27 أكتوبر 2024
الوباء بين التسلطية والديمقراطية
قدّم رئيس الوزراء الفرنسي إدوار فيليب، قبل أيام، أمام البرلمان، خطة الحكومة للخروج التدريجي من الحجْر الذي تم فرضه في البلاد منذ أكثر من ستة أسابيع. وعلى الرغم من أن الخطة تدخل في إطار المهام التنفيذية للحكومة، ولا تحتاج دستورياً إلى أن تُطرح أمام البرلمان، إلا أن الحكومة فضّلت أن تستعرض الخطوات المزمع اتخاذها، وأن تخضع الموافقة عليها للتصويت البرلماني.
في بداية انتشار الوباء فرنسياً، كان الإجماع الوطني ملفتاً، بحيث استنكفت أحزاب المعارضة عن انتقاد الأداء الحكومي، نتيجة الصدمة التي أصابت الجميع، وانتشرت عبارة "لا يجب إطلاق الرصاص على سيارة الإسعاف"، بما معناه أنه يمكن انتظار انتهاء عملية الإنقاذ لمحاسبة الحكومة على الخلل أو التقصير في التخطيط والأداء، إلا أن الحسّ النقدي المتطوّر فرنسياً، واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية بعد عامين، كانا عاملين ساهما في تأجيج مشاعر المعارضين من أحزاب يمينية ويسارية. وقد انتقلوا خطابياً من خندق الاصطفاف إلى جانب الحكومة إلى خندق مقابل، تنهمر منه مختلف أنواع ودرجات الانتقاد شديد اللهجة للأداء الحكومي. وقد تنوّعت الانتقادات من الموضوعي إلى المتطرف، حسب التوجه السياسي للأحزاب وللشخصيات السياسية. وقد تميز متطرفو اليسار، كما اليمين، في حدّة هجومهم، وبالغوا في تحليل الأسباب وتوقع النتائج، فالجبهة اليمينية المتطرّفة مثلاً، والتي تتزعمها مارين لوبين، سارعت إلى اعتبار أن الهجرة وفتح الحدود سببان رئيسيان لانتشار الوباء. أما حزب المتمرّدين لصاحبه جان لوك ميلانشون فاعتبر أن إدارة الأزمة تصل إلى حد الفضيحة الأخلاقية، مُديناً ما أسماه حرص الدولة على أصحاب المال أكثر من اهتمامها بحيوات العامة.
الانتقاد الرئيسي الذي يمكن أن يُبنى عليه، وبعيداً عن المماحكات السياسوية والمساعي الانتخابية، يبقى هو ما يسميها بعضهم الإجراءات "القمعية" والتي تحدّ من الحريات. وقد اعتبر مفكّرون فرنسيون أن الحجْر الصحي، أو فرض المسافة الاجتماعية، أو حتى فرض ارتداء الكمامات
الواقية، تعدٍّ صارخ على الحريات العامة. كما اعتبر آخرون أن الدولة استغلت الوباء لفرض قانون طوارئ تسلطي، ولو أنها أسمته حالة طوارئ "صحية". ومقابل هذا الانتقاد النخبوي، برزت أصوات تقليدية تعتبر التسلطية الأنجع في مواجهة حالات طارئة كهذه، وأن على الحكومات الديمقراطية أن تخفف من التزامها باحترام الحريات مقابل الحد من انتشار الوباء والقضاء عليه. وأخذ هذا التيار باستحضار ما يعتقد أنها تجارب ناجحة أولاها تجربة الصين. واستفاد هذا التيار الذي يميل إلى أقصى اليمين، من الخوف والترقب، لكي يتهم السلطة السياسية بانتهاج سياسة رخوة تجاه من لا يلتزم بالحجْر، وخصص منهم أبناء الضواحي الفقيرة التي أغلب سكانها هم من المهاجرين أو ذوي الأصول الأجنبية.
استحضار التجربة الصينية التي أوهمت بعضهم بأنها نجحت في احتواء الوباء، وجد له صدى عربياً قوياً، وبدا أن الإعجاب بها يتجاوز الأنظمة التسلطية التي تتحالف مع الصين، ليصل إلى من هم في صفوف الشعوب المقهورة، والتي يبدو أن ثوراتها ضد الاستبداد قد لا تمنع بعضهم أحياناً من الإعجاب باستبداد الآخرين. وعلى الرغم من أنه بدأت تظهر إلى العلن المعلومات التي تنقض أسطورة النجاح الصيني، والتي تترافق مع اكتشاف من اختفى من الأطباء الذين نبهوا وحذروا من انتشار الوباء باكراً، كما مع فضح الأرقام الضئيلة بعدد الضحايا المصرّح عنها واكتشاف المجزرة الكبرى التي سببها الوباء في مراكز تموضعه الصينية، إلا أن الإعجاب بالأسلوب القمعي/ الاستقصائي/ التعتيمي الصيني قد نال من وعي كثيرين.
