04 نوفمبر 2024
الهويات الثقافية.. من الأيديولوجيا إلى الطائفة
على الرغم من تحيزه لقضية انتصار البروليتاريا، حافظ جان بول سارتر على مسافة تفصل بينه وبين الحزب الشيوعي الفرنسي. وفي رده على أحد محاوريه، تساءل سارتر: هل يمكن لكاتب أن ينتسب للحزب الشيوعي ويبقى كاتباً؟ وخشية على حرية الكاتب وتحويله إلى مؤسسة، رفض جائزة نوبل للآداب وغيرها من الجوائز والتكريمات.
بينما تهتم السلطة السياسية بالواقع وتحقيق الممكن، وتؤجل السلطة الدينية الوفاء بوعودها إلى الآخرة، يبدو دور المثقف مركباً، فبالإضافة إلى فهم الواقع وتفسيره، يناط به استشراف المستقبل. هو لا يملك السلطة، بل يستمدها من الرأي العام، وهو نتاج سيرورة تاريخية، لكنه مطالب بفض كنه المرحلة الراهنة. كانت الثقافة دائما حاجة أساسية في بناء الهوية، لكنها كانت محفوفة بالمخاطر، ولا سيما أنها لا تقتصر على الجانب النظري، بل تمارس دورا عمليا بوصفها تجاوزا وحرية.
عقب الثورة الفرنسية، أعلنت الحداثة أن الإنسان هو ما يَصنع، وبشّرت بولادة الفرد المستقل، وكان في وسع سارتر، وغيره من مثقفي أوروبا، استبدال موضوعية الفكر بالأيديولوجيا، فلم تعد معركة المثقف مع السلطة تدور داخل المجتمع السياسي، ولا بالتصادم مع أجهزتها الأمنية، بل داخل المجتمع المدني، ضد جهازها الثقافي الأيديولوجي، وبسند من الرأي العام. الاستقلالية التي توفرت للثقافي مكنت المثقف من امتلاك مشروعٍ، مارس من خلاله دوره الاجتماعي المعرفي. وبتوفر نظام سياسي واقعي وديمقراطي، يوفر الحرية المطلوبة للإبداع الثقافي، تتحرر الثقافة، بل تُدعم سياسيا لتصبح عنوانا عريضا لمشروع اجتماعي، ثقافي وسياسي: "السياسة الثقافية"، كتلك الفرنسية التي قادها الاشتراكي جاك لانغ، وزير الثقافة في عهد فرانسوا ميتيران، أو تلك الأميركية التي صاغ خطوطها العريضة الرئيس الأميركي، فرانكلين روزفلت، التي ضمنت لمجتمع حديث التكوين وشديد التنوع والاختلاف أن يصبح دولة عظمى، تهيمن ثقافيا وسياسيا واقتصاديا.
في الحالة العربية، كرست العقائد السياسية التي استولت على السلطة نفسها أيديولوجيات شمولية، مثّلت أنساقاً فكرية مغلقة، ادعت احتكار الحقيقة، ورفضت تحمّل الفِكَر المعارضة والمعتقدات المنافسة، واستحوذت على المجال العام، لتمددت الدولة وأجهزتها على حساب الوطن. وفي غياب المجتمع المدني، كان على المواجهة أن تتم داخل المجتمع السياسي، أي بين المثقف وأجهزة السلطة القمعية، وكان على الثقافة التي هي رؤية إنسانية كلية تقوم على النقد لتجاوز الواقع، أن تخدم السياسي من حيث هو رؤية مصلحية محددة، تعيد إنتاج الواقع لتسوده عبر الممارسة الجزئية. هكذا استمر تأطير الثقافة أيديولوجيا وسياسيا، فلم تمارس الثقافة دورها الاجتماعي المعرفي، فغاب المشروع الثقافي المؤسس لهوية وطنية، في سياق تنمية بشرية واجتماعية شاملة.
