النصر مفهوماً سياسياً ونتنياهو في المصيدة
تتعدد أوجه المعضلة التي أوقع فيها بنيامين نتنياهو نفسه. الأمر بات أعقد من مأزق أخلاقي، حمله بقيادته إلى مجزرة واسعة النطاق، خلفت أزمة إنسانية كبيرة، وتجاوز عدد ضحاياها الجنوني الألف من الأبرياء العزل، ولا لكون جريمته من شأنها (لو توافرت يوماً ما إرادة دولية) أن تدرج اسمه على لوائح الاتهام بارتكاب جرائم الحرب، هو وغيره ممن يقودون عملية الجرف الصامد. إنما يؤرق رئيس وزراء إسرائيل اليميني المتطرف، الآن، ورطة مزدوجة استراتيجية وسياسية.
اندفع بيبي، المشهور بغطرسته، إلى حرب اعتبرها مجرد نزهة لطيفة، قد تستغرق أسبوعا أو اثنين، يعود من بعدها مؤزر الانتصار، رافعاً أسهم الليكود (حزبه) لعنان السياسة الإسرائيلية. دفعه غروره إلى قطع وعد بإنهاء سيطرة حماس على قطاع غزة، بل وإزالتها من المشهد للأبد! الوعد الذي بدأ في إيلائه على نفسه، قبل عام ونصف، في حملته الانتخابية، ظل يصعده بثقة حتى لحظة حشد تشكيلات جيش الدفاع الإسرائيلي على أبواب غزة، ويبدو أنه عنون محلاً لحتفه السياسي.
كغبي عتيد، لم يستمع نتنياهو لنصائح المخضرمين ممن سبقوه من دهاة السياسة في إسرائيل، خصوصاً شيمون بيريز، والذي قال، بعد عدة محاولات لإزهاق روح غزة المناضلة: إنها كابوس مفزع. ويبدو أنها ستكون أكثر من مجرد كابوس لبيبي التائه.
ليست حكاية سقوطه وحده؛ فنتنياهو الذي اعتاد، طوال عقدين من خوض معترك التنافس
السياسي، مغازلة الأصوات اليمينية، وخصوصاً الأكثر تشدداً في الطيف السياسي الإسرائيلي، صار ممثلا عن الحالمين بأوهام الصهيونية، ورفض أفكار السلام والإجهاز على عملياته.
التحول يميناً كان يضرب أحزاب إسرائيل جميعا، بما فيها الأحزاب التقليدية، كالعمل (المعراخ)، ولا يفسره سوى صعود سهم المستوطنين الصهاينة في الساحة السياسية الإسرائيلية، وهو أمر لمحه نتنياهو مبكراً، وغازله بخطاب متطرف، ليضمن كتلة معتبرة للتصويت، وجمهوراً عريضاً يؤيده.
الليكود الذي عانى من الانشقاقات في العقد الماضي، وأقساها لحظة خرج من جوفه حزب كاديما اليميني المنافس، كان، أيضاً، يتحول إلى حاضنة للأحزاب والحركات المتطرفة الصغيرة التي يشكلها المتطرفون اليمينيون، وأبرزها حركة تسوميت التي اندمجت معه، وتضخمت أفكارها بداخله. والأمر تجاوز رفع هذا الحزب، بقيادة نتانياهو، شعار "إيريتس إسرائيل"، والدفع بسياسات التهويد الكامل، ورفض الانسحاب من أي أراضٍ عربية، بما فيها الجولان والضفة، والاستمرار في التوسع الاستيطاني، لقد أخذت، أيضاً، التصورات اللاهوتية للصراع، وفق فهم الأكثر تطرفاً بين القادة الدينيين اليهود، تلقي بظلالها على الخطاب السياسي للحزب ولنتانياهو، كما تجد طريقها إلى دائرة القرار في الحزب والحكومة الإسرائيلية.
