ولا يمكن فصل توقيت منح تنظيم القاعدة الضوء الأخضر لجبهة لنصرة عن التطورات التي يشهدها الميدان السوري، ولا سيما في ظل الضغوط الروسية التي تتخذ من تبعية النصرة لـ"القاعدة" تنظيمياً ذريعة لاستهداف مناطق المعارضة السورية.
وتتعرض جبهة النصرة، المصنفة بأنها تنظيم إرهابي، لمشروع استهداف مباشر تم التوافق عليه بين الولايات المتحدة وروسيا. وكان التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب استهدف مقار جبهة النصرة في معظم الأراضي السورية واغتال قيادات لها، آخرهم أبو فراس السوري بريف إدلب.
"الرابطة التنظيمية" ليست أولوية
وفي تسجيل صوتي بثه موقع المنارة البيضاء، (الناطق الرسمي باسم جبهة النصرة)، وجّه أبو الخير جبهة النصرة لاتخاذ ما يلزم من إجراءات تنظيمية "بما يحفظ الجهاد في بلاد الشام". وقال النائب العام لأمير تنظيم القاعدة "إنه مع انتقال الجهاد من مفهوم جهاد نخبة إلى جهاد أمة، لا ينبغي أن يقاد بعقلية الجماعة أو التنظيم بل يجب أن تكون التنظيمات والجماعات دائرة جمع وحشد لا تفريق ومنابذة، وتكون تلك الجهود منطلقاً لمرحلة متقدمة تنشئ لأهل السنة كيانا يمثل مطالبهم". وأضاف أبو الخير "أمام ما تقدم، وانطلاقاً من مسؤوليتي، فإننا نوجه جبهة النصرة إلى المضي قدماً بما يحفظ مصلحة الإسلام والمسلمين ويحمي جهاد أهل الشام ونحثّهم على اتخاذ الخطوات المناسبة تجاه هذا الأمر".
واستشهد أبو الخير بتسجيل صوتي لزعيم تنظيم القاعدة يقول فيه "إن أخوّة الإسلام التي بيننا هي أقوى من كل الروابط التنظيمية الزائلة المتحولة، وأن وحدتكم واتحادكم وتآلفكم أهم وأعز وأغلى عندنا من أية رابطة تنظيمية"، مضيفاً "بل يضحى بلا تردد بتلك الروابط التنظيمية الحزبية إذا تعارضت مع تآلفكم ووحدتكم واصطفافكم في صف واحد كالبنيان المرصوص في مواجهة عدوكم العلماني الطائفي الذي تدعمه القوى الرافضية الصفوية وروسيا والصين وتتواطأ معه الحملة الصليبية المعاصرة "، على حد قوله.
ويعتبر هذا التسجيل بمثابة الرخصة من تنظيم القاعدة لجبهة النصرة بفك ارتباطها بالتنظيم.
وكانت النصرة قد بدأت تروّج، أخيراً، عبر مناصريها والمقربين منها وحتى عبر مسؤوليها، وإنْ بشكل غير رسمي، لفكرة الانفصال عن تنظيم القاعدة وتغيير اسمها وشكل وألوان رايتها. وبحسب التسريبات، تتوجه جبهة النصرة للظهور باسم جديد وكيان منفصل تماماً عن تنظيم القاعدة، ويرجح بأن اسمها الجديد سيكون "جبهة فتح الشام".
كما كانت الجبهة حريصة منذ البداية، على التسريب عبر وسائل إعلامية، ومنها مؤسسة "المنارة البيضاء" الناطقة باسمها، أن قرار الانفصال عن "القاعدة" اتُخذ بموافقة السلّم القيادي المعني بالأمر في "القاعدة". وتم الترويج أيضاً أن "القاعدة" هو من طرح فك ارتباط "النصرة" عنه تنظيمياً بناءً على اطلاعه على الواقع الميداني والمتغيّرات العالمية في ظلّ تعاطي أميركا وروسيا مع وضع "النصرة" في بلاد الشام، موضحين أن الفكرة أساساً مطروحة من قبل زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري منذ كلمة "نداء عاجل لأهلنا في الشام"، مطلع العام 2014.
وفي حال تم الانفصال بالطريقة التي يروج لها أنصارها عبر الخطوات المذكورة، فسينطوي ذلك على مخاطر تهدد وجودها، وفقاً لمتابعين.
بدورها لن تكون فصائل المعارضة المسلحة بمنأى عن تداعيات هذه الخطوة وسط تحذيرات من قبل البعض بأن يتسبب قرار النصرة في وسم كل المعارضة المسلحة، دون استثناء، بـ"التطرف" أمام الرأي العام الدولي، وذلك كون "النصرة" طرحت فك الارتباط شكلاً، أي تغيير الاسم والراية من دون التغيير بالإيديولوجية، كما أنّها ربطت فك صلتها بـ"القاعدة" بالتنسيق مع فصائل المعارضة الأخرى.