لا تتيح الأيديولوجيا السياسية رؤية العالم كما هو، بل كما يتوقع أن يكون، حين تحجب الواقع خلف الشعارات والرموز، أهدافاً ملهمة للفعل السياسي، فيسود التبرير على حساب التفسير. وحين يهيمن الأيديولوجي، تناط بالثقافة وظائف، ولا يتاح لها أن تؤدي دورا. مثقفون كثيرون، مدفوعين بحسن النية والرغبة في التغيير، وغيرهم، بوازع من الانتهازية السياسية، تمترسوا خلف الشعارات الكبرى لمختلف الأحزاب والتيّارات السياسيّة، ما أدى إلى استقطاب سياسي وأيديولوجي حاد. وما بين وظيفتي تلميع السلطة والحط من شأنها، سادت حالة من السياسوية أفضت إلى ثقافة مسطحة من دون عمق معرفي كاف. تحولت أداة لتسلط السلطة والمعارضة سواء بسواء، ليعم تطرف الأيديولوجيا يميناً ويساراً. أما مقولة "المثقف العضوي"، فلم تكن سوى وهم أيديولوجي، حين اكتفى المثقف بالفصاحة المحركة للعواطف والانفعالات، واستسلم إلى الشعبوية راكبا الموجات الجماهيرية، المتغيرة مدا وجزرا، من دون قدرة على التأثير الفعلي، وقيادة الرأي العام، المغيب أساساً لغياب حريات الرأي والتعبير. وكان على المثقف النقدي الذي حافظ على استقلاليته، وربما بعد تجربة حزبية ضاقت به وضاق بها، الانسحاب التدريجي من المشهد الثقافي والإعلامي، تحت ضغط السياسوية والأدلجة وقمع السلطة، تاركا الشارع لليوتوبيا الدينية والسياسية.
أعاقت الروابط الجماعاتية العرقية والدينية والمذهبية فرزاً طبقيا حقيقيا، فغابت الحدود الفاصلة بين الطبقات، حيث تلونت الطائفة الواحدة بألوان الطبقات الاجتماعية المختلفة. فكانت "الكتلة التاريخية" التي ادعت الأيديولوجيات تمثيلها، وهما أيديولوجيا آخر. صحيح أن تلك الأيديولوجيات اكتسبت تأييداً شعبياً واسعاً في البدايات، بفضل مشاريع اقتصادية حسنت نسبياً من وضع الطبقات المعدمة. ولكن، أيضا، بفضل النفس التعبوي والتحريضي ضد أعداء الداخل والخارج، وطبيعة الأيديولوجيا نفسها التي تمكنها من بناء عالم رمزي وأسلوب حياة، مزود بآليات دفاع عن النفس، فمثلت من خلالهما الـ"نحن" التي تلوذ بها "الأنا"، وتجد فيها تعبيرا عن مستقبلها. لكن، في ظل سياسة التوحيد بالقوة، وفي غياب المشروع الثقافي، لم تتحقق درجة القطيعة الكافية مع الثقافة الفرعية والحنين الجماعاتي الأولي، لصالح هوية ثقافية جامعة.
مع تفكك الكتلة الشيوعية، فقدت الأيديولوجيات العربية إطاراً مرجعياً أيديولوجيا وسياسيا، ومع الفشل في تحقيق الشعارات الكبرى والصغرى، تصدعت تلك الشعارات، لتسود حالة من إفلاس سياسي وتنظيمي واجتماعي لأحزاب وحركات سياسيّة عربيّة كثيرة، ما أصاب المثقّف السياسي، أو السياسي المثقّف، بمزيد من الإرباك الفكري والعقم السياسي، وكانت آثار ذلك كارثية على المجتمعات العربية التي تُركت عرضة لمزيد من التهميش والإقصاء الاجتماعي والاقتصادي لصالح النخب الحاكمة. والمفارقة أن تحرر تلك النخب من شعاراتها الأيديولوجية أكسبها مزيداً من المرونة، في الحفاظ على مكتسباتها ومصالحها، حين توسلت البروباغاندا، ومزيدا من البراغماتية السياسية، لكن، إلى حين، حيث عجزت بسبب ضحالتها الفكرية والمعرفية عن إدراك التحولات العميقة لعصر العولمة.
