد آلاف المرّات، ونزلت على "غوغل"؛ وهو أثار كثيرا من السخط ، ومن التأييد أيضا، تحت ذاك الشعار المتذاكي "الشغل مش عيب". وإذا كان افتراضنا صحيحاً، فمن الطبيعي أن نتساءل، إن كانت عدوى دونالد ترامب قد أصابتها، كما أصابت أعداداً لا بأس بها من "المسؤولين" اللبنانيين.
في هذا المناخ المكفهر، الدامس، تطلّ علينا حرم "المسؤول" الجديد لهذه الحكومة، على الشاشة،
المهم أن حرم "المسؤول" حصلت في ذاك اليوم على "مقابلة صحافية"، تتحدّث فيها عن حلولها للأزمة الاقتصادية. وهي سهلة للغاية: ليس على اللبنانيات سوى العمل في البيوت خادمات. فيما على اللبنانيين تولّي العمل نواطير بنايات، أو موظفين في محطات البنزين. وتدفع حجتين تعزّزان "حلها" هذا: الأولى تنسف أنظار حكومة زوجها المتّجهة كلها إلى الخارج. إذ تقول إن علينا "الاتكال على أنفسنا"، أن نكون مستقلين، فيما حكومة قرينها تشحذ من الخارج. الحجّة الثانية، الداعمة للأولى، والمستنْتَجة منها، تقول إن هذا الاتكال على النفس سوف يبقي أموالنا ضمن بلادنا، ويضمن عدم خروجها إلى بلدان هؤلاء العمال، واضعةً الملاليم التي يقبضها العمال الأجانب على المستوى نفسه، بل أقل من مستوى المليارات التي سرقها "رجال الدولة"، وهرّبوها إلى الخارج؛ ثم عمل أقواهم بعد ذلك على اختيار زوجها في الموقع الثالث في الدولة.
حرم "المسؤول" فوق هذا تجاوزت كل الوقائع. العمال الأجانب هؤلاء "يوظفهم" أرباب العمل بصفتهم مسخّرين، من غير أي قانونٍ يحميهم. وهم بذلك يوفرون على خزينتهم مبالغ تسهِّل إثراءهم. هل سيتقيّدون بهذه القوانين، ويطبقونها، في حال شغّلوا عمالاً لبنانيين؟ طبعا تؤكد حرم "المسؤول"... بديهي... وكأن زوجها وضع هذه الحقوق في صلب برنامجه "الإنقاذي -الإصلاحي".
النساء والرجال أصحاب مهن، أو شهادات أو مهارات، أو قدرات، بطالَتهم تحقّقت، واقتربوا من
ثمّة جانب آخر من هذه الأفكار المبتكرة، يتعلق بالطموح "النسوي" لحرم "المسؤول". لم يمض شهر على تعيين هذا الأخير في المنصب الثالث للدولة (19/ 1/ 2019)، حتى أصدر مكتبه رسالة يطلب فيها استبدال النائبة العامة للهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية بزوجته؛ إلى جانب رئيسة الهيئة، ابنة رئيس الجمهورية. لكن حرم "المسؤول" يبدو أنها، لشدّة استعجالها بتقديم الحلول، أسقطت على كلمتها التقسيم الجنسي التقليدي للعمل، المخالف أبسط قواعد الخطاب النسوي، التقليدي أيضاً: تكرّمت على النساء اللبنانيات بوظيفة "داخلية"، وبأدوار داخلية صرفة: غسل، طبخ، تنظيف، كنس... إلخ. وتبرّعت بوظيفة إلى الرجال اللبنانيين، "خارجية"، في كعوب البنايات، أو في الشارع على محطات البنزين. أي أن حرم "المسؤول" تريد أن تحتل موقعاً نسوياً في الدولة التي يدير زوجها وزراءها، من دون أن تراجع واجباتها، فتقرأ ألف باء أدبيات هذا الموقع، لتعرف كيف تنافق وكيف تدلّس على "حقوق المرأة اللبنانية".
والآن، تأتي المقارنة بين ماري أنطوانيت، وحرم "المسؤول": الأولى، أميرة نمساوية، حفيدة الإمبراطورين النمساويين، فرنسوا الأول وماري تيريز. أي إنها طول عمرها عائشة في الترف والثراء والتميز الحاد. إلى حدّ أنها لا تعرف أصلاً أن ثمّة جياعا في باريس. ضباطها ساهموا في جهلها، كما يفعل عادة رجال الحاشية. المهم أن ماري أنطوانيت لم تر حلاً لجياع باريس سوى أن ترفعهم طبقياً، بأن يفعلوا مثلها، يأكلوا البريوش. أما حرم "المسؤول"، فبالعكس تماماً. لم تصدّق تعيين زوجها، حتى هرعت للسكن في السرايا الكبيرة. في سابقةٍ تدلّ على الاستعجال بتولي هذا الخير، هذه الأبهة، قبل أن يفوتها ارتقاؤها، لسبب من الأسباب، فالمنطقة قلابة.. الحل الذي تقترحه للبطالة، تعزيزاً لموقعها الجديد، هو حل حديثي النعمة الذين يخوضون صراع وجود مع الطبقة التي انتموا إليها يوماً، ويريدون أن يديموا إنتصارهم الجديد هذا. حداثة النعمة تفرض عليها إسقاط الطبقة الوسطى، مكملةً بذلك سياسة الحكومة التي يرأسها زوجها. الملكة المطمنئة إلى طبقتها، صاحبة العزّ الأصلي القديم تقدّم حلاً يرفع الفقراء، بأن تطعمهم ما تأكله هي. فيما حرم "المسؤول"، المتعلمة، العارفة، المعاصرة، جديدة على النعمة. وحلّها هو إسقاط طبقي للجائعين، ومن بعدهم المرشّحين للجوع، ليختلط بذلك الفقراء الجدد بالقدماء.
تتمّة: كل النساء الوزيرات في حكومة حرم "المسؤول" تضامنّ معها وأطلقن هاشتاغ "الشغل
تتمّة أخرى: قد لا تكون حرم "المسؤول" مقتنعةً بكلامها. قد لا يكون تصريحها هذا إلا ذا غرض محدّد: ولوج الساحة الإعلامية، بالعدد الأكبر من ردود الفعل على كلامها، من ترداد اسمها، ومن نشر صورتها. وهي نجحت بذلك تماماً؛ تصريحها شوهد آلاف المرّات، ونزلت على "غوغل"؛ وهو أثار كثيرا من السخط ، ومن التأييد أيضا، تحت ذاك الشعار المتذاكي "الشغل مش عيب". وإذا كان افتراضنا صحيحاً، فمن الطبيعي أن نتساءل، إن كانت عدوى دونالد ترامب قد أصابتها، كما أصابت أعداداً لا بأس بها من "المسؤولين" اللبنانيين.