تلقت الحكومة البريطانية ضربة قاصمة لاستراتيجيتها لبريكست، مساء أول من أمس، عندما هُزمت صفقتها المعدلة للمرة الثانية وبفارق 149 صوتاً، لتقضي بذلك على جهود رئيسة الوزراء تيريزا ماي التي استمرت على مدى العامين الماضيين. ومع بقاء نحو أسبوعين على موعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لا يزال من الصعب التنبؤ باتجاه سير سفينة بريكست. فبعد هزيمة ماي الأولى، منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، وبهامش 230 صوتاً، تعهدت بأن تُدخل تعديلات أساسية على نص اتفاقية بريكست وطرحها مرة أخرى على البرلمان للتصويت. وبعد شهرين من المفاوضات، فشلت ماي في إقناع أكثر من 40 نائباً من حزبها فقط في العدول عن معارضتهم لها والتصويت لصالح صفقتها.
وتدخل بريطانيا مياهاً مجهولة في الأسابيع المقبلة، إذ لم يسبق أن هزمت حكومة بريطانية مرتين واستمرت في عملها. فالتقليد السياسي البريطاني يفرض على رئيسة الوزراء الاستقالة في حالة تمرد كتلتها البرلمانية ضدها. بل في حالة ماي فإن البرلمان صوت بأغلبية كبرى ضد استراتيجية كانت المعلم الأساسي لعهد ماي في رئاسة الحكومة. كما أن الغموض لا يزال يكتنف معالم بريكست الذي ترغب به بريطانيا، إذ إن استفتاء العام 2016 عكس رفض أغلبية البريطانيين للبقاء في الاتحاد الأوروبي، والتصويت البرلماني يوم الثلاثاء عكس رفض بريطانيا لصفقة رئيسة الوزراء. وهناك فرصة أمام المشرعين البريطانيين، مساء اليوم الخميس، لطلب تأجيل موعد تنفيذ بريكست لتجنب سيناريو عدم الاتفاق، ولكن حتى تفاصيل هذا التأجيل لا تزال غامضة، ولا إجماع عليها.
ودفع هذا الانقسام البريطاني الاتحاد الأوروبي إلى تبني لغة شديدة. فقد حذر المتحدث باسم البرلمان الأوروبي لشؤون بريكست، غاي فيرهوفشتات من أن الاتحاد ليس على استعداد لتمديد بريكست حتى لأربع وعشرين ساعة، من دون أن تحدد لندن ماذا تريد. وقال "ما نريده الآن هو الوضوح من مجلس العموم، ولذلك أنا ضد التمديد، سواء ليوم واحد أو أسبوع واحد أو حتى 24 ساعة، إن لم يكن مبنياً على رأي واضح لمجلس العموم لصالح أمر ما، بحيث نكون على دراية بما يريدون". أما كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي، ميشال بارنييه، فقد حذر من أن احتمال خروج بريطانيا من الاتحاد من دون اتفاق هو الأكبر حالياً. وقال، أمام البرلمان الأوروبي، "نقف الآن أمام نقطة حرجة. إن خطر عدم الاتفاق في أعلى درجاته، وهناك خطورة لخروج بريطانيا، حتى عن غير قصد، من الاتحاد الأوروبي بطريقة غير منظمة". وأعلن بارنييه، في تغريدة على "تويتر"، أن بروكسل فعلت "كل ما بوسعها" وعليها الآن الاستعداد لاحتمال خروج فوضوي. وكتب "المأزق يمكن حله فقط في المملكة المتحدة". إلا أن الموقف الأوروبي أيضاً ليس بالتجانس المفترض. فبينما يوجد دعم ألماني لتأجيل موعد بريكست، تتخذ دول أخرى موقفاً أكثر تشدداً. وينتظر أن تبت القمة الأوروبية، التي ستُعقد نهاية الأسبوع المقبل، في تمديد موعد بريكست، إن تقدمت لندن رسمياً بهذا الطلب. لكنه ليس بالأمر السهل، إذ يجب أن توافق الدول الأوروبية بالإجماع على الطلب البريطاني.
ويبقى أمام الحكومة البريطانية عدة خيارات لاستكشاف مدى تأييدها بين البرلمانيين. ومن بين هذه الخيارات تسوية "مالتهاوس" المعدلة، والتي تأتي كجزء من التعديلات المفترضة على المقترح الحكومي بالخروج من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق. وتنال هذه الخطة دعم مجموعة الأبحاث الأوروبية من مؤيدي بريكست المشدد في صفوف المحافظين، وعددهم قرابة 80 شخصاً، إضافة إلى نواب الحزب الاتحادي الديمقراطي الإيرلندي وعددهم 10 نواب. وتشتمل النسخة المعدلة من التسوية على اقتراح الخروج من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، لكن مع توقيع اتفاق مع الاتحاد الأوروبي على إبقاء الوضع الحالي على ما هو عليه لمدة عامين، ومن ثم الانتقال التدريجي إلى قواعد منظمة التجارة العالمية. إلا أن الاتحاد الأوروبي كان رفض هذه الخطة مسبقاً، مشدداً على أنه لا توجد عملية انتقالية في اتفاق بريكست. بل إن الجناح الوسطي في حزب المحافظين هدد المتشددين فيه أنه في حال الدفع باتجاه عدم الاتفاق، فإنهم سيبنون تفاهمات مع أحزاب المعارضة لدعم بريكست مخفف مبني على النموذج النرويجي. وقد يشهد البرلمان البريطاني، خلال الأسبوع المقبل سلسلة من عمليات التصويت الاستشارية حول الأشكال البديلة لبريكست، في محاولة لإلزام ماي بنموذج بديل لخطتها ينال إجماع البرلمان. ويدعم حزب العمال بريكست مخففاً يشمل عضوية في اتحاد جمركي مع الاتحاد الأوروبي. وكان وزير الحزب للبريكست كير ستارمر قال إنه على يقين من قدرة حزبه على التفاوض على صفقة بريكست جديدة في غضون أسابيع، في حال تأجيل موعده. وبالرغم من هذا التفاؤل العمالي، يجدر التذكير بأن مؤيدي بريكست أكدوا، خلال حملة الاستفتاء وبداية المفاوضات، أن الوصول إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي سيكون أمراً شديد السهولة.
