بشكل مفاجئ وسريع، راحت سيارة الأجرة التي استقلتها عائلة المواطن، أبو نعيم، الهاربة من الموصل في اتجاه بغداد، تنزلق، بعدما استقرت رصاصة قناص في رأس السائق. بلمح البصر، تدحرجت سيارته في وادٍ محاذٍ للطريق البري الذي يربط الموصل بقضاء سنجار (120 كلم غرب الموصل)، وعلى مقربة من مركز القضاء الذي يشهد اشتباكات وعمليات عسكرية بين قوات البيشمركة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
لم يبقَ أمام أهالي الموصل إلا العاصمة بغداد، التي باتت خياراً أخيراً هرباً من مدينتهم التي تحوّلت إلى جحيم بسبب سيطرة داعش عليها، وبعدما أغلقت في وجوههم جميع الطرقات الأخرى التي كانت تصلهم بأقليم كردستان أو تركيا. فالطريق إلى بغداد، اليوم، تكتنفها كثير من المخاطر والصعوبات، لأن بعض المناطق تقع تحت سيطرة المتشددين، وأخرى تحت سيطرة قوات البيشمركة والقوات العراقية. وتستغرق الطريق ساعات طويلة قد تصل إلى 36 ساعة.
يقول أبو نعيم لـ "العربي الجديد": "استأجرت هذه السيارة للخروج وباقي أفراد عائلتي من الموصل إلى بغداد، بسبب انعدام الأمن والخدمات في الموصل التي تحولت إلى مدينة أشباح. لا توجد كهرباء ولا مياه ولا اتصالات أو أية خدمات، بالإضافة إلى شح المواد الغذائية والدواء، وارتفاع الأسعار، وتفشي البطالة. عدا عن تدهور الأمن، واشتداد القصف الجوي، وقوانين داعش المتشددة التي يفرضها بالقوة على الأهالي. والمخالف يعرّض نفسه لعقوبات مختلفة منها الإعدام. كل هذا دفعني إلى الهرب بعائلتي إلى بغداد، التي تعد المنفذ الوحيد المتاح أمام أهالي الموصل حالياً بعدما أغلقت طريق كركوك".
يتابع أبو نعيم "مع اقتراب السيارة من قضاء سنجار الذي يبعد تقريباً ساعتين غرب الموصل، أصيب السائق برصاص قناص لا نعرف مصدره، على الرغم من أن سائقي سيارات الأجرة أكدوا لنا، أن هذه الطريق تعدّ آمنة نوعاً ما. تم نقلنا جميعاً إلى مستشفى الموصل بواسطة سيارة تابعة لعابر سبيل، وقد أصبت بكسر في يدي، بينما أصيبت زوجتي بكسر في قدمها. أما ابنتي، فقد كسرت قدمها وتعرضت لجرح كبير في الرأس، فيما أدخل السائق غرفة العناية الفائقة". يلفت إلى أننا "اخترنا السفر عبر هذه الطريق، حالنا حال كثير من المواطنين. لكن يبدو أن تقدم قوات البيشمركة أخيراً باتجاه سنجار، والاشتباكات الحاصلة بينهم وبين تنظيم داعش، جعلها غير آمنة.
لا طرقات
وتوقفت حركة نقل المسافرين برّاً عبر سيارات الأجرة إلى العاصمة بغداد (من الموصل في اتجاه قضاء سنجار ثم محافظة الرمادي عبر صحراء الجزيرة، ومنها إلى مدينة النخيب ثم كربلاء وبعدها إلى بغداد)، بسبب الاشتباكات والعمليات العسكرية في سنجار وأطراف تلعفر غرب الموصل، التي أدت إلى إغلاق الطريق بالكامل وتوقف الحركة، بعدما تقدمت قوات البيشمركة وحررت مناطق عدة في سنجار وتلعفر من سيطرة داعش. في السياق، يقول سائق سيارة الأجرة محمد عبد الرحمن، الذي يعمل على هذا الخط: "توقفنا عن العمل نهائيّاً بسبب إقفال هذه الطريق. يوجد قناصة قرب سنجار. كنا نتجنب قيادة السيارة في محاولة لعبور منطقة الخطر بسلام. كان المسافرون يعلمون ذلك قبل خروجنا من الموصل. كنا مضطرين للعمل بسبب قساوة العيش حاليّاً في المدينة. نعمل ليل نهار لتوفير لقمة العيش لعائلاتنا".
