07 اغسطس 2024
الموجة الثانية للثورة العربية المضادّة
بعد صعود الملك سلمان بن عبد العزيز إلى حكم العربية السعودية في أوائل عام 2015، دخلت القوى المعارضة للربيع العربي والداعمة له فيما يمكن تسميتها هدنة مؤقتة. في ذلك الوقت، احتاجت دول خليجية تقودها المملكة والإمارات لدعم قوى دعمت الربيع العربي، مثل تركيا وقطر، لخوض مواجهتين مهمتين في سورية واليمن.
في سورية، عانى النظام بشدة، وكان على وشك الانهيار قبل تدخل روسيا لإنقاذه في سبتمبر/ أيلول 2015، وكانت السعودية تأمل في الدخول مع دول المنطقة في تحالفٍ عسكري مدعوم أميركيا ودوليا لتغيير نظام الأسد. وفي اليمن، أطلقت السعودية عملية عاصفة الحزم لمواجهة خطر التمدد الحوثي المدعوم إيرانيا، واحتاجت في تدخلها لدعم عربي وإسلامي، في إطار ما يعرف بالتحالف العربي، خصوصا أنها واجهت، في ذلك الحين، موقفا متردّدا من الرئيس الأميركي، باراك أوباما، الذي انتقد بعض الانتهاكات المترتبة على التدخل العسكري في اليمن، ورفض توريط بلاده في الحرب هناك.
لذا، شهد العامان السابقان فترة هدوء مؤقت بين المعسكر الداعم للربيع العربي والرافض له في المنطقة، وامتدت تلك الهدنة عبر المنطقة، حيث عبّر النظام المصري، مراتٍ، عن سخطه من فتور الدعم الخليجي له، وتم احتواء اللواء خليفة حفتر وقواته في شرق ليبيا، وتراجعت وتيرة الخلاف الإعلامي بين المعسكرين والحملة الأمنية على المعارضين في العالم العربي.
ويبدو أن الهدنة المؤقتة انتهت خلال النصف الأول من عام 2017، تزامنا مع صعود الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، بالإضافة إلى عوامل أخرى، فمع بداية عام 2017، رسخ التدخلان، الروسي والإيراني، أقدام نظام بشار الأسد في سورية، ولم يعد ممكنا التدخل الخارجي لإسقاط النظام، خصوصا في ظل رفض إدارة ترامب ذلك. كما أعطى ترامب دعما هائلا للنظم العربية الحليفة، خصوصا في مصر والسعودية والإمارات، ولم تعد المملكة في حاجةٍ لبناء تحالف أوسع في حرب اليمن لمواجهة النقد الأميركي. وتراجع الدور الأوروبي الضعيف في المنطقة بسبب صعود الشعبوية هناك من ناحية، وانفجار الحروب الأهلية في المنطقة وتبعاتها، ما أجبر دولاً أوروبية كثيرة على مراجعة سياساتها، والعودة إلى تحالفها القديم مع ديكتاتوريات المنطقة.
ويبدو أن الزيارة التي قام بها ترامب للمنطقة، وأكد فيها على التحالفات القديمة للولايات
المتحدة، ورفضه سياسات الحكومات الأميركية السابقة، المرتبطة بنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، أعطت دفعة قوية للقوى المعارضة للتغيير في العالم العربي، وسرّعت بوتيرة ما يمكن تسميتها الموجة الثانية للثورة العربية المضادة.
والمعروف أن الثورة المضادة مصطلح يرتبط بالإجراءات القمعية التي اتخذتها دول عربية سلطوية وأنصارها منذ الربيع العربي، حيث رفضت القوى الداعمة للنظم القديمة الثورات العربية، واعتبرتها مؤامرة خارجية مدعومة من الغرب وحكومة أوباما، تشارك فيها جماعات المعارضة العربية، وفي مقدمتها الإخوان المسلمون والقوى الشبابية التي شاركت في الثورات، بالإضافة إلى قطر وتركيا، وهي الدول التي فتحت أبوابها لمعارضين عرب وأصوات داعمة للربيع.
