بمجرد ظهورها أمام الكاميرات والجمهور لتأخذ مكانها على المنصة مقابل ترامب، بدت كلينتون وكأنها سجلت انتصاراً كبيراً، ليس على ترامب فحسب بل على الثقافة الذكورية والقيم الأميركية المحافظة، كونها أول امرأة أميركية تصعد إلى تلك المنصة في تاريخ الانتخابات الرئاسية. وتوالى تسجيل النقاط بعد ذلك، فاستعرضت خططها لحل مشاكل الاقتصاد ومكافحة العنصرية ومحاربة الإرهاب، بينما كان ترامب منشغلاً بضبط ردات فعله المرتبكة، وربما عد النقاط الكثيرة التي بدأ بخسارتها مع المداخلة الأولى لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة، والتي اختيرت لإطلاق صفارة بدء المناظرة التي استمرت تسعين دقيقة.
لقد قدمت كلينتون في مناظرة الليلة الماضية أفضل ما عندها. وقالت فيها بشكل واضح ما كانت تجهد لإيصاله منذ انطلاق حملتها الانتخابية. بدا واضحاً استعدادها الجيد لإقناع المشاهدين بوجهة نظرها وبمؤهلاتها الرئاسية. في المقابل لم يقدم ترامب أي جديد عن خطابات المهرجانات الانتخابية المتكررة. والمواجهة المباشرة مع مرشح واحد على المنصة كشفت نقاط ضعفه وهشاشة خطابه السياسي.
ورغم أنها أول امرأة أميركية تقف وجهاً لوجه مع رجل سياسة في مناظرة تلفزيونية رئاسية، إلا أن كلينتون قدمت أيضاً صورة المرأة الحديدية والسياسية المخضرمة والمحنكة، بعد أكثر من أربعين عاماً من الخدمة في الشأن العام تنقلت خلالها في أرفع المناصب الرسمية في النظام السياسي الأميركي، من زوجة الرئيس إلى تمثيل نيويورك في مجلس الشيوخ إلى تسلمها مهام وزارة الخارجية في الفترة الرئاسية الأولى لباراك أوباما.
وكانت وجهة نظرها متماسكة وتناولت أهم القضايا في أولويات الرئيس المقبل، فأبرزت هويتها السياسية كابنة شرعية للطبقة المتوسطة الأميركية تسعى لإعادة الحياة إليها من خلال فرض ضرائب على الأثرياء الأميركيين، من أمثال ترامب، من أجل حصول جميع الأميركيين على تأمين صحي وتعليم جامعي مجاني. واقترحت حلولاً عملية وذكية لمعالجة الاحتقان العنصري، من خلال العمل على إعادة الثقة بين الشرطة والأقلية الأفريقية. طبعاً دون أن تغفل الرسالة الأساسية لحملتها الانتخابية، وهي إقناع الناخبين الأميركيين أن رجل الأعمال النيويوركي لا يملك مؤهلات منصب الرئاسة ولا يؤتمن على "الزر النووي"، مشيرة إلى علاقته المشبوهة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين ودعوته المخابرات الروسية إلى قرصنة بريدها الإلكتروني وخطته السرية للقضاء على تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وخطابه التحريضي ضد المسلمين ومخاطر ذلك على الأمن القومي الأميركي.
وعلى عكس منافسته الديمقراطية قدم ترامب، خلال مناظرته الأولى مع كلينتون، أسوأ ما عنده. فكرر خطابه القديم الذي أصبح مملاً وما عاد مسلياً، ربما حتى بالنسبة إلى أنصاره. وطوال وقت المناظرة لم ينجح في التقاط أنفاسه للرد على هجمات كلينتون، فكان في موقع الدفاع في غالب الأحيان، محاولاً تبرير تأخر إعلان بياناته الضريبية وتوضيح ظروف رفع دعوى قضائية ضده في نيويورك خلال السبعينات بتهمة التمييز العنصري ضد عائلة من أصول أفريقية رفض تأجيرها شقة في أحد أبراجه السكنية.
والمؤكد ان أسوأ ما قدمه جاء في تصريحاته للإعلام بعد المناظرة، عندما أبلغ الصحافيين أنه في المناظرة المقبلة مع كلينتون سيفتح ملف العلاقات النسائية لزوجها. ربما لأنه أدرك هذه المرة أن محاولته اعتماد خطاب رئاسي متزن ليس أمراً مجدياً، أو على الأقل لا يلائم خطابه الشعبوي الذي يبحث عن الإثارة والتعبئة العنصرية.
من خلاصات المناظرة التلفزيونية الأولى بين كلينتون وترامب أن ما بعدها ليس كما قبلها. والفوز التلفزيوني لوزيرة الخارجية السابقة على نجم تلفزيون الواقع سينعكس تقدماً أكبر لكلينتون في الأيام والأسابيع المقبلة. والأرجح أن "جدار ترامب"، الذي لم يذكر خلال المناظرة، قد سقط وظهر الفرق الواضح بين رجل السياسة-أو امرأة السياسة -وبين رجل الأعمال، أو نجم تلفزيون الواقع في أحسن الأحوال. وظهر بوضوح خلال المناظرة كم يبعد ترامب عن السياسة وعن عالمها، وكم البيت الأبيض قريب من آل كلينتون.