نتانياهو، إذن، ليس مجرد فرد متطرف، وسياسي متشدد، بل هو، في مغامرته الغزاوية، جاء ممثلاً لطموح سياسي عريض لحزبه وقواعده من اليمينيين، وبخطاب يجسد الفكرة الصهيونية في تموضعها الجديد، الأكثر دموية وتطرفا وعنصرية. فجاءت غزة في وجهه عفية، لتكشف عمق الهوة العنصرية التي يعتاش منها بيبي وأمثاله، وتفضح وجهه العنصري القاتم الذي ينتهي بفعله إلى ارتكاب جريمة الإبادة.
وبعنفه وعجرفته وإصراره على مواقفه الحدية، كشف نتايناهو (للمرة الألف) الحقيقة البائسة لاتفاق أوسلو، وانعدام أي أفق له، الاتفاق الذي أسفر عن مخفر شرطة فلسطيني، سمي اعتباطاً الدولة، وله مقران، أحدهما في غزة، وصنوه في أريحا والضفة، ودفع بفتح دفعاً إلى بيع الثورة الفلسطينية على قارعة المعابر الإسرائيلية، وحدد نضالها في أسواق الاحتكارات، وممارسات الفساد، وإنجازها في القهر والتنكيل اليومي بالشعب الفلسطيني، ونشر الشقاق بين صفوفه المقاومة.
دخل نتانياهو إلى غزة مدفوعاً بحمولته الصهيونية، ورؤاه المتوهمة، وسرعان ما سقط في المصيدة. سقوط أقل آثاره أنه يودي بمستقبله السياسي، وربما في أثر الصهيوني المتعجرف، ينجرف ليكوده العتيد إلى مصير قرينه "المفدال"، حيث مزابل النسيان. فالخزي الذي حاق بالجيش الصهيوني، والدرس القاسي الذي لقنته المقاومة له في أحياء غزة، لم يكسر فقط أنف نتانياهو، بل جعل فريقه وتياره كالتائه، يبحث عمن ينقذ مصيره. ولم يعد الأمر بيد أحد في الداخل الإسرائيلي، بل سيظل مرهوناً بتطورات الموقف في غزة، وإرادة المقاومة. هكذا المستضعفون يحكمون، هؤلاء الذين لا يمكن بحال مقارنة تسلحهم، أو جهوزيتهم، بفرق النخبة التي يختال بها جيش الدفاع، يملون، اليوم، شروطهم على بيبي، وهو كالفأر يتخبط في المصيدة بحثا عن مخرج.
يحتد بعضهم عند ذكر كلمة النصر، ونسبها للمقاومة، شاهرين حصاد الكلفة الإنسانية. الأمر يحتاج منا لفهم النصر في حدوده واقعاً يتحقق. صحيح أنه، بحسابات باردة، يمكن للمراقب التسليم حسابياً بانعدام السبل أمام المقاومة الفلسطينية إلى هزيمة آلة الحرب الإسرائيلية، لكن النصر السياسي ليس مستحيلاً؛ مشهد النصر لا تصنعه جردة القتلى وحجم الدمار على الطرفين؛ إنما درس التاريخ يعلمنا أن حسابات السياسة تجعل انتصار من هم أضعف عسكريا ليس مستحيلاً. النصر بالضرورة مفهوم سياسي، وليس مختصره بحال تمكن آلة عسكرية من قهر خصيمتها، والإجهاز عليها، بل هو، في الأخير، قهر لإرادة الخصم. الحروب السيميترية (تتناظر فيها قوى الطرفين) ربما يصح فيها أن نحسب النصر بجردة الميدان، أما حروب المقاومة المسلحة، ففي تاريخها ما يخبرنا أن انتصار الضعيف ممكن، ويأتي نتاج ظروف سياسية، تتخلق من قلب المعركة العسكرية اللا-متكافئة نفسها.
أولاً: بقهر إرادة القوي ميدانيا، وتعطيله عن بلوغ أهدافه السياسية، وثانياً: كشف زيف الصورة التي وعد بها قبل الشروع في عدوانه، وثالثاً: عبر اندفاعه الذي يخرجه عن قواعد الحرب القانونية والأخلاقية، ويكشف وجهه العنصري، ورابعاً: بإيجاد رأي عام عالمي يدين أفعاله الدموية. وخامساً: بتكليف هذا العدو ضريبة دم عالية، بمعيار حساباته هو، لا يحتملها الرأي العام لديه. وسادساً: مع تأزيم الموقف الدولي من حوله، وإضعاف دائرة دعمه الأساسية، مع تكليف المحيط الدولي المتاخم لساحة القتال خسارات غير مباشرة، جراء هذه الحرب، بما يدفعه للمطالبة بوقف الحرب، والضغط لتحجيم آثارها.
