14 نوفمبر 2024
الهجوم التركي.. أحدث حلقات المقتلة السورية
الوحش الذي أفلت عقاله في سورية يبدو كسلاسل حديدية مترابطة، كدورات من المعارك المتتالية، المتجاورة، وعبثاً تحاول إيجاد فاتحتها، أو جذرها: هل هي بقرار بشار الأسد إطلاق النار على المتظاهرين السلميين منذ سبع سنوات؟ أم في طبيعة "البعث" نفسه، وحركته "التصحيحية" التي كرّست والد بشار حاكماً مطلقاً على سورية، بقوة جرّافات القتل الجماعي والفردي وأشكال الإخضاع التي باتت معروفة؟ أم إن أصولها تعود إلى الانتداب الفرنسي، أو مظالم الحكم العثماني، أو الفتوحات الإسلامية، أو الرومانية.. وصولاً إلى أبونا آدم وأمنا حواء، اللذين لم يربيا أولادهما بطريقة صحيحة، فكانت حكاية قتل ابنهما قايين ابنهما الثاني هابيل؟ لا نفع ربما لتساؤلٍ كهذا. ولكنه على الأقل يتابع هول السلاسل المديدة للمقتلة الكبرى الواقعة في سورية.
لنتفق على نقطة بدء كي لا نضيع في التأريخ للمآسي السورية القديمة - الجديدة. نبدأ من لحظة انفجار انتفاضة السوريين السلميين ضد بشار الأسد، وارث حكمه عن أبيه. أول رصاصة أطلقتها قواته على تلك التظاهرات هي نقطة الانطلاق. ومن بعدها، ندخل في أتون السلسلة المتسارع، الأشد تسارعاً ربما من كل المواقع السابقة. حيث يقتل سوريون سوريين آخرين، يستبيحون بذلك قتلهم على يد أي كان. في هذه البداية من السلسلة، يتسلح سوريون عفوياً، فيردّون على القتل بحماية أنفسهم منه. ولا يمضي وقت طويل، حتى تتشكّل المجموعات المسلحة، ذات الطابع الجهادي أو السلفي بغالبيتها، وبجنسيات الأرض كلها، تغرق المجموعات الأخرى غير الدينية بسطوتها ومالها، فتكون أولى النوافذ نحو القتل الدولي والإقليمي.
هكذا يسهل على بشار الأسد الاستنجاد بمليشيات إيران ومستشاريها العسكريين، ليقتلوا بتصويب واضح على السوريين، ويهجروا ويحاصروا ويُخضِعوا ويجوعوا؛ ويقتربوا من الحدود في
الجولان، المحتلة أصلاً، بالحجة الكاذبة اياها، فتكون الردود الإسرائيلية، في عمق الأراضي السورية، بهجماتٍ دقيقة على ثكناتهم أو قوافلهم الناقلة للسلاح. لم تكن هذه الدورة كافية عسكرياً، لم تختتم، لأنها لم تتمكّن من حسم ميزان القوى. فكان الروس، بطائراتهم وصواريخهم، يقتلون مزيدا من السوريين. وكان الرد الأميركي عليهم، غير المعروف إن كان تكتيكاً أم إستراتيجية، بالتحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، لا يختلف بتصويباته عن الذين سبقوا أميركا. من يتذكّر شعارات تلك المرحلة غير البعيدة؟ كان القول الشائع بين جميع القتلة إنهم بصدد "معركة ضد الإرهاب". على أساس أن نهاية هذه المعركة ستكون نهاية الحرب في سورية.
ولكن: نسوا منطقة متفجرة، وقضية متفجرة، كانت تدور رحاها ليس بعيداً جداً، في شمال شرق سورية. المسألة الكردية، ذات الجذور العميقة والحق المسلوب، في لعبة الأمم الكبرى المتحاصصة. الكرد السوريون، أو بالأحرى قيادتهم الأقوى ميدانياً، "نأت بنفسها" عن تلك الحرب، فأسّست إدارتها الذاتية. وساعدها بشار على هذا النأي، متذاكياً، موارباً، مثل أبيه، اعتقد أنه سوف يتفرغ للكرد لحظة تنتهي المعركة ضد الإرهاب التي خاضوا أكبر محاورها، وأبدوا فيها فعالية قتالية عالية وتماسكا وتنظيما مفقودين عند نظرائهم من العرب. الجحافل التركية أعفت بشار الأسد من المهمة، فدخلت في السلسلة، بعدما خاصم رئيسها أردوغان الفرع التركي من الكرد، وحوّله عن النضال السلمي، فانتقل إلى شمال شرق سورية، لعله بذلك يحصل على أرض تحيي شيئاً من الدولة الكردية الموعودة منذ مائة عام. ولكن أردوغان لا يستسلم بسهولة. رفع أرنبا منفرداً، فدخل بقيادة أركانه، وجنوده الأنفار السوريين (الجيش الحر) وأعلن أن الحرب ضد الإرهاب لم تنتهْ. وأن الحزب الذي شارك بفاعلية ضد الإرهاب هو بالأصل إرهابي مرتبط حميمياً بالفرع التركي الذي نزلت عليه اللعنات، بعدما كان الحوار معه وصل إلى مبالغ متقدمة.