اتهامات الرئيس الأميركي، ترامب، الصين أنها اخترعت الفيروس في مخابرها تدخل في إطار الاستفاضات التويترية التي صار متخصصاً فيها منذ يومه الأول في البيت الأبيض، والبعيدة كل البعد عن التفكير والعقلانية، إلا أن هذا لا يجب أن يدفعنا إلى الدفاع عن سياسات هذا البلد التي تنتهك كل حقوق عماله من حيث ساعات العمل والأجور، كما تُشغّل الأطفال وتلوّث البيئة وتستخفّ بكل الاتفاقيات المناخية الدولية، مع أنه في موضوع البيئة توازيها أميركا استخفافاً.
ينسى المعجبون بالنموذج الصيني أن النجاح الحقيقي تم تسجيله في كوريا الجنوبية الديمقراطية، وبعيداً عن أية أساليب قمعية وزجرية. وقد اعتمد الكوريون في ذلك على تعزيز مفهوم المواطنة، وعلى إبراز ثقافة الالتزام. والنموذج الكوري المجاور للصين ليس النموذج الديمقراطي الوحيد الناجح "وبائياً"، بل يمكن التوقف أوروبياً عند تجارب بلدان متطورة عديدة من التي لجأت إلى سياسة الحجر أو التي اختارت الابتعاد عنها.
إن كان المستقبل سيحمل مراجعات سياسية واقتصادية كونية لسياساتٍ أثبتت المأساة الحالية مسؤوليتها أو عجزها، فمن المفيد أيضاً أن تُراجع الصين خصوصاً طبيعة نظامها السياسي التسلطي، ومنظومتها الاقتصادية الطموحة على حساب الإنسان.
وفي المحصلة، على من يعجبه أداء النظم التسلطية في الأزمة القائمة، ألا ينسى أنه في نظام تسلطي يكمم الأفواه ظهر الفيروس القاتل.
الانتقاد الرئيسي الذي يمكن أن يُبنى عليه، وبعيداً عن المماحكات السياسوية والمساعي الانتخابية، يبقى هو ما يسميها بعضهم الإجراءات "القمعية" والتي تحدّ من الحريات. وقد اعتبر مفكّرون فرنسيون أن الحجْر الصحي، أو فرض المسافة الاجتماعية، أو حتى فرض ارتداء الكمامات
استحضار التجربة الصينية التي أوهمت بعضهم بأنها نجحت في احتواء الوباء، وجد له صدى عربياً قوياً، وبدا أن الإعجاب بها يتجاوز الأنظمة التسلطية التي تتحالف مع الصين، ليصل إلى من هم في صفوف الشعوب المقهورة، والتي يبدو أن ثوراتها ضد الاستبداد قد لا تمنع بعضهم أحياناً من الإعجاب باستبداد الآخرين. وعلى الرغم من أنه بدأت تظهر إلى العلن المعلومات التي تنقض أسطورة النجاح الصيني، والتي تترافق مع اكتشاف من اختفى من الأطباء الذين نبهوا وحذروا من انتشار الوباء باكراً، كما مع فضح الأرقام الضئيلة بعدد الضحايا المصرّح عنها واكتشاف المجزرة الكبرى التي سببها الوباء في مراكز تموضعه الصينية، إلا أن الإعجاب بالأسلوب القمعي/ الاستقصائي/ التعتيمي الصيني قد نال من وعي كثيرين.
اتهامات الرئيس الأميركي، ترامب، الصين أنها اخترعت الفيروس في مخابرها تدخل في إطار الاستفاضات التويترية التي صار متخصصاً فيها منذ يومه الأول في البيت الأبيض، والبعيدة كل البعد عن التفكير والعقلانية، إلا أن هذا لا يجب أن يدفعنا إلى الدفاع عن سياسات هذا البلد التي تنتهك كل حقوق عماله من حيث ساعات العمل والأجور، كما تُشغّل الأطفال وتلوّث البيئة وتستخفّ بكل الاتفاقيات المناخية الدولية، مع أنه في موضوع البيئة توازيها أميركا استخفافاً.
ينسى المعجبون بالنموذج الصيني أن النجاح الحقيقي تم تسجيله في كوريا الجنوبية الديمقراطية، وبعيداً عن أية أساليب قمعية وزجرية. وقد اعتمد الكوريون في ذلك على تعزيز مفهوم المواطنة، وعلى إبراز ثقافة الالتزام. والنموذج الكوري المجاور للصين ليس النموذج الديمقراطي الوحيد الناجح "وبائياً"، بل يمكن التوقف أوروبياً عند تجارب بلدان متطورة عديدة من التي لجأت إلى سياسة الحجر أو التي اختارت الابتعاد عنها.
إن كان المستقبل سيحمل مراجعات سياسية واقتصادية كونية لسياساتٍ أثبتت المأساة الحالية مسؤوليتها أو عجزها، فمن المفيد أيضاً أن تُراجع الصين خصوصاً طبيعة نظامها السياسي التسلطي، ومنظومتها الاقتصادية الطموحة على حساب الإنسان.
وفي المحصلة، على من يعجبه أداء النظم التسلطية في الأزمة القائمة، ألا ينسى أنه في نظام تسلطي يكمم الأفواه ظهر الفيروس القاتل.