اسم وراية جديدان
في هذا السياق، يؤكد مصدر أمني في "جبهة النصرة"، لـ"العربي الجديد"، أن "مبايعة النصرة للقاعدة هي قتال وليست مبايعة خلافة، وبالتالي يمكن التخلي عنها في حال كان فك الارتباط يخدم أحد الطرفين". ويشير إلى أنّ "هناك مشكلة قد تحصل ما لم يتم العمل على تفاديها في الوقت الحالي، وهي أن قسماً من عناصر النصرة المهاجرين مبايعون لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري وليس لأمير النصرة أبو محمد الجولاني، الأمر الذي قد يخلق شرخاً داخل النصرة ذاتها". ويرجح المصدر أن "يكون طرح فكرة فك الارتباط بشكل غير رسمي يهدف إلى جس نبض عناصر الجبهة ودراسة مدى استجابتهم لهذه الفكرة، لأن هناك خشية من حصول انشقاقات داخلها وانضمام قسم من عناصرها لتنظيم داعش. كما تحاول النصرة من خلال بث هذا الخبر استيضاح ردة فعل المجتمع الدولي".
من جهته، يؤكد مصدر إعلامي من "جبهة النصرة"، لـ"العربي الجديد"، أن فك الارتباط هو موضوع وقت، مبيناً أنّ "الاسم الجديد لجبهة النصرة بعد فك الارتباط هو جبهة فتح الشام، والراية الجديدة التي سيعتمدها التنظيم بيضاء مكتوب عليها بالأسود كلمة لا إله الا الله محمد رسول الله، وهي رايات تجري طباعتها حالياً وقد تم تسريب صور لها من المطبعة التي تقوم بهذا الأمر"، على حد قوله.
ويبيّن المصدر الإعلامي أن "خطوة فك الارتباط هي اجتهادية مشتركة بين القاعدة وجبهة النصرة، تهدف إلى عرقلة الاتفاق بين أميركا وروسيا، وإعطاء فرصة للفصائل الصادقة في الساحة للتعاون في ما بينها لصد العدوان على الإسلام والمسلمين عموماً"، على حد تعبيره. ويلفت إلى أنّ "هذه الخطوة ستنقل النصرة كقوة مؤثرة وبمنهجها ذاته من كونها تنظيم مصنف على قائمة الارهاب إلى تنظيم جديد غير مصنّف تحت أي وصف".
إلا أن بعض المراقبين يحذرون من أن "النصرة" في حال أقدمت على فك الارتباط بـ"القاعدة" وفق الرؤية التي تطرحها، فهي تسعى للاختباء خلف فصائل المعارضة، أو بشكل أدق التسبب باستهدافهم من خلال طرحها موضوع التنسيق معهم ضمن جبهة واحدة، خصوصاً أنه من غير المرجح أن تتراجع الولايات المتحدة وروسيا عن استهداف النصرة لمجرد تغيير اسمها أو لون رايتها، طالما أنها ستبقى على الفكر نفسه الذي يعمل على إنشاء خلافة إسلامية تعتمد نهج القاعدة ذاته. ويرجح المراقبون أنفسهم أن تخلق هذه الخطوة حالة من الانشقاق حتى بين فصائل المعارضة نفسها التي قد يقبل بعضها التنسيق مع التنظيم الجديد للنصرة فيما سيرفض القسم الآخر الدخول ضمن أي تحالف معه.
وتواجه جبهة النصرة عدداً من التحديات والضغوط على مستويات عدة، أولها الانقسام الداخلي ضمن "الجبهة"، بين "مهاجرين" نسبتهم أقل ويسيطرون على معظم المفاصل القيادية في التنظيم، والذين في حال تم فك الارتباط عن القاعدة سيفقدون قسماً كبيراً من ميزاتهم القيادية بتحول النصرة إلى تنظيم سوري، وبين "أنصار"، وهم أبناء البلد ويشكلون النسبة الأكبر من عناصر التنظيم والذين يبدو أنهم يؤيدون فكرة الانفصال تنظيمياً عن القاعدة، ويرغبون بأن تأخذ الأحكام الشرعية للتنظيم بعين الاعتبار المكوّن السكاني للمناطق التي يتواجد فيها "النصرة".
وهذا الأمر يهدد بانشقاقات داخل "الجبهة" وقد يتحول قسم من عناصرها لمبايعة "داعش" أو الانسحاب من "الجبهة" على أقل تقدير، والانخراط في مجموعات أخرى من التنظيمات السلفية الصغيرة التي تعمل ضمن الأراضي السورية وتسير على نهج تنظيم القاعدة، وفقاً لهؤلاء المراقبين.
أما التحدي الآخر الذي تواجهه جبهة "النصرة" فهو حاضنتها الشعبية في مناطق سيطرتها التي شهدت في الفترة الأخيرة هبات شعبية ضدها تطالبها بالرحيل، وهناك قسم من المعترضين على أدائها كانوا يطالبونها بفك ارتباطها بـ"القاعدة" وتحوّلها لمشروع وطني، وهو الأمر الذي لم تستجب له "النصرة"، لكنها قد تلجأ إليه الآن تحت ضغط المجتمع الدولي، وهو ما سيفقدها الكثير من مصداقيتها كتنظيم مبدئي لا يكترث للإملاءات الخارجية.