وإذا أردتَ إجمال اللوحة، بعد هذه الحلقة الجديدة، التي لم توقف نشاط الحلقات السابقة عليها.. يمكنكَ القول إن سورية الآن تشهد "حرب الجميع على الجميع". تلك الحالة البدائية التي وصفها الفيلسوف الإنكليزي، توماس هوبس، بتشاؤم واضح، من أن الإنسان في حالته "الطبيعية"، أي من دون أنظمة ولا قوانين ولا سلطة رادعة، هو في حالة حرب دائمة، لا يسلم من العوز والخراب والتهجير والترحال والجهل، والحرمان من الابتكار والتأريخ والتذكر.. إلخ. لكن ما لم يلحظه هوبس، ما لم يتنبأ به، وهو ابن القرن السابع عشر، أن "حرب الجميع على الجميع" يمكن أن ترتدي تلويناتٍ خاصة، كالحاصل في السورية منها.
ليس الجميع متساوين في هذه الحرب. مهما قلنا عن سقوط قتلى من بين الروس أو الأتراك أو الإيرانيين أو اللبنانيين أو العراقيين أو الأفغان من مليشياتهم، أو حتى الفرنسيين أو البريطانيين أو القوقازيين أو الصينيين من بين الجهاديين.. فإن عدد قتلاهم ولاجئيهم سخيف أمام هول عدد السوريين منهم، فضلاً عن بلدانهم التي إذا عادوا إليها سالمين ولو مكبَّلين، فلن يصدَموا بمشهد خرابها، كالذي نال من سورية.
والحلقة الجديدة من سلسلة القتل لا تختلف عن سابقاتها: عملية "غصن الزيتون" يقودها
الأتراك بطائراتهم وصواريخهم، ولكن بمشاةٍ من السوريين، يقتلون وجهاً لوجه سوريين من المجموعة الكردية التي اعتقدت أن العالم سيكافئها بعدما قاتلت الإرهاب بجدارة. معادلة توماس هوبس هنا تحتاج إلى تعديل غير طفيف. إنها ليست حرب الجميع على الجميع فحسب، إنما هي حرب بين أشقياء السوريين، فوق رأسهم قيادات مضبوطة، حاسِبة، يقينية.
وما يجمع هذه القيادات كلها أنها تدخل في الحرب على سورية بهموم كلها "وجودية"، متوّجة بأكاليل أمجادها الغابرة. الروس بقيصريتهم التليدة، الإيرانيون بفارسيتهم الإمبراطورية، الأتراك بعثمانيتهم السلطانية، ناهيك عن الأميركيين بعودتهم، مع ترامب، إلى عصر العظمة الأميركية البيضاء.. في موقعة عفرين أخيرا، قيست هذه الأحلام الإمبرطورية بدقة الحسابات، بشطارة الخائضين بلعبة الشطرنج على الرقعة السورية، البعيدة عن بلادهم المحروسة. قال الأميركيون، داعمو الكرد، في الهجمة التركية كلاماً خجولاً ومتناقضاً. الروس الذين اعتُبروا حلفاء ضمنيين للكرد انسبحوا واستنكروا الهجمة التركية برخاوة غير معهودة (قارن مثلاً مع إسقاط الأتراك طائرة روسية منذ ثلاثة أعوام، وشراسة ردّ بوتين على ما اعتبره "طعنة" تركية في ظهره)، والإيرانيون ابتعدوا، ربما لأن "اشتغالا" كهذا يفيدهم لناحية كردهم. فهم برعوا، مع الأتراك، في إطلاق حرية الهجوم على كركوك، وتقويض الدولة الكردية العراقية الناشئة.. ومثلهم الإسرائيليون الذين لا تتعارض المقتلة مع استراتيجيتهم. إذ لن يجدوا في الدنيا كلها أعداء وأصحاب حق على هذه الدرجة من الشقاء.