في حقبة ما بعد الحداثة، ومع تحديات العولمة، كنمط إنتاج ثقافي واقتصادي وسياسي على المستوى الكوني، يتجاوز التاريخ التقاليد الأيديولوجية الرئيسية، لا سيما الحزب السياسي، صاحب البرنامج الذي ينظر إليه تقليدياً، ممثلا للكتلة التاريخية، لكن ذلك لا يعني نهاية الأيديولوجيا كما يعلن بعضهم، وإنما تحولا في طبيعتها، ونقلات في الأسس التي ارتكزت عليها، فمن التنظيم الاقتصادي إلى التنظيم الثقافي، ومن الطبقة إلى الهوية، ومن العالمية إلى الخصوصية والاعتقاد بأهمية الاختلافات التاريخية والثقافية بين الشعوب والمجتمعات، على حساب ما هو مشترك. وتحت ضغط العولمة، يتعمق التناقض بين الانتماءين، السياسي والمدني، في الدولة.
كانت المجتمعات العربية، كمجتمعات تقليدية أو ما قبل حداثية، الأكثر هشاشة في مواجهة العولمة، ومع انهيار العالم الرمزي للأيديولوجيا، وتفاقم الأزمات السياسية والاجتماعية، تبرز الطائفية أحد أهم وجوه الأزمة الهيكلية في النظم السياسية العربية، ليتداخل الحرمان السياسي والبؤس الاقتصادي والاجتماعي مع المآسي الشخصية، مولداً كماً من الكراهية الاجتماعية التي عمّقت أزمة الهوية، والتعارض الحاد بين الانتماء الوطني السياسي والولاءات الفرعية، الثقافية والدينية والمذهبية والعرقية، فيتعاظم الحنين الجماعاتي، والارتكاس إلى الجذور والماضي والهوية البدائية، المستمدة من الروابط الأولية الأسرية والجماعاتية. هذا النكوص الذي يترافق مع إحساس لا شعوري بالذنب، يحتاج إلى من يتحمل المسؤولية، وهذا هو الآخر، خائن الثقافة الجماعاتية، لمجرد اختلافه عنها، بالاكتساب أو حتى بالفطرة، ويتعاظم القلق الوجودي، رغبة في الإفناء تحتضنها عقيدة التكفير.
انطلقت الاحتجاجات والانتفاضات العربية العفوية، تطالب بالحرية والكرامة، لكن تلك الحركة الاجتماعية لم تشكل كتلة تاريخية، ولم تتمكن من لعب دورها في التغيير، إذ سرعان ما فككت، لغياب الوضوح الفكري والمشروع الثوري، ولاصطدامها بعنف الأنظمة غير المسبوق، وبانتهازية النخب السياسية ومصالحها، وتوظيفات الإعلام المتحيز، وتجارة أمراء الحروب. وعجز المثقف عن الاستقواء بتلك الحركة الاجتماعية وقيادتها، لمزاولة دوره التاريخي. بل تورط مثقفون كثيرون مجددا بالسياسي والتطرف الأيديولوجي، ولم يتعلموا الدرس جيدا، فمارسوا وظيفة تحريضية لا دورا تنويريا، لتنجر المجتمعات مع خطاباتهم نحو مزيد من العنف والكراهية الاجتماعية.
إذا، مع غياب المشاريع الثقافية الكبرى، تغيب سيرورة إدراك وتأمل واع للذات، تسمح ببناء هوية ثقافية وطنية، لصالح هويات ترتكز على الذات التي تُعرّف نفسها من خلال دورها في مواجهة الآخر. ليسيطر فقه الطوائف، حيث التكفير والإقصاء والإدانة قواسم مشتركة. وانطلاقا من موقع السلطة، أو بحجة النأي بالنفس عن تهمة التحريض الطائفي، أو ظناً بأن الاعتراف بالمشكلة ومواجهتها يزيد من تفاقمها، تورط مثقفونا في تزييف حقيقة وجود الطائفية، فاكتفوا بإخفاء القمامة تحت أطراف السجادة، بدل التخلص منها، وكان التأكيد، في كل مناسبة، أننا "لسنا طائفيين"، بمثابة دخان لنار هادئة، يسهم اليوم مثقفو الطوائف وفقهائها في تسعيرها، هؤلاء الذين كانوا، فيما مضى، من أكثر المتحمسين لإنكارها، نراهم اليوم غرقى الحنين الجماعاتي، عاجزين عن الحديث بضمير المتكلم. وهكذا يحل فقه الطوائف مكان الأيديولوجيا في بناء عوالم رمزية بآليات دفاعية جديدة، تسير بنا إلى الدويلات، بدل الدولة، وإلى الجماعة بدل الوطن، وإلى المليشيات بدل الأحزاب والسياسة، وإلى الثقافات البدائية بدل المشاريع الثقافية، ليبدو المستقبل أكثر غموضا، ما يزيدنا انكماشا وتقوقعا على الذات، ولسان حالنا يقول: ذاك زرعكم وهذا حصادكم.