ومنذ اليوم الأول للربيع العربي، والنظم القديمة وأنصارها في السلطة وخارجها يفعلون ما في وسعهم لقمع الثورات، من خلال دعم خصومها ماليا وإعلاميا وعسكريا وخارجيا كذلك، وقد أسهمت الثورة العربية في تعطيل ثورة اليمن، وحماية الرئيس المخلوع، علي عبدالله صالح، من المساءلة، كما ساهمت في تعميق الانقسام في تونس وليبيا، وكان أكبر نجاح حققته في مصر، حيث رعت قوى الثورة العربية المضادة انقلابا عسكريا ضد أول رئيس مصري منتخب، محمد مرسي.
وخلال الست السنوات الماضية، أنفقت قوى الثورة المضادة ربما عشرات المليارات أو أكثر في دعم النظم الاستبدادية وأنصارها، وبناء نظم جديدة، خصوصا في مصر وليبيا، وخلال عام 2014 تعرضت دولة قطر لحملة دبلوماسية خليجية قوية، أدت إلى إغلاق قناة الجزيرة مباشر مصر، والتي مثلت صداعا لنظام الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، قائد الانقلاب العسكري.
ويبدو أن التطورات الإقليمية أخيرا، خصوصا في سورية، والخارجية المتمثلة في صعود دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، أعطت دفعت جديدة لقوى الثورة المضادة لإعادة التركيز على دعم السلطويات في المنطقة، خصوصا في ظل حديث أميركي عن تعاون غير مسبوق بين حلفاء أميركا العرب مع إسرائيل ورغبته في الوصول إلى صفقة قرن بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وبعد أيام على انتهاء زيارة ترامب المنطقة، انطلقت حملة قمع إقليمية واسعة، ففي مصر أغلقت عشرات المواقع الإخبارية المعارضة والمستقلة، وتم توجيه اتهام قضائي لخالد علي المرشح السياسي المحتمل بتهمة "فعل فاضح"، يمكن أن تمنعه من الترشح للرئاسة، لو صدر فيها حكم قضائي يدينه، وهو ما وصفته منظمة العفو الدولية بأنه حملة "استباقية لسحق المعارضين"، كما أقرّ الرئيس السيسي قانوناً جديداً للجمعيات الخيرية، من شأنه تقويض العمل الأهلي في مصر.
وفي ليبيا، تقدمت قوات خليفة حفتر لتوسع نفوذها غربا، وسيطرت على صحراء الجفرة الاستراتيجية وسط البلاد، في ظل دعم الطيران المصري لها، على الرغم من رفض خليفة حفتر وقواته حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من الأمم المتحدة.
وفي اليمن، حاول سياسيون جنوبيون، مدعومون من دولة الإمارات، إعلان كيان انفصالي في جنوب اليمن في تقويض واضح لسلطة الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي، وتوقفت المحاولة بعد رفض مجلس التعاون الخليجي لها، وهي تطورات سبقت زيارة ترامب، ولكنها ترتبط بالموجة نفسها من الثورة المضادة.
أما أحدث التطورات فهي المقاطعة الدبلوماسية لقطر من السعودية والإمارات والبحرين
ومصر، بعد حرب إعلامية شرسة، انطلقت بعد أيام من زيارة ترامب مستخدمةً ما تسمى إعلاميا الأخبار الكاذبة بعد نشر بيانٍ ملفق على موقع وكالة الأنباء القطرية بعد اختراقه، وهو بيان نفته ودانته قطر. ويبدو أن تلك الدول لن تنسى لقطر دورها في دعم الربيع العربي، ولا أنها من الدول العربية التي تعترف بوجود معارضة للنظم القائمة.
والواضح أيضا أن الموجة الجديدة للثورة العربية المضادة عالية، وإنها اتخذت إجراءاتٍ غير مسبوقة، وإنها استمرار لخط النظم العربية السلطوية التي تخوض حربا صفرية ضد الأصوات المخالفة والمطالب بالتغيير، وذلك في ظل تراجع أميركي واضح عن كل ما له علاقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة.