أما ما يجمع ضحايا هذه الموقعة، فهو سذاجة اعتقادهم بأن واحدا من "حلفائهم"، الإقليميين أو الدوليين، يقف معهم كرمى عيون ثورتهم، أو يقاسمونهم توقهم للحرية. الكرد الآن، العرب الآن وفي ما مضى، منذ مئة عام + ثلاث سنوات، عندما وعد البريطانيون الشريف حسين بالاستقلال عن العثمانيين إذا قاتل هؤلاء إلى جانبهم، يحصل على مملكة الوحدة والاستقلال. وكانوا، أي البريطانيين، في الأثناء نفسها يعدّون لوعد بلفور الذي مزّق الأرض الموعودة بالوحدة والاستقلال. الحرب على عفرين اليوم تستحضر ثورة الشريف حسين. والدرس غير المحفوظ، لا عربياً ولا كردياً، من أن"الحلفاء" الدوليين، وغير الدوليين، إنما هم أصحاب مصالح عليا، يصرفونها كـ"التزامات"، برهة، دائماً قصيرة، كفيلة بالكشف السريع عن نفض أيديهم منها.
لنتفق على نقطة بدء كي لا نضيع في التأريخ للمآسي السورية القديمة - الجديدة. نبدأ من لحظة انفجار انتفاضة السوريين السلميين ضد بشار الأسد، وارث حكمه عن أبيه. أول رصاصة أطلقتها قواته على تلك التظاهرات هي نقطة الانطلاق. ومن بعدها، ندخل في أتون السلسلة المتسارع، الأشد تسارعاً ربما من كل المواقع السابقة. حيث يقتل سوريون سوريين آخرين، يستبيحون بذلك قتلهم على يد أي كان. في هذه البداية من السلسلة، يتسلح سوريون عفوياً، فيردّون على القتل بحماية أنفسهم منه. ولا يمضي وقت طويل، حتى تتشكّل المجموعات المسلحة، ذات الطابع الجهادي أو السلفي بغالبيتها، وبجنسيات الأرض كلها، تغرق المجموعات الأخرى غير الدينية بسطوتها ومالها، فتكون أولى النوافذ نحو القتل الدولي والإقليمي.
هكذا يسهل على بشار الأسد الاستنجاد بمليشيات إيران ومستشاريها العسكريين، ليقتلوا بتصويب واضح على السوريين، ويهجروا ويحاصروا ويُخضِعوا ويجوعوا؛ ويقتربوا من الحدود في
ولكن: نسوا منطقة متفجرة، وقضية متفجرة، كانت تدور رحاها ليس بعيداً جداً، في شمال شرق سورية. المسألة الكردية، ذات الجذور العميقة والحق المسلوب، في لعبة الأمم الكبرى المتحاصصة. الكرد السوريون، أو بالأحرى قيادتهم الأقوى ميدانياً، "نأت بنفسها" عن تلك الحرب، فأسّست إدارتها الذاتية. وساعدها بشار على هذا النأي، متذاكياً، موارباً، مثل أبيه، اعتقد أنه سوف يتفرغ للكرد لحظة تنتهي المعركة ضد الإرهاب التي خاضوا أكبر محاورها، وأبدوا فيها فعالية قتالية عالية وتماسكا وتنظيما مفقودين عند نظرائهم من العرب. الجحافل التركية أعفت بشار الأسد من المهمة، فدخلت في السلسلة، بعدما خاصم رئيسها أردوغان الفرع التركي من الكرد، وحوّله عن النضال السلمي، فانتقل إلى شمال شرق سورية، لعله بذلك يحصل على أرض تحيي شيئاً من الدولة الكردية الموعودة منذ مائة عام. ولكن أردوغان لا يستسلم بسهولة. رفع أرنبا منفرداً، فدخل بقيادة أركانه، وجنوده الأنفار السوريين (الجيش الحر) وأعلن أن الحرب ضد الإرهاب لم تنتهْ. وأن الحزب الذي شارك بفاعلية ضد الإرهاب هو بالأصل إرهابي مرتبط حميمياً بالفرع التركي الذي نزلت عليه اللعنات، بعدما كان الحوار معه وصل إلى مبالغ متقدمة.