عقب الثورة الفرنسية، أعلنت الحداثة أن الإنسان هو ما يَصنع، وبشّرت بولادة الفرد المستقل، وكان في وسع سارتر، وغيره من مثقفي أوروبا، استبدال موضوعية الفكر بالأيديولوجيا، فلم تعد معركة المثقف مع السلطة تدور داخل المجتمع السياسي، ولا بالتصادم مع أجهزتها الأمنية، بل داخل المجتمع المدني، ضد جهازها الثقافي الأيديولوجي، وبسند من الرأي العام. الاستقلالية التي توفرت للثقافي مكنت المثقف من امتلاك مشروعٍ، مارس من خلاله دوره الاجتماعي المعرفي. وبتوفر نظام سياسي واقعي وديمقراطي، يوفر الحرية المطلوبة للإبداع الثقافي، تتحرر الثقافة، بل تُدعم سياسيا لتصبح عنوانا عريضا لمشروع اجتماعي، ثقافي وسياسي: "السياسة الثقافية"، كتلك الفرنسية التي قادها الاشتراكي جاك لانغ، وزير الثقافة في عهد فرانسوا ميتيران، أو تلك الأميركية التي صاغ خطوطها العريضة الرئيس الأميركي، فرانكلين روزفلت، التي ضمنت لمجتمع حديث التكوين وشديد التنوع والاختلاف أن يصبح دولة عظمى، تهيمن ثقافيا وسياسيا واقتصاديا.
في الحالة العربية، كرست العقائد السياسية التي استولت على السلطة نفسها أيديولوجيات شمولية، مثّلت أنساقاً فكرية مغلقة، ادعت احتكار الحقيقة، ورفضت تحمّل الفِكَر المعارضة والمعتقدات المنافسة، واستحوذت على المجال العام، لتمددت الدولة وأجهزتها على حساب الوطن. وفي غياب المجتمع المدني، كان على المواجهة أن تتم داخل المجتمع السياسي، أي بين المثقف وأجهزة السلطة القمعية، وكان على الثقافة التي هي رؤية إنسانية كلية تقوم على النقد لتجاوز الواقع، أن تخدم السياسي من حيث هو رؤية مصلحية محددة، تعيد إنتاج الواقع لتسوده عبر الممارسة الجزئية. هكذا استمر تأطير الثقافة أيديولوجيا وسياسيا، فلم تمارس الثقافة دورها الاجتماعي المعرفي، فغاب المشروع الثقافي المؤسس لهوية وطنية، في سياق تنمية بشرية واجتماعية شاملة.
لا تتيح الأيديولوجيا السياسية رؤية العالم كما هو، بل كما يتوقع أن يكون، حين تحجب الواقع خلف الشعارات والرموز، أهدافاً ملهمة للفعل السياسي، فيسود التبرير على حساب التفسير. وحين يهيمن الأيديولوجي، تناط بالثقافة وظائف، ولا يتاح لها أن تؤدي دورا. مثقفون كثيرون، مدفوعين بحسن النية والرغبة في التغيير، وغيرهم، بوازع من الانتهازية السياسية، تمترسوا خلف الشعارات الكبرى لمختلف الأحزاب والتيّارات السياسيّة، ما أدى إلى استقطاب سياسي وأيديولوجي حاد. وما بين وظيفتي تلميع السلطة والحط من شأنها، سادت حالة من السياسوية أفضت إلى ثقافة مسطحة من دون عمق معرفي كاف. تحولت أداة لتسلط السلطة والمعارضة سواء بسواء، ليعم تطرف الأيديولوجيا يميناً ويساراً. أما مقولة "المثقف العضوي"، فلم تكن سوى وهم أيديولوجي، حين اكتفى المثقف بالفصاحة المحركة للعواطف والانفعالات، واستسلم إلى الشعبوية راكبا الموجات الجماهيرية، المتغيرة مدا وجزرا، من دون قدرة على التأثير الفعلي، وقيادة الرأي العام، المغيب أساساً لغياب حريات الرأي والتعبير. وكان على المثقف النقدي الذي حافظ على استقلاليته، وربما بعد تجربة حزبية ضاقت به وضاق بها، الانسحاب التدريجي من المشهد الثقافي والإعلامي، تحت ضغط السياسوية والأدلجة وقمع السلطة، تاركا الشارع لليوتوبيا الدينية والسياسية.