هذه كلها أمور تجعل القوي يتقهقر، وتسمح بانتصار المستضعفين. والنصر في الحال اللامتكافئ شروطه الصمود والاستنزاف للخصم/المعتدي القوي، ودفعه دفعاً إلى عدم تطوير العدوان ميدانياً. وهذه غاية ينجزها التمكن من إطالة أمد القتال، والاستمرار الجسور فيه
وتحمل كلفة النار، وفي المقابل، تصعيد ضريبة الدم الإسرائيلية، وإذلال غطرستها في عيون الواثقين بها. وهذا ما تنجزه المقاومة، بحرفية وذكاء وجسارة.
لا جدال في أن لنصرٍ كالذي يلوح في غزة كلفة إنسانية عالية جداً، وبالخصوص في واقع غزة البائس. ولم يكن في وسع المقاومة تجنب هذه الكلفة. لا يمكن التعامل مع أزمةٍ، كالعدوان على غزة، باعتبارها مغامرة غير مسؤولة، قررها الطرف الأضعف، ومن ثم، يتحمل وزر قراره بخوضها. هذه قراءة متعسفة، منطلقها الأساسي افتراض خاطئ؛ فقرار خوض المعارك نادراً ما يكون خيار الطرف الأضعف. وفي حال بدء العدوان في مثل هذه الأزمات، لا سبيل أمام الضعيف سوى خوضها، أو الموت. التحدي يصير وجودياً؛ ومع هذا الخيار الصفري، يصبح الانتصار ضرورة حياة. لا جدال، مرة أخرى، في أن تقليل كلفة الحرب على الأبرياء مسؤولية كبيرة على المقاومة. لكن، علينا أن ندرك أن إحداث التوازن بين الأمرين صعب المنال.
لا حاجة للتأكيد بأن للنصر شروطا. وأن تحصيل النصر الصعب يحتاج إلى إرادة وفكر استراتيجي حقيقي، وليس طنطنات فارغة، كما استلزم مهارات عليا لإدارة معركة سياسية وإعلامية، على أرفع مستوى، وستظل هذه الشروط مطلوبة، حتى فيما بعد انقضاء العمليات.
أما عن نتنياهو، فمع تدهور موقفه في غزة، وتعذر إنقاذه بهدنة تنحاز بشروطها إليه، ربما ينتهي به الحال إلى إعلان وقف إطلاق النار من طرف واحد، كي يتجنب وضع توقيعه على اتفاقية مؤلمة مع حماس، على غرار ما أذعنت به لحزب الله في 2006. هذا الإعلان بذاته سيمثل اعترافاً كاملاً بالهزيمة من المقاومة، وإقراراً عملياً بسلطة حماس.
نتنياهو ليس مثل متنطعين لدينا. لن يجادل في أن النصر مفهوم سياسي، وليس عسكرياً، ولن نراه واقفاً، بتبجح مستعرضا أعداد من قتلهم، ولا سارداً قوائم من دمر بيوتهم، فذلك خزيه، يلاحقه هو والجيش الذي لا يجيد سوى معاقبة العزّل وتدمير المنازل، وهو يطنطن بصورته الزائفة، ويتبجح هاتفاً بأنه أكثر جيوش العالم أخلاقية، وتمسكاً بمبادئ الحرب النبيلة. يا له من نبلٍ، جسدته صور القتلى من الأطفال! نتنياهو سيعود منكس الرأس، مقراً بخيبته، باحثا عمن يفتح له باب المصيدة، ولن يرحمه أحد من منافسيه، فمغامرته الفارغة أنتجت وضعاً أمنياً هو لصالح حماس والمقاومة بامتياز، ومهدد في الوقت عينه لإسرائيل.