يضيف أن "الطريق إلى بغداد طويلة ومرهقة جدّاً. نقضي الليل في فنادق أو مساجد، أو نبقى داخل السيارة. يدفع الزبون 300 ألف دينار، في وقت كان سعر الرحلة لا يتجاوز ثلاثين ألف دينار قبل سيطرة داعش. أيضاً، كنا نصل بغداد في خمس ساعات، عبر طريق الموصل – تكريت – بغداد". يلفت إلى أن "هناك طريق بديل، وهو السير جنوباً في اتجاه قضاء الحضر، منه إلى الرماي فكربلاء، وصولاً إلى بغداد. لكننا لا نعرف مخاطر هذه الطريق الجديدة حتى الآن بسبب عدم تجربتها من السائقين حتى الآن".
كان السائقون يعتمدون على طريق الموصل – كركوك (من القيارة ومنها إلى قرية الحاج علي ثم الحويجة ثم كركوك ومنها إلى بغداد أو إقليم كردستان)، إلا أن منع الدخول عبر سيطرة خالد إلى كركوك من إدارتها المحلية قطع الطريق أمام العائلات القادمة من الموصل ومحافظات أخرى. أما الذين جازفوا، فقد قضوا أياماً في العراء وتعرضوا لبرد قارس وجوع، قبل أن يسمح لهم بالدخول إلى كركوك. فيما اضطرت عائلات أخرى إلى العودة إلى الموصل بعدما أقفلت في وجهها كل طرق الخروج من هذه المدينة. في السياق، تقول أم زينب: "اضطررنا للمبيت قرب سيطرة خالد على الرغم من الجو البارد. مرض الأطفال والنساء نتيجة البرد الشديد. في اليوم التالي، سمح لنا بالدخول بعد مناشدات وتدخلات من مسوؤلين وبرلمانيين. نستغرب هذا التعامل غير المقبول مع العائلات النازحة والهاربة من بطش داعش. بينما يفترض بهم تسهيل دخولنا إلى كركوك وتوفير احتياجاتنا كافة، من مأوى وغذاء ورعاية طبية وغيرها. لكنهم يتركون العائلات في العراء عرضة للبرد والمرض والمخاطر بحجج مختلفة، منها الحفاظ على الأمن".
مشاكل اجتماعية
في هذا الإطار، تحذر منظمات محلية من مشاكل اجتماعية مختلفة قد تظهر في الموصل نتيجة الظروف القاسية التي يعيشها أهالي المدينة تحت سيطرة "داعش"، متسائلة عن دور ممثلي المحافظة وحكومتها المحلية والمجتمع الدولي في تقديم المساعدات للأهالي لتحمل ظروفهم الحياتية الصعبة. ويقول الناشط في مجال حقوق الإنسان، ورئيس منظمة الحدباء الخيرية، يوسف ناظم، التي اضطرت إلى ترك الموصل والعمل في مدينة دهوك: "ستطفو على السطح مشاكل اجتماعية في الموصل والمناطق الخاضعة لسيطرة داعش نتيجة الظروف التي أجبروا على العيش فيها".
يضيف ناظم "نستغرب صمت وعجز أعضاء مجلس محافظة نينوى وحكومتها المحلية والحكومة المركزية والمجتمع الدولي، حتى المنظمات الإنسانية العالمية المهتمة بتقديم كل ما من شأنه مساعدة أهالي الموصل في محنتهم هذه، منها فتح ممرات آمنة يمكن من خلالها إيصال حصة المحافظة في شتى المجالات إلى الأهالي المتضررين في ظل غياب الخدمات الضرورية، ووقوعهم تحت نير داعش، ما يدفعهم إلى إيجاد طرق للهرب من المدينة التي يحاول التنظيم منعهم من مغادرتها، واتخاذهم دروعاً بشرية مع تزايد القصف الجوي عليها".