أعاقت الروابط الجماعاتية العرقية والدينية والمذهبية فرزاً طبقيا حقيقيا، فغابت الحدود الفاصلة بين الطبقات، حيث تلونت الطائفة الواحدة بألوان الطبقات الاجتماعية المختلفة. فكانت "الكتلة التاريخية" التي ادعت الأيديولوجيات تمثيلها، وهما أيديولوجيا آخر. صحيح أن تلك الأيديولوجيات اكتسبت تأييداً شعبياً واسعاً في البدايات، بفضل مشاريع اقتصادية حسنت نسبياً من وضع الطبقات المعدمة. ولكن، أيضا، بفضل النفس التعبوي والتحريضي ضد أعداء الداخل والخارج، وطبيعة الأيديولوجيا نفسها التي تمكنها من بناء عالم رمزي وأسلوب حياة، مزود بآليات دفاع عن النفس، فمثلت من خلالهما الـ"نحن" التي تلوذ بها "الأنا"، وتجد فيها تعبيرا عن مستقبلها. لكن، في ظل سياسة التوحيد بالقوة، وفي غياب المشروع الثقافي، لم تتحقق درجة القطيعة الكافية مع الثقافة الفرعية والحنين الجماعاتي الأولي، لصالح هوية ثقافية جامعة.
مع تفكك الكتلة الشيوعية، فقدت الأيديولوجيات العربية إطاراً مرجعياً أيديولوجيا وسياسيا، ومع الفشل في تحقيق الشعارات الكبرى والصغرى، تصدعت تلك الشعارات، لتسود حالة من إفلاس سياسي وتنظيمي واجتماعي لأحزاب وحركات سياسيّة عربيّة كثيرة، ما أصاب المثقّف السياسي، أو السياسي المثقّف، بمزيد من الإرباك الفكري والعقم السياسي، وكانت آثار ذلك كارثية على المجتمعات العربية التي تُركت عرضة لمزيد من التهميش والإقصاء الاجتماعي والاقتصادي لصالح النخب الحاكمة. والمفارقة أن تحرر تلك النخب من شعاراتها الأيديولوجية أكسبها مزيداً من المرونة، في الحفاظ على مكتسباتها ومصالحها، حين توسلت البروباغاندا، ومزيدا من البراغماتية السياسية، لكن، إلى حين، حيث عجزت بسبب ضحالتها الفكرية والمعرفية عن إدراك التحولات العميقة لعصر العولمة.
في حقبة ما بعد الحداثة، ومع تحديات العولمة، كنمط إنتاج ثقافي واقتصادي وسياسي على المستوى الكوني، يتجاوز التاريخ التقاليد الأيديولوجية الرئيسية، لا سيما الحزب السياسي، صاحب البرنامج الذي ينظر إليه تقليدياً، ممثلا للكتلة التاريخية، لكن ذلك لا يعني نهاية الأيديولوجيا كما يعلن بعضهم، وإنما تحولا في طبيعتها، ونقلات في الأسس التي ارتكزت عليها، فمن التنظيم الاقتصادي إلى التنظيم الثقافي، ومن الطبقة إلى الهوية، ومن العالمية إلى الخصوصية والاعتقاد بأهمية الاختلافات التاريخية والثقافية بين الشعوب والمجتمعات، على حساب ما هو مشترك. وتحت ضغط العولمة، يتعمق التناقض بين الانتماءين، السياسي والمدني، في الدولة.
