الهويات الخائفة والعولمة العاصفة
قبل أن يطوي القرن العشرون صفحاته، ويذهب إلى ذمة التاريخ، شهد العالم، في العقد الأخير من القرن المنصرم، تطورات ومتغيرات دولية وإقليمية، ساهمت، في مجملها، في إيجاد نظام كوني، تتمسّك فيه مجموعة من الدول بمقود القيادة، وتمارس مختلف أشكال الوصاية، والهيمنة على العالم، في ظل ما اصطلح على تسميتها العولمة. ولذا، دخل هذا العالم، مع مطلع عقد التسعينيات، مرحلة جديدة، خصوصا بعد التغييرات العاصفة في أوروبا الشرقية، وتفكّك الاتحاد السوفييتي، وانتهاء دوره كقوة عظمى، ضاهت في حجمها قوة الولايات المتحدة الأميركية، ووقفت لها موقف الند، طوال الحقبة الماضية التي امتدت من انتهاء الحرب الكونية الثانية إلى السنوات الأخيرة من عقد الثمانينيات.
من ثنايا هذا المناخ الكوني العاصف، انبجس نظام أحادي القطب، مناط بالولايات المتحدة الأميركية التي راحت تلبس قبعة القوة العظمى الوحيدة، وتنصّب نفسها بدون تفويض شرطياً على العالم، بلا منافس، تحت مسميات مخاتلة، باسم الشرعية الدولية حيناً، وباسم الدفاع عن حقوق الإنسان حيناً آخر. وأصبحت، بالتالي، تلجأ إلى التدخل باستخدام القوّة تارة، وفرض العقوبات تارة أخرى، لما تمتلكه من إمكانات ضخمة، في مختلف المجالات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية. وقد عبّرت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، مادلين أولبرايت، عن طبيعة هذا النظام، في تعليقها عن الموقف الأميركي من الأزمة العراقية، بقولها: "إذا كان لا بد من استخدام القوّة ضد العراق، فلأننا أميركا". وهذا يعني أنّ الرؤية الأميركية لطبيعة هذا النظام الكوني لا تقوم فقط على مبدأ الإخضاع والسيطرة، بل وعلى أنه نظام مليء بالتهديدات لهذه السيطرة. بالإضافة إلى هذا، فإنّ سياسة ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين باتت تمثّل سمة من سمات النظام العالمي الجديد، حيث يبيح أشياء لدول معينة، ويحرّمها ذاتها على دول أخرى، كما يبيح لبعض الدول ممارسات، ويفرض على دول أخرى العقوبات، لمجرّد التفكير فيها، علاوة على ذلك، إنّه يدعي تحقيق السلم العالمي، وإقرار سيادة القانون في العلاقات الدولية، ومبدأ المساواة وتقوية دور المؤسسات العالمية للأمم المتحدة ومجلس الأمن، إلا أنّ هذه الشعارات الخلاّبة تتعارض معه، من حيث المضمون، فقد فرض حظرا جويا وعسكريا على ليبيا، بموجب قرار مجلس الأمن، رقم 748 في 1992/4/15 تسبّب في تداعيات مؤلمة، دفع ثمنها الشعب الليبي، وفرض حصاراً شاملا على العراق، لم يميّز فيه بين النظام والشعب، وذلك من دون أن نعلم أين كان مجلس الأمن، عندما احتلت إسرائيل جنوب لبنان؟ وأين قراراته عندما غزت روسيا جمهورية الشيشان، أم أنّ الأخيرة لا تعدو أن تكون صفقة مقابل صفقة العراق؟ هذا في وقت يسعى فيه هذا النظام، أحادي القطب، إلى إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل، يسمح لإسرائيل بامتلاك تلك الأسلحة، بدعوى الحفاظ على التفوّق العسكري، حيث تردّد أنّ في حوزتها 2500 رأس نووي!
وعلاوة على هذا وذاك، ليس مرد الامتنان الغربي حيال الدول الأقل نمواً مدى التزام الأخيرة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، كما يقولون، بل على أساس مراعاة هذه الدول المصالح "الأوروأميركية" إلى درجة تصنَّف، من خلالها، أنها متقدمة أو متخلفة، متحضّرة أو بدائية، أصولية أو إرهابية، على أساس تلك المرجعية. وهذا يعني أنّ هذا النظام الكوني، بزعامة أميركا، يهدف، أساساً، إلى خدمة مصالح بلدان الشمال، حتى ولو تحقّق ذلك على حساب وضد مصالح بلدان الجنوب، كما أنّ الواقع الذي يصوغ العلاقات الدولية يكشف، بوضوح تام، عن تناقض الخطاب المعلن مع حقيقة ممارسات البلدان الغنية والداعية إلى إقامة هذا النظام.
من الواضح أنّ نظاما انبثق من دخان المعارك، وتشبّع بسعير الحروب، لن ينثني، أبداً، عن إشعال فتيل اللهب في أية لحظة، فهو يرفع شعار السلم، لكنه يستخدم الحرب أداة والعنف وسيلة، وهذا ما تجلى واضحاً حيال الاحتلال الغاشم للعراق، والتهديدات الأميركية المحمومة ضد أية دولةٍ، ترفض الدخول صاغرة إلى بيت الطاعة الأميركي، وذلك برفع شعار مخاتل: "من ليس معنا فهو مع الإرهاب"، بما يؤكّد أنّ التهديد والعنف ولغة الحرب والحصار لا الحوار، هو أسلوب هذا النظام الذي يدّعي دعاته أنّه قائم على القانون والمشروعية الدوليين. ومن هنا، يحقّ لنا أن نتساءل، على ضوء الممارسة الفعلية، لا على ضوء جمالية الخطاب، عما إذا لم يكن القانون، المقصود هنا، هو قانون الأقوى، والمشروعية المحال عليها، هنا، هي مشروعية القوة، وعما إذا لم يكن اللجوء إلى القانون الدولي، وإلى الأجهزة الأمنية، مجرد تغطية قانونية لإرادة الهيمنة الأميركية والغربية؟
من المؤكّد، إذن، أنّ نظاما كهذا هو نظام لا يؤسّس للمساواة بين الدول، كما أنّ السلم الذي يتحجّج به هو فرض شروط الاستسلام على كل الأمم الضعيفة، وهو، بالتالي، نظام رأسمالي، لا متكافئ وظالم على الصعيد الاقتصادي، كما أنه قطبي وأحادي، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، على صعيد السياسة الدولية.