تعيش محافظة درعا جنوبي سورية أوضاعاً متوترة منذ استعادة قوات النظام، بمساعدة روسية، السيطرة عليها صيف العام الماضي. والأبرز في هذا المشهد عمليات الاغتيال "المجهولة"، والاعتقالات التي تواصل القيام بها أجهزة أمن النظام المتنافسة في المحافظة، في ظل حالة استقطاب ترعاها روسيا وإيران.
ومع بلوغ حالة التململ والتمرد درجة مرتفعة، تمثلت في شهر السلاح بوجه قوات النظام، والتهديد بالعصيان، فضلاً عن خروج تظاهرات احتجاج، وبروز كتابات مناوئة للنظام على الجدران، تسعى سلطات النظام، وبضغط مباشر من روسيا فيما يبدو، إلى محاولة استرضاء الأهالي، من خلال الاستجابة لبعض مطالبهم، خصوصاً ما يتصل بالإفراج عن المعتقلين، والكف عن الملاحقات الأمنية، وتسهيل حياة المدنيين في العمل والتنقل والدراسة. وفي هذا الإطار، ذكرت مواقع محلية أن عفوا خاصاً صدر بحق مئات المطلوبين في درعا، وذلك خلال اجتماع في مبنى المحافظة، بحضور المحافظ خالد الهنوس. وحسب مراسل قناة "سما" الموالية للنظام، فقد تم الإفراج عن 15 موقوفاً والعفو عن 1090 مطلوباً في محافظة درعا، مضيفاً أن العفو شمل أيضاً 2024 شخصاً كان بحقهم بلاغات توقيف أو مذكرات.
ورأى موقع "سناك سوري" المحلي، أن العفو يأتي تلبية لمطالب الأهالي الذين "طالما طالبوا بإنهاء الملفات الأمنية، وخصوصاً إطلاق سراح المعتقلين والعفو عن المطلوبين، كمدخل لحل شامل في المحافظة، يجنبها المزيد من العنف". غير أن الناشط الإعلامي محمد الشلبي شكك بجدية وعود النظام بشأن المعتقلين. واعتبر، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "من يسعى إلى طيّ ملف المعتقلين، كان الأجدر به ألا يقوم باعتقالات جديدة كل يوم"، مشيراً إلى أن الكثير من أجهزة النظام ومليشياته تقوم بعمليات اعتقال أو مضايقات للمواطنين، دون تنسيق في ما بينها، وربما أحياناً دون تنسيق مع الجهات العليا المسؤولة عنها. ولفت الشلبي إلى "حالة الاستقطاب والتنافس في المحافظة بين الأجهزة والمليشيات الموالية لإيران وتلك الموالية لروسيا، ما يجعل من الصعب ضبط مسألة الاعتقالات، حيث لا سلطة موحدة تخضع لها جميع هذه القوى، فضلاً عن أن النظام معروف عنه المماطلة والمراوغة في ما يخص ملف المعتقلين، حيث ينكر في كثير من الأحيان وجود معتقلين لديه، ويحاول إلقاء مسؤولية غيابهم على أطراف أخرى. ومن غير المستبعد أن يكذب، حتى على الروس أيضاً في هذا المجال، الذين بات الأهالي يتوجهون إليهم من أجل الضغط على النظام للإفراج عن المعتقلين".
وفي سياق المحاولات الرامية إلى استرضاء الأهالي خشية تصاعد روح التمرد، وخروج المحافظة مجدداً عن سيطرة النظام، قالت مصادر محلية إن قوات النظام فكت، الخميس الماضي، الحصار الذي كانت تفرضه على مدينة الصنمين بريف درعا الشمالي. وذكرت المصادر أن قوات النظام فتحت الطرق المؤدية إلى المدينة، وسمحت بخروج ودخول المدنيين والموادّ الغذائية إليها بعد ثمانية أيام من الحصار، مشيرة إلى أن ذلك جاء بعد زيارة وفد من وجهاء حوران برفقة القوات الروسية إلى المدينة للاتفاق مع قوات النظام على حل الخلاف وفك الحصار عنها. وكان بعض الشبان في الصنمين استهدفوا قوات النظام في المدينة بالأسلحة الرشاشة والقذائف بعد اعتقال ثلاثة شبان، خلال بحثهم عن القيادي السابق في فصائل المعارضة وليد الزهرة، ما أدى إلى مقتل ضابط وعنصر في تلك القوات، التي أقدمت بعد ذلك على محاصرة المدينة مطالبة بتسليم مطلقي النار.