ويبقى السؤال عن المدى الذي تصل إليه الموجة الجديدة، وما يمكنها تحقيقه، وقد نشهد، في الأيام المقبلة، تصعيدا أكبر في ليبيا وضد قطر وتركيا وقوى المعارضة العربية، وقد تحقق الثورة المضادة ما تراها نجاحاتٍ على المستوى المنظور من خلال ترسيخ الأنظمة القمعية. والمؤسف أن تلك النجاحات لن تساهم إلا في تقويض الدول العربية نفسها، فالدول القوية تُبنى على حكم المؤسسات وسيادة القانون ونشر التسامح والتعدّدية وتوفير فرص الحياة الكريمة في أوساط الشعوب، أما القمع والتنكيل وسحق المعارضين فهو يبني أنظمةً، ولكنه لا يبني دولا راسخة، ولنا في النظام السوري خير مثال، كما أنه يمثل هديةً فورية للتشدّد والمتشددين، وفي مقدمتهم داعش وأخواته.
في سورية، عانى النظام بشدة، وكان على وشك الانهيار قبل تدخل روسيا لإنقاذه في سبتمبر/ أيلول 2015، وكانت السعودية تأمل في الدخول مع دول المنطقة في تحالفٍ عسكري مدعوم أميركيا ودوليا لتغيير نظام الأسد. وفي اليمن، أطلقت السعودية عملية عاصفة الحزم لمواجهة خطر التمدد الحوثي المدعوم إيرانيا، واحتاجت في تدخلها لدعم عربي وإسلامي، في إطار ما يعرف بالتحالف العربي، خصوصا أنها واجهت، في ذلك الحين، موقفا متردّدا من الرئيس الأميركي، باراك أوباما، الذي انتقد بعض الانتهاكات المترتبة على التدخل العسكري في اليمن، ورفض توريط بلاده في الحرب هناك.
لذا، شهد العامان السابقان فترة هدوء مؤقت بين المعسكر الداعم للربيع العربي والرافض له في المنطقة، وامتدت تلك الهدنة عبر المنطقة، حيث عبّر النظام المصري، مراتٍ، عن سخطه من فتور الدعم الخليجي له، وتم احتواء اللواء خليفة حفتر وقواته في شرق ليبيا، وتراجعت وتيرة الخلاف الإعلامي بين المعسكرين والحملة الأمنية على المعارضين في العالم العربي.
ويبدو أن الهدنة المؤقتة انتهت خلال النصف الأول من عام 2017، تزامنا مع صعود الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، بالإضافة إلى عوامل أخرى، فمع بداية عام 2017، رسخ التدخلان، الروسي والإيراني، أقدام نظام بشار الأسد في سورية، ولم يعد ممكنا التدخل الخارجي لإسقاط النظام، خصوصا في ظل رفض إدارة ترامب ذلك. كما أعطى ترامب دعما هائلا للنظم العربية الحليفة، خصوصا في مصر والسعودية والإمارات، ولم تعد المملكة في حاجةٍ لبناء تحالف أوسع في حرب اليمن لمواجهة النقد الأميركي. وتراجع الدور الأوروبي الضعيف في المنطقة بسبب صعود الشعبوية هناك من ناحية، وانفجار الحروب الأهلية في المنطقة وتبعاتها، ما أجبر دولاً أوروبية كثيرة على مراجعة سياساتها، والعودة إلى تحالفها القديم مع ديكتاتوريات المنطقة.
ويبدو أن الزيارة التي قام بها ترامب للمنطقة، وأكد فيها على التحالفات القديمة للولايات
والمعروف أن الثورة المضادة مصطلح يرتبط بالإجراءات القمعية التي اتخذتها دول عربية سلطوية وأنصارها منذ الربيع العربي، حيث رفضت القوى الداعمة للنظم القديمة الثورات العربية، واعتبرتها مؤامرة خارجية مدعومة من الغرب وحكومة أوباما، تشارك فيها جماعات المعارضة العربية، وفي مقدمتها الإخوان المسلمون والقوى الشبابية التي شاركت في الثورات، بالإضافة إلى قطر وتركيا، وهي الدول التي فتحت أبوابها لمعارضين عرب وأصوات داعمة للربيع.
