تتجه كافة الأنظار خلال الفترة المقبلة نحو فرنسا، حيث ينتظر جميع المتابعين يورو 2016 بفارغ الصبر، إنها البطولة التي تقام كل أربع سنوات، وتُحدث ثورات تكتيكية مبهرة ينعكس أثرها على جميع الأندية خلال فترات متعاقبة. ومع اقتراب البداية الفعلية للمنافسة الأكبر هذا الموسم، يجب التركيز على بعض الأسماء التدريبية التي يُنتظر منها الكثير في هذه المسابقة، على صعيد تقديم عمل خططي محترم، مع ترك النتائج النهائية وفق سيناريو المباريات وأحكام القرعة.
ليالي الأنس
ينطلق الشعب النمساوي من فيينا، المدينة التي تشتهر بالذوق الرفيع والتناسق البديع، عرفت بجلسات الفن والأدب والثقافة في مقاهيها ومجالسها، لكن مع السنوات الأولى من القرن الماضي كان الاهتمام بكرة القدم فوق مستوى التصورات، نتيجة الثورة التكتيكية الكبيرة للأخوين مايزل في بلاد الجمال الطبيعي.
كرة القدم في النمسا كان لها طابع مختف، 40 إلى 50 ألف مشجع كل يوم أحد من كل أسبوع يشاهدون مباريات كرة القدم. تشكلت ما يعرف باسم "بيوت القهوة" هي أماكن تشبه قصور الثقافة ومكتبات القراءة، مبان يجلس فيها الناس لقراءة كتاب أو جريدة أو مشاهدة عرض فني مع احتساء كوب قهوة، ومع تطور الكرة في بلاد الدانوب، أصبحت بيوت القهوة تجمعا أساسيا للباحثين عن متعة الساحرة المستديرة وللحديث عن كل ما هو جديد في عالم كرة القدم.
وتأثرت اللعبة هناك بعوامل كثيرة كالحروب والثورة الصناعية وأمور أخرى، لتتحول النمسا من بلد يتنفس الكرة إلى مجرد دولة من دول الجوار الألماني، لكن خلال الآونة الأخيرة يبدو أن الجيل الحالي عاقد العزم على استعادة الايام السابقة، بأداء متطور ونتائج مبهرة، كان آخرها الصعود السريع إلى يورو 2016، كأفضل منتخب في التصفيات على صعيد الأداء والنتائج، وكأن بيوت القهوة قد أعيد تشكيلها في القرن الحادي والعشرين.
العائلة النمساوية
قبل عدة سنوات بالتحديد عام 2008، احتل منتخب النمسا المركز رقم 70 في تصنيف الفيفا، وبعد نتائج غير مرضية خلال التصفيات المؤهلة إلى نهائيات كأس العالم البرازيل، استقال المدرب ديدي كوستانتيني من الإدارة الفنية للمنتخب ليخلفه كولر في نهاية عام 2011 وفق ما أكد موقع "فيفا"، ومنذ ذلك الوقت تحسنت أحوال المنتخب، حتى نجح في الوصول إلى يورو 2016 بكل جدارة واستحقاق.
صعدت النمسا في مجموعة ضمت السويد، روسيا، الجبل الأسود، ليشتنشتاين، ومولدوفا، عندما تصدرت الجولات برصيد 28 نقطة من خلال 9 انتصارات وتعادل واحد دون هزيمة في 10 مباريات. يقول كولر عن هذا الإنجاز، " إنه تقدير لم يسعدني أنا فقط بل أسعد النمسا كلها، وأجد في العمل مع الفريق متعة كبيرة للغاية، كل ما أعدكم به أن تنتظرونا في فرنسا بطريقة مغايرة هذه المرة".