وانتقلت أجواء التوتر هذه إلى بلدة جلين بريف درعا الغربي، التي شهدت استنفاراً أمنياً لفصائل "التسوية" على خلفية اعتقال قوات النظام القيادي السابق في فصيل "جيش المعتز بالله" هيثم حريري، حيث نشرت الفصائل حواجز على طريق جلين وطريق مساكن جلين، وذلك بعد أن أنكرت أجهزة الأمن اعتقال القيادي. وقالت مصادر محلية إن عناصر من فصائل المصالحات سيطروا على مفرزة الأمن العسكري في جلين وسحم، واعتقلوا عناصرها الذين زاد عددهم عن العشرة، وطردوا عناصر النظام من حاجز المزيرعة، وذلك كرد فعل على اعتقال هذا القيادي، وهو ما اضطر قوات النظام للإفراج عنه في وقت لاحق. وكان حريري انضم إلى "الفرقة الرابعة" بعد سيطرة قوات النظام على درعا صيف العام الماضي، بموجب "اتفاقيات تسوية" خضعت لها كل منطقة على حدة. وبموجب بعض هذه الاتفاقات، بقي السلاح الخفيف بيد فصائل المعارضة السابقة، ولم يسمح لقوات النظام بالدخول إليها، بل نصبت حواجزها على مداخلها، بحيث تتحكم بالدخول والخروج، ويتم اعتقال الأشخاص المطلوبين على هذه الحواجز.
وحسب تقرير صدر عن مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قبل أيام، فإن شروط "اتفاق التسوية" تختلف من منطقة إلى أخرى في محافظة درعا، التي لا تزال فصائل المعارضة تحتفظ بالسيطرة العسكرية على 20 في المائة منها. كما وقّع فصيل "قوات شباب السنة" بقيادة أحمد العودة اتفاقاً منفصلاً مع القوات الروسية، تم بموجبه تعيين العودة في قيادة التشكيل العسكري الجديد المرتبط بموسكو، والمعروف باسم "الفيلق الخامس". وإذا كانت "اتفاقات التسوية" التي رعتها روسيا، حدّت من حرية تحرك النظام في المناطق الجنوبية، فإن الأجهزة الأمنية تقوم بحملات اعتقال في مناطق درعا وريفها، طاولت في معظمها أشخاصاً ممن عملوا سابقاً في صفوف الجيش السوري الحر، بحجة وجود دعاوى شخصية ضدهم. وحسب تقرير الأمم المتحدة، فقد تم اعتقال نحو 380 شخصاً في محافظة درعا منذ سيطرة النظام على المحافظة حتى مارس/ آذار الماضي. وأوضح التقرير أن هناك مخاوف لدى سكان محافظتي درعا والقنيطرة تتمثل بالتجنيد الإجباري، لمن هم فوق سن 18 سنة، في صفوف جيش النظام أو الانضمام بدلاً من ذلك إلى أي من الأفرع الأمنية، مشيراً إلى أنه ليس أمام من يرفض هذه الخيارات سوى الفرار من المناطق الخاضعة لسيطرة قوات النظام والمخاطرة بالاعتقال، أو يبقى محاصراً في مناطق "التسوية" التي لا تستطيع قوات النظام دخولها، أو الانضمام إلى "الفيلق الخامس" بقيادة أحمد العودة.
وحسب تقرير صدر أخيراً عن منظمة "هيومن رايتس ووتش"، فإن أفرع الاستخبارات السورية تحتجز وتُخفي وتضايق الناس تعسفياً في المناطق المستعادة من جماعات المعارضة. وحسب شهادات سكان محليين، فإن تلك الأجهزة "احتجزت وضايقت أشخاصاً لهم صلة بالنشطاء المناهضين للحكومة أو مقاتلين سابقين، بالإضافة إلى منشقين، أو أعضاء الجماعات المناهضة للحكومة، أو نشطاء. كما تعرض العاملون الإنسانيون، وقادة المجتمع، والنشطاء الإعلاميون، الذين لم يغادروا المناطق التي تسيطر الحكومة عليها للاحتجاز والمضايقة". وحددت المنظمة بعض المناطق التي حدثت فيها هذه التجاوزات، وهي داعل، وإبطع، ونوى، واليادودة، وعتمان في محافظة درعا، وبلدة في محافظة القنيطرة حُجب اسمها بسبب مخاوف من الانتقام، مشيرة، استناداً إلى شهادات السكان بشأن نقاط التفتيش والأفراد الذين يُجرون المداهمات، إلى أن داعل وإبطع تخضعان لسيطرة "الاستخبارات الجوية"، في حين تخضع اليادودة وعتمان لسيطرة "الاستخبارات العسكرية". وقد حاولت موسكو في بعض الأحيان لعب دور في الضغط على النظام للإفراج عن بعض المعتقلين، إلا أن استجابة النظام غالباً ما تكون محدودة، إلا حين يتعلق الأمر باسم محدد له وزن اجتماعي أو صلات مع روسيا، وخصوصاً أن أجهزة النظام ضليعة في المراوغة والتنصل من عمليات الاعتقال. كما أن لجوء السكان إلى الاحتجاجات في بعض المناطق التي ينتمي المعتقلون إليها أسهم في بعض الأحيان في إطلاق سراحهم.