ومنذ اليوم الأول للربيع العربي، والنظم القديمة وأنصارها في السلطة وخارجها يفعلون ما في وسعهم لقمع الثورات، من خلال دعم خصومها ماليا وإعلاميا وعسكريا وخارجيا كذلك، وقد أسهمت الثورة العربية في تعطيل ثورة اليمن، وحماية الرئيس المخلوع، علي عبدالله صالح، من المساءلة، كما ساهمت في تعميق الانقسام في تونس وليبيا، وكان أكبر نجاح حققته في مصر، حيث رعت قوى الثورة العربية المضادة انقلابا عسكريا ضد أول رئيس مصري منتخب، محمد مرسي.
وخلال الست السنوات الماضية، أنفقت قوى الثورة المضادة ربما عشرات المليارات أو أكثر في دعم النظم الاستبدادية وأنصارها، وبناء نظم جديدة، خصوصا في مصر وليبيا، وخلال عام 2014 تعرضت دولة قطر لحملة دبلوماسية خليجية قوية، أدت إلى إغلاق قناة الجزيرة مباشر مصر، والتي مثلت صداعا لنظام الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، قائد الانقلاب العسكري.
ويبدو أن التطورات الإقليمية أخيرا، خصوصا في سورية، والخارجية المتمثلة في صعود دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، أعطت دفعت جديدة لقوى الثورة المضادة لإعادة التركيز على دعم السلطويات في المنطقة، خصوصا في ظل حديث أميركي عن تعاون غير مسبوق بين حلفاء أميركا العرب مع إسرائيل ورغبته في الوصول إلى صفقة قرن بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وبعد أيام على انتهاء زيارة ترامب المنطقة، انطلقت حملة قمع إقليمية واسعة، ففي مصر أغلقت عشرات المواقع الإخبارية المعارضة والمستقلة، وتم توجيه اتهام قضائي لخالد علي المرشح السياسي المحتمل بتهمة "فعل فاضح"، يمكن أن تمنعه من الترشح للرئاسة، لو صدر فيها حكم قضائي يدينه، وهو ما وصفته منظمة العفو الدولية بأنه حملة "استباقية لسحق المعارضين"، كما أقرّ الرئيس السيسي قانوناً جديداً للجمعيات الخيرية، من شأنه تقويض العمل الأهلي في مصر.
وفي ليبيا، تقدمت قوات خليفة حفتر لتوسع نفوذها غربا، وسيطرت على صحراء الجفرة الاستراتيجية وسط البلاد، في ظل دعم الطيران المصري لها، على الرغم من رفض خليفة حفتر وقواته حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من الأمم المتحدة.
وفي اليمن، حاول سياسيون جنوبيون، مدعومون من دولة الإمارات، إعلان كيان انفصالي في جنوب اليمن في تقويض واضح لسلطة الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي، وتوقفت المحاولة بعد رفض مجلس التعاون الخليجي لها، وهي تطورات سبقت زيارة ترامب، ولكنها ترتبط بالموجة نفسها من الثورة المضادة.
أما أحدث التطورات فهي المقاطعة الدبلوماسية لقطر من السعودية والإمارات والبحرين
والواضح أيضا أن الموجة الجديدة للثورة العربية المضادة عالية، وإنها اتخذت إجراءاتٍ غير مسبوقة، وإنها استمرار لخط النظم العربية السلطوية التي تخوض حربا صفرية ضد الأصوات المخالفة والمطالب بالتغيير، وذلك في ظل تراجع أميركي واضح عن كل ما له علاقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة.
ويبقى السؤال عن المدى الذي تصل إليه الموجة الجديدة، وما يمكنها تحقيقه، وقد نشهد، في الأيام المقبلة، تصعيدا أكبر في ليبيا وضد قطر وتركيا وقوى المعارضة العربية، وقد تحقق الثورة المضادة ما تراها نجاحاتٍ على المستوى المنظور من خلال ترسيخ الأنظمة القمعية. والمؤسف أن تلك النجاحات لن تساهم إلا في تقويض الدول العربية نفسها، فالدول القوية تُبنى على حكم المؤسسات وسيادة القانون ونشر التسامح والتعدّدية وتوفير فرص الحياة الكريمة في أوساط الشعوب، أما القمع والتنكيل وسحق المعارضين فهو يبني أنظمةً، ولكنه لا يبني دولا راسخة، ولنا في النظام السوري خير مثال، كما أنه يمثل هديةً فورية للتشدّد والمتشددين، وفي مقدمتهم داعش وأخواته.