المنظم والعادي في بر مصر
قبل خمسة أشهر، توعد رئيس نادي الزمالك المصري، مرتضى منصور "جروب ألتراس وايت نايتس"، المشجع لفريق النادي لكرة القدم، وأقسم بأمه "التي لا يعرفها هؤلاء" ألا يسمح لهم بدخول النادي، أو حضور التدريبات. لم يكتف بالقسم، بل هدد أفراد المجموعة بـ"تجريدهم من كامل ملابسهم، وتعليقهم على بوابات النادي"، لكنه استثنى الجماهير "العادية" للنادي من تهديداته، قائلا "أما الجماهير العادية فأهلاً بها في أي وقت".
ليست طريقة القسم وعبارات التهديد أمرا شاذا في سيرة الرجل وشخصيته وقاموسه، وهو، بالمناسبة، قاض سابق وصاحب قدرات فريدة على تجنيد البلطجية وتوظيفهم، تجلت في موقعة الجمل، وتحريضه على ثوار 25 يناير عام 2011، وعلى الرغم من ذلك، كان أحد المشمولين بـ"موسم البراءة للجميع" في مطلعه.
لكن، ثمّة ما يستدعي التوقف عند عبارته التي تتضمن تهديد "المنظم" من جمهور ناديه، في مقابل الترحيب بـ"العادي"، بعد المجزرة الأخيرة التي راح ضحيتها عشرات من جمهور نادي الزمالك، والمقيدة، حتى الآن، وربما دائما ضد مجهول. والمجهول هنا ليس "لهوا خفيا"، والطريق إلى تحديده يكمن فيما سبق تصنيفه بين "المنظم الممنوع" و"العادي موضع الترحيب"، ويستطيع المرء أن يطمئن إلى هذه الجملة المفتاحية، لتعينه على تفسير ما يحار أحياناً في تفسيره من مشاهد تلك "الفانتازيا البائسة"، ليس فقط في المشهد الرياضي الكروي، بل في مجمل الحالة المصرية، سياسة وأحزاباً وجماعات ونقابات واتحادات طلابية ولوائح انتخابية و"هواجس انقلابية"، فبقدر ما تكون "منظماً" فأنت ممنوع في تلك المحافل، وبقدر ما تكون "عادياً" فمرحبا بك في هذا المشهد "غير العادي".
وبعيداً عن تقييم مستوى لغة الخطاب ومفرداته "الشتيمية" التي باتت" أدباً" في السائد من لغة السياسة والإعلام ومستويات أخرى تتصدر المشهد، ومع التسليم بخطورتها وآثارها الصحية والنفسية على أي نفر من الجمهور يريد أن يحتفظ بالحد الأدنى من سوئه، إلا أنها تتطلب قدراً من الصبر على سماعها، لأن هذه الفجاجة المتدنية أصبحت، للأسف، ضرورة لرصد اتجاه الريح هذه الأيام. والريح تتجه إلى محو أي تنظيم، أيا كان نوعه في بر مصر، اللهم إلا تنظيم واحد، هو العسكر، ويجب التمييز، في هذا المقام، بين جيش مصر، أقوى جيوش المنطقة، وقيادة عسكرية، تنحرف به عن وظيفته الأساسية ودوره الوطني، وتقحمه في صراعات سياسية، كان أجدر به أن يظل بعيداً عنها حارسا للدولة.
عقلية هذا النوع من القيادة ترى في أي تنظيم خطراً محتملاً عليها، ظهر هذا مبكراً، عندما اجتاحت صعيد مصر سيول مدمرة في الخمسينيات، بعد سنوات قليلة من حركة الجيش المباركة، فهب أبناء الوجه البحري، و"نظمتهم" الكارثة لنجدة أشقائهم في الجنوب، فحملوا ما استطاعوا من مؤن ومساعدات، قاصدين الصعيد، لكن القيادة العسكرية منعتهم من الوصول، ورأت أن النجدة المنظمة يجب أن تكون من خلال تنظيمها، دافعها الخوف من تدشين تحرك شعبي جماعي، حتى ولو كان لأغراض إنسانية اليوم، فإنه قد لا يكون على غير ما تهوى غدا.
التنظيم الوحيد الذي يروق لها هو ما تصنعه هي، ويدور في فلكها مكملاً أو مجملاً، ومن ثم كانت الحملة الاستئصالية لتنظيم الإخوان الذي سبق لهذه القيادة، وتعاونت معه، ثم انقلبت عليه. كذلك لم تكن التنظيمات الشيوعية بأفضل حال، فامتلأت السجون بالإخوان والشيوعيين، لتصبح التنظيمات المباركة هي التنظيم الطليعي، والاتحاد الاشتراكي.
وحتى نشأة الأحزاب المصرية في عهد الرئيس أنور السادات كانت في إطار النظام، شريطة عدم "التنظيم"، على الرغم من أن تعريف الحزب في الأدبيات السياسية هو "تنظيم سياسي، يسعى للوصول إلى السلطة"، لكنها باتت، في طبعتها المصرية، أحزاباً ورقية مخترقة أمنياً في حالاتٍ كثيرة، تفتقد الشعبية، فولدت وعاشت على تكاثرها، فاقدة الأهلية والتأثير، باستثناء الحزب الحاكم "حزب الفئة الناجية"، وعندما أراد حزب العمل كسر هذا الإطار كان مصيره الحل، وإغلاق صحيفته وتشريد صحفييها.
لاحقت تلك العقلية النقابات المهنية، ونوادي أعضاء هيئة التدريس في الجامعات، عندما بدأت تنشط في الثمانينيات، وتجري انتخابات نزيهة، فكان مصيرها التأميم ووضعها تحت الحراسة، وإعادتها إلى حظيرة النظام، لكي تظل "عادية" مأمونة، وامتدت تلك العقلية إلى كل مرافق الدولة التي لا تخلو من عسكريين سابقين، يكرسون الحالة، فكان الضحية هو الشعب نفسه الذي لم يعد يثق بالنظام، ويستتفه الأحزاب، ولا يثق في انتخاباتٍ تأتي بما يريده النظام.
وعندما اندلعت ثورة 25 يناير، انعقدت الآمال للاستشفاء من تلك الأمراض السياسية المستعصية، لكن التجربة أثبتت أنها كانت تفتقد التنظيم والقيادة. وكانت الحالة تفترض من النخبة أن تجتهد في وضع تأطير يجمع كل القوى على المشترك من قضايا الوطن. لكن، كان ما كان، لتعود المعركة ثانية بين التنظيمين الوحيدين في مصر، الجيش والإخوان، مفتوحة، وبات شرط المصالحة الذي يطرحه النظام أن تتحول من " منظم إلى عادي".
وأخصائيو فرز "المنظم" من "العادي" في المحروسة، هذه الأيام، أكثر من أن يحصوا، فإلى جانب الراقصين في السيرك الإعلامي مواطنون شرفاء، وتفويضات بكل الأحجام والألوان والمقاسات، وتعدى الفرز والتصنيف المجال السياسي إلى الرياضي، وامتد من الداخل ليشمل الخارج، والأمل الكبير لدى هؤلاء ومن وراءهم أن يصبح الكل "عادياً".