وإذا أردتَ إجمال اللوحة، بعد هذه الحلقة الجديدة، التي لم توقف نشاط الحلقات السابقة عليها.. يمكنكَ القول إن سورية الآن تشهد "حرب الجميع على الجميع". تلك الحالة البدائية التي وصفها الفيلسوف الإنكليزي، توماس هوبس، بتشاؤم واضح، من أن الإنسان في حالته "الطبيعية"، أي من دون أنظمة ولا قوانين ولا سلطة رادعة، هو في حالة حرب دائمة، لا يسلم من العوز والخراب والتهجير والترحال والجهل، والحرمان من الابتكار والتأريخ والتذكر.. إلخ. لكن ما لم يلحظه هوبس، ما لم يتنبأ به، وهو ابن القرن السابع عشر، أن "حرب الجميع على الجميع" يمكن أن ترتدي تلويناتٍ خاصة، كالحاصل في السورية منها.
ليس الجميع متساوين في هذه الحرب. مهما قلنا عن سقوط قتلى من بين الروس أو الأتراك أو الإيرانيين أو اللبنانيين أو العراقيين أو الأفغان من مليشياتهم، أو حتى الفرنسيين أو البريطانيين أو القوقازيين أو الصينيين من بين الجهاديين.. فإن عدد قتلاهم ولاجئيهم سخيف أمام هول عدد السوريين منهم، فضلاً عن بلدانهم التي إذا عادوا إليها سالمين ولو مكبَّلين، فلن يصدَموا بمشهد خرابها، كالذي نال من سورية.
والحلقة الجديدة من سلسلة القتل لا تختلف عن سابقاتها: عملية "غصن الزيتون" يقودها
وما يجمع هذه القيادات كلها أنها تدخل في الحرب على سورية بهموم كلها "وجودية"، متوّجة بأكاليل أمجادها الغابرة. الروس بقيصريتهم التليدة، الإيرانيون بفارسيتهم الإمبراطورية، الأتراك بعثمانيتهم السلطانية، ناهيك عن الأميركيين بعودتهم، مع ترامب، إلى عصر العظمة الأميركية البيضاء.. في موقعة عفرين أخيرا، قيست هذه الأحلام الإمبرطورية بدقة الحسابات، بشطارة الخائضين بلعبة الشطرنج على الرقعة السورية، البعيدة عن بلادهم المحروسة. قال الأميركيون، داعمو الكرد، في الهجمة التركية كلاماً خجولاً ومتناقضاً. الروس الذين اعتُبروا حلفاء ضمنيين للكرد انسبحوا واستنكروا الهجمة التركية برخاوة غير معهودة (قارن مثلاً مع إسقاط الأتراك طائرة روسية منذ ثلاثة أعوام، وشراسة ردّ بوتين على ما اعتبره "طعنة" تركية في ظهره)، والإيرانيون ابتعدوا، ربما لأن "اشتغالا" كهذا يفيدهم لناحية كردهم. فهم برعوا، مع الأتراك، في إطلاق حرية الهجوم على كركوك، وتقويض الدولة الكردية العراقية الناشئة.. ومثلهم الإسرائيليون الذين لا تتعارض المقتلة مع استراتيجيتهم. إذ لن يجدوا في الدنيا كلها أعداء وأصحاب حق على هذه الدرجة من الشقاء.
أما ما يجمع ضحايا هذه الموقعة، فهو سذاجة اعتقادهم بأن واحدا من "حلفائهم"، الإقليميين أو الدوليين، يقف معهم كرمى عيون ثورتهم، أو يقاسمونهم توقهم للحرية. الكرد الآن، العرب الآن وفي ما مضى، منذ مئة عام + ثلاث سنوات، عندما وعد البريطانيون الشريف حسين بالاستقلال عن العثمانيين إذا قاتل هؤلاء إلى جانبهم، يحصل على مملكة الوحدة والاستقلال. وكانوا، أي البريطانيين، في الأثناء نفسها يعدّون لوعد بلفور الذي مزّق الأرض الموعودة بالوحدة والاستقلال. الحرب على عفرين اليوم تستحضر ثورة الشريف حسين. والدرس غير المحفوظ، لا عربياً ولا كردياً، من أن"الحلفاء" الدوليين، وغير الدوليين، إنما هم أصحاب مصالح عليا، يصرفونها كـ"التزامات"، برهة، دائماً قصيرة، كفيلة بالكشف السريع عن نفض أيديهم منها.