كانت المجتمعات العربية، كمجتمعات تقليدية أو ما قبل حداثية، الأكثر هشاشة في مواجهة العولمة، ومع انهيار العالم الرمزي للأيديولوجيا، وتفاقم الأزمات السياسية والاجتماعية، تبرز الطائفية أحد أهم وجوه الأزمة الهيكلية في النظم السياسية العربية، ليتداخل الحرمان السياسي والبؤس الاقتصادي والاجتماعي مع المآسي الشخصية، مولداً كماً من الكراهية الاجتماعية التي عمّقت أزمة الهوية، والتعارض الحاد بين الانتماء الوطني السياسي والولاءات الفرعية، الثقافية والدينية والمذهبية والعرقية، فيتعاظم الحنين الجماعاتي، والارتكاس إلى الجذور والماضي والهوية البدائية، المستمدة من الروابط الأولية الأسرية والجماعاتية. هذا النكوص الذي يترافق مع إحساس لا شعوري بالذنب، يحتاج إلى من يتحمل المسؤولية، وهذا هو الآخر، خائن الثقافة الجماعاتية، لمجرد اختلافه عنها، بالاكتساب أو حتى بالفطرة، ويتعاظم القلق الوجودي، رغبة في الإفناء تحتضنها عقيدة التكفير.
انطلقت الاحتجاجات والانتفاضات العربية العفوية، تطالب بالحرية والكرامة، لكن تلك الحركة الاجتماعية لم تشكل كتلة تاريخية، ولم تتمكن من لعب دورها في التغيير، إذ سرعان ما فككت، لغياب الوضوح الفكري والمشروع الثوري، ولاصطدامها بعنف الأنظمة غير المسبوق، وبانتهازية النخب السياسية ومصالحها، وتوظيفات الإعلام المتحيز، وتجارة أمراء الحروب. وعجز المثقف عن الاستقواء بتلك الحركة الاجتماعية وقيادتها، لمزاولة دوره التاريخي. بل تورط مثقفون كثيرون مجددا بالسياسي والتطرف الأيديولوجي، ولم يتعلموا الدرس جيدا، فمارسوا وظيفة تحريضية لا دورا تنويريا، لتنجر المجتمعات مع خطاباتهم نحو مزيد من العنف والكراهية الاجتماعية.
إذا، مع غياب المشاريع الثقافية الكبرى، تغيب سيرورة إدراك وتأمل واع للذات، تسمح ببناء هوية ثقافية وطنية، لصالح هويات ترتكز على الذات التي تُعرّف نفسها من خلال دورها في مواجهة الآخر. ليسيطر فقه الطوائف، حيث التكفير والإقصاء والإدانة قواسم مشتركة. وانطلاقا من موقع السلطة، أو بحجة النأي بالنفس عن تهمة التحريض الطائفي، أو ظناً بأن الاعتراف بالمشكلة ومواجهتها يزيد من تفاقمها، تورط مثقفونا في تزييف حقيقة وجود الطائفية، فاكتفوا بإخفاء القمامة تحت أطراف السجادة، بدل التخلص منها، وكان التأكيد، في كل مناسبة، أننا "لسنا طائفيين"، بمثابة دخان لنار هادئة، يسهم اليوم مثقفو الطوائف وفقهائها في تسعيرها، هؤلاء الذين كانوا، فيما مضى، من أكثر المتحمسين لإنكارها، نراهم اليوم غرقى الحنين الجماعاتي، عاجزين عن الحديث بضمير المتكلم. وهكذا يحل فقه الطوائف مكان الأيديولوجيا في بناء عوالم رمزية بآليات دفاعية جديدة، تسير بنا إلى الدويلات، بدل الدولة، وإلى الجماعة بدل الوطن، وإلى المليشيات بدل الأحزاب والسياسة، وإلى الثقافات البدائية بدل المشاريع الثقافية، ليبدو المستقبل أكثر غموضا، ما يزيدنا انكماشا وتقوقعا على الذات، ولسان حالنا يقول: ذاك زرعكم وهذا حصادكم.