لعبت الحضارة العربية الإسلامية دورًا فاعلًا في تحفيز الذات الإنسانية الإبداعية، وشكلت في تخارجها علاقة تفاعلية مع الثقافات الإنسانية الأُخرى أدّت إلى بروز مهنٍ جليلة تبرعمت في أزمنة الصعود الحضاري للعرب المسلمين، وكان من أهمها صُنعة الوِراقة والوَراقين، التي تحولت من صنعة لكسب لقمة العيش إلى ظاهرةٍ ثقافية عمت العالم الإسلامي وانتقلت إلى الأمم قاطبة. وبناء عليه، يحاول هذا المقال الغوص في ثنايا تاريخ هذه الصنعة "الوراقة" لمعرفة أسباب تبلورها كحركة إبداعية – معرفيّة، وتلمس تأثيرها النهضوي في السياق العربي - الإسلاميّ، والإنساني العالمي.
يُعد القرن التاسع الميلادي المحط الزمني الذي عرف فيه العربُ المسلمون أسرار تلك الصنعة، ونقلوها من سمرقند إلى بغداد عن طريق بعض الأسرى الصينيين. يذكر ابن خلدون أن الفضل بن يحيى البرمكي وزير هارون الرشيد هو من قام بإنشاء أوّل مصنع للورق في بغداد، ومن ثم انتشرت مهنة الوِراقة بسرعة فائقة في كل أنحاء العالم الإسلامي، وعدها ابن خلدون من أمهات الصنائع الشريفة "وجاءت صناعة الوراقين المعانين للانتساخ والتصحيح والتجليد وسائر الأمور الكتبية والدواوين واختصت بالأمصار العظيمة العمران".
أصبحت متاجر الوِراقة وبيع الكتب في الأمصار الإسلامية أشبه بأسواق العرب قبل الإسلام، وكانت أسواق الوراقين تُشبه دور النشر في الزمن الحديث بما فيها من تجارة ومنافسة وطمع واحتكار. وقد شجعت الدولة العباسية على استخدام الورق وأدخلته في الدواوين والإدارات كلها، ومع مرور الأيام تزينت مكتبات الخلفاء والعلماء والمساجد بآلاف الكتب والمخطوطات بصورة لخصتها المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه قائلةً: "ونمت دورُ الكتب في كل مكان نُمو العشب في الأرض الطيبة ففي سنة 891م يُحصي المسافر عدد دور الكتب العامة في بغداد بأكثر من مئة".
تنوعت أغراض الوِراقة حسب طبيعة العمل والتخصص الإداري أو الثقافي فكان هناك وراقو الحديث والعلماء والأدباء أو الدلالون والوزراء. لكن الملفت للنظر أن معظم الذين عملوا بتلك المهنة الشريفة في الحضارة العربية الإسلامية كانوا من العلماء واللغويين والمترجمين، ومن أبرزهم؛ ابن النديم وياقوت الحموي والجاحظ، وكان للعِشق الذي يتملك الجاحظ للكتب أن غلب على كل حواسه، وقد اعتمد على الكثير من الوراقين، ولعل أشهرهم زكريا بن يحيى، ليساعدوه في عمله العلمي والأدبي الذي تجسد في مؤلفات بلغت ما يربو على ثلاثمئةٍ وستين كتاباً في شتى صنوف العلوم والفنون.
كان تطوير صناعة الورق عند المسلمين واستخدامه في الأغراض الكتابية من بين أهم الاحداث التي أثرت في الحركة العلمية والفكرية لدى المسلمين والأمم مجتمعة، إذ كانت المعارف قبل ظهور الورق ضيقة النطاق قاصرة على فئات معينة من الناس فساهمت تلك الصَنعة في اتساع مجالات المعرفة، وانتقلت إلى مختلف فئات المجتمع، وأدت إلى ظهور المدارس الفكرية الفقهية والكلامية مستفيدة من مناخ ملائم وحريةٍ فكرية سادت آنذاك، والتي ساهمت بدورها، في تسريع حركة النقول من اللغات الأخرى مما شكل طفرة ثقافية في العصر العباسي (750 ـ 847 م). كما أدت مهنة الوراقة إلى ظهور مهنٍ جديدة كالأحبار والتجليد والمكتبات وصار لها روادها نتيجة التشجيع والرعاية من الخلفاء والولاة والميسورين، والمهتمين. الأمر الذي ساهم في تعزيز سلطة النخبة الحاكمة التي وجهت تلك الحرفة حسب سياستها في الغالب. من جهة أخرى، طورت الوراقة الذائقة الفنية عند الوَراق في تجويد الخط العربي، كما طورت فن الزخرفة للخطوط بأطر وأشكال فريدة لتصبح اللغة العربية لغة علم وفن معاً. وبناء عليه، جمعت الوِراقة بين الحرفية والإبداع لتعطي الثقافة العربية الإسلامية قيمة علمية وأدبية وجمالية وفنية، وكذلك تحولت إلى مصدر مَعاش لطلبة العلم الذين كانوا ينسخون المخطوطات بأيديهم ويبيعونها للوراقين. ومن أفضال تلك المهنة أنها حفظت تراث الأمم القديمة من الضياع (الفارسية، واليونانية)، وبلغت الكتب مكانة مرموقة وصار لها قواعد وفنون للاستخدام، فهذا هو العلموي (981 هـ) يُرشد القارئ إلى كيفية التعامل مع الكتاب بالقول: "وإذا نَسخ من الكتاب أو طالعه فلا يضعه مفروشاً على الأرض بل يجعله مرتفعاً ويُراعى الأدب في وضعها باعتبار علومها فيضع الأشرف أعلى الكل".
يمكن القول، إن العرب المسلمين بذلك الفعلِ الحضاري طوروا أداة رئيسية من أدوات الاتصال والمعلوماتية التي انتقلت عن طريق الأندلس وصقلية إلى فرنسا وإيطاليا، ومهدت الطريق لاختراع المطبعة في القرن الخامس عشر الميلادي، وغدت الوراقة أداة نموذجية للتفاعل الحضاري بين الثقافات، وأظهرت عالمية الحضارة العربية الإسلامية وما لعبته من دور في تغيير وجوه الحياة، وأدت دوراً بارزاً في إيقاظ الأمم الأخرى لتدوين آدابها وعلومها وفنونها وبناء هويات خاصة بها.