ولا يزال أيضاً شكل التمديد المتوقع، ومدته غير واضحين. وقال وزير شؤون الانسحاب من الاتحاد الأوروبي ستيفن باركلي، لراديو هيئة الإذاعة البريطانية، "لا نعلم إلى متى سيكون هذا التأجيل، فهو قرار يعود إليهم (زعماء أوروبا). ولا نعلم الشروط الملحقة به". وأضاف "إذا دفعتموني إلى نقطة النهاية حيث يكون الخيار إما الخروج من دون اتفاق أو عدم الخروج. أعتقد أن عدم وجود اتفاق سيكون مدمراً جداً للاقتصاد. لكني أعتقد أن عدم الخروج أمر كارثي لديمقراطيتنا. فمن بين هذين الخيارين الكريهين جداً، أظن أن عدم الخروج هو الخطر الأكبر". وترغب ماي في أن يكون التمديد قصير الأمد، ولمرة واحدة ولا يشمل دخول بريطانيا الانتخابات البرلمانية الأوروبية المقبلة في مايو/أيار المقبل. لكن المقترح الحكومي سيكون عرضة للتعديلات من جانب النواب، والذين يمتلكون رؤى مختلفة عما تريده ماي. كما لا يزال هناك احتمال بأن تطرح ماي صفقتها مجدداً على التصويت للمرة الثالثة قبل أيام من موعد بريكست، مستغلة خوف المتشددين من تمديد موعده أو خوف معارضي عدم الاتفاق من وقوعه. وعلى الرغم من أن هزيمة ثالثة كبرى لماي ستكون الضربة القاضية، فإنها قد لا تمتلك العديد من الخيارات حينها. فقد تستغل بريطانيا فترة التمديد لخوض انتخابات عامة، تكون فيها خطط الحزبين للبريكست محور برنامجيهما الانتخابيين، وتمنح الحزب المنتصر تفويضاً عملياً بتطبيق بريكست خاص به. وبينما تشير استطلاعات الرأي إلى تقدم حزب المحافظين، فإن حزب العمال أعلن مراراً وتكراراً أن الانتخابات العامة لا تزال خياره الأول.
أما الخيار الآخر، خصوصاً في حال عدم خوض الانتخابات العامة، فيكون في أجراء استفتاء ثان، وهو ما يحظى بدعم "العمال" كخيار أخير. ويرى مؤيدو هذا الخيار أنه يسمح بتجاوز الطريق البرلماني المسدود بالعودة إلى الشارع البريطاني للبت في موضوع بريكست. لكن المعضلة تكمن في الخيارات المطروحة للاستفتاء. فهل ستكون بين خطة ماي والبقاء في الاتحاد كما يرى حزب "العمال"، أم بوجود خطة بديلة، أو حتى بوجود الخروج من دون اتفاق على ورقة الاستفتاء؟ وحذر رئيس الوزراء البريطاني السابق، ديفيد كاميرون، الذي أطلق عملية بريكست، من أن مغادرة الاتحاد دون اتفاق ستكون كارثية على المملكة المتحدة. وقال كاميرون، لوكالة "أسوشييتد برس" أمس الأربعاء، أنه يدعم تماماً محاولات ماي للحفاظ على "شراكة وثيقة" مع أوروبا عقب مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي. وأضاف أنه ينبغي على البرلمان التصويت على "استبعاد عدم وجود اتفاق" والسعي لتمديد الموعد النهائي لمغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي المقرر في 29 مارس/آذار الحالي.
لكن في ظل الوضع الحالي، وفي حال عدم قبول الاتحاد الأوروبي طلب التمديد الذي قد تتقدم به ماي بعد تصويت اليوم الخميس، يبقى عدم الاتفاق السيناريو الافتراضي، إذ قد يحصل تلقائياً بسبب نفاد الوقت وعدم وجود بديل. وكانت الحكومة البريطانية نشرت، أمس الأربعاء، سياستها الجمركية للتعامل مع البضائع في ظل بريكست من دون اتفاق. وستقوم لندن بإلغاء التعرفة الجمركية على 87 في المائة من الواردات كجزء من استعداداتها لمنع ارتفاع الأسعار. فبعد الخروج من الاتحاد من دون اتفاق يفرض الوضع الجديد فرض الرسوم الجمركية على البضائع الداخلة إلى بريطانيا، وهو ما قد يرفع الأسعار بنحو 9 مليارات جنيه، ويلحق ضرراً بالأعمال والمستهلكين. وسترتفع بضائع بعض المواد، مثل اللحوم إذ سيرتفع سعر لحم البقر بنحو 7 في المائة إضافة إلى غيره من المواد الغذائية، بهدف حماية المنتج البريطاني. ويشمل ذلك أيضاً صناعة السيارات، إذ سيتم فرض 10.8 في المائة ضريبة على السيارات المصنعة كلياً خارج بريطانيا. إلا أن هذه المعايير لن تطبق على البضائع القادمة من الجمهورية الإيرلندية إلى إيرلندا الشمالية، ما يجعل من الأخيرة مرتعاً للمهربين.