المفارقة الغريبة أن مارسيل كولر سويسري وليس نمساويا، بدأ حياته التدريبية في الدوري السويسري مع عدة فرق، قبل أن يتوجه سريعا إلى المصدر الأول للكرة في بلاد نهر الدانوب، ألمانيا وبطولتها الأشهر بوندسليغا مع فريق كولن، لكنه لم يترك بصمة واضحة، لينتقل إلى بوخوم ويقدم نتائج متأرجحة، ليحصل على فرصته الحقيقية مع منتخب النمسا، ويتحول برفقة هذا المنتخب المتواضع إلى نسخة مغايرة تماما، من خلال أداء سريع وقوي، قائم على اللعب المباشر والتحولات الخاطفة.
المبادرة أولا
توقفت كرة القدم في مجال تطورها لسنوات خلال أيام الحرب القديمة، لكن لم يتأثر النمساويون لأن اللعبة هناك تمت حمايتها بأفكار مبتكرة وجديدة لأسماء مبتكرة كجيمي هوجان ومايزل، لذلك يعتبر هذا البلد من أصول الكرة الهجومية في بلاد أوروبا، ورغم تراجع مستويات فرقهم خلال السنوات الأخيرة، إلا أن العودة من الممكن أن تكون مختلفة هذه المرة مع كولر ولاعبيه.
يقول مارسيل كولر عن نوعية الكرة التي يفضلها، "أحب الكرة التي تعتمد على المبادرة، يجب أن نكون نحن الفعل وليس رده، لذلك علينا خلق فرص عديدة واللعب بطريقة سريعة من الخلف إلى الأمام، من أجل التحكم في نسق المباراة وإجبار الخصم على الخضوع لفلسفتنا مهما كانت قوته وتاريخه".
لا يوجد طريقة معينة للفوز أو اتجاه واحد لتسجيل الأهداف، وبالتالي يفضل كولر دائما الحصول على الكرة من لاعبي منافسه، بالضغط المستمر في نصف ملعبه، وتطبيق المرتدة الخاطفة على طريقة "الجيجن برسينج"، هذه الكلمة المعروفة في ألمانيا وجيرانها، وبالتالي يضع المدرب نصب عينيه تدوير الكرة بأسرع طريقة ممكنة، وللوصول إلى أفضل جودة ممكنة، يدرب لاعبيه على الجميع بين اللياقة العالية والجودة النوعية المطلوبة.
طريقة اللعب
تلعب النمسا في أغلب المباريات بطريقة لعب 4-2-3-1 الحديثة، التي تتحول في بعض المواجهات إلى 4-4-2 بصعود صانع اللعب إلى الهجوم، وغلق منطقة الوسط برباعي صريح في العمق وعلى الأطراف. ويعرف الفريق كيف يحمي مرماه من الأهداف، من خلال الاعتماد على ثنائي قوي في ألعاب الهواء مع أظهرة سريعة في الارتداد السريع.
ويقود هذا الخط كريستيان فوكس نجم ليستر سيتي، اللاعب الذي يتواجد على اليسار، في سبيل وضع نجم الفريق ألابا في منطقة الارتكاز. يحب كولر لاعبه ألابا كثيرا، ويعتبره دون جدال أهم نجوم المنتخب النمساوي، نتيجة قدرته على التسديد من بعيد، مع قيامه بالواجبات الدفاعية على أكمل وجه، ويقوم نجم بايرن بدور محوري في التشكيلة، لأنه لاعب دفاعي بدرجة صانع لعب هجومي.
يفضل مارسيل وضع لاعب ارتكاز آخر بجواره من أجل التغطية الدفاعية أثناء تقدمه لمساندة لاعبي الهجوم. ألابا بكل تأكيد ليس النجم الوحيد لكنه الأميز، دون نسيان أرناوتوفيتش لاعب ستوك سيتي، الذي يتواجد في الغالب كجناح هجومي، رفقة زلاتكاو يونوزفيتش ومارك يانكو والبقية.
"لا نعرف بعد إلى أين سيوصلنا هذا الطريق، قلت قبل بضعة أشهر إنه من المهم تأكيد هذا الأداء، يجب أن يكون هدفنا هو ضمان الثبات والاستمرارية واللعب بانتظام في المستوى العالي"، فهل يقدم كولر وفريقه بطولة كبيرة بقدر ما حققه في التصفيات؟