اليمن المنسي لألف عام
وفعلا لم أصب بأي صدمة عند وصولي إلى هولندا، إذا ما استثنينا بساطة الناس وولعهم بالحياة وجدهم في الدراسة والعمل لآخر رمق، ما أصابني بالصدمة وجعلني أتحسس بلدي الساكن في صدري وكأنني أهدهد مولودا خديجا كان التاريخ، تاريخ الحياة والفن.
أنا التي لم أزر متحفا قط، اقتحمت التاريخ من أوسع أبوابه، وفي أول زيارة لمتحف كنت أسير صوب الماضي مباشرة، في المتحف البحري في أمستردام، هناك في الطابق الثاني صوب الشمال كانت صالة كبيرة ممتلئة بالخرائط التي رسمها هولنديون في قرون مختلفة، وخصوصا في القرن السادس عشر والسابع عشر. توجهت نحو خريطة العالم التي رسمها أحد أشهر صناع الخرائط في هولندا، فيليم بلاو، وبعيدا عن عظمة اللوحة الفنية التي تغطي نصف مساحة الجدار ذهبت أنا لأبحث عن اليمن.
وجدتها يتيمة لا يعرف منها العالم إلا عدن وزبيد، لكن مساحتها كانت تغطي تقريبا شبه الجزيرة العربية كاملة، شعرت بالحزن لأنني رغم انتقالي عبر التاريخ إلى ما قبل 400 سنة إلا أنني لم أشعر بالفرق، ما زالت اليمن منسية وما زالت الأسباب هي ذاتها لم تتغير، فقط تقلص حجمها في الخريطة وكثر أعداؤها، لكن السبب الرئيسي للتخلف والصراعات الدائمة والتخلف عن ركب الحياة هو ذات الفكرة التي تقول إن لأحدهم جينات لعينة تحجب عنه رؤية حقيقة أن اليمن بلد للجميع ولا يحق لأحد أن يحتكر إدارته.
في ذات اليوم ذهبنا لزيارة منزل ريمبرندت، أشهر فنان هولندي، الذي تحول لاحقا ليصبح متحفه الخاص، هناك شعرت بغصة أكبر، فأمام تلك اللوحات العظيمة التي رسمها وأمام الاسكتشات المعلقة في ورش العمل والمخلوقات البحرية التي كان يجمعها بغرض الدراسة توترت بشكل ملحوظ وبدأت ألعن الساعة التي استقبل فيها اليمنيون الإمام زيد وفكرة الإمام زيد.
تلك الفكرة المتطرفة التي باعدتنا عن العالم لألف عام وأكثر.. بعثت الخريطة لأحد الأصدقاء الذين يشاركونني هذه المشاعر المفرطة في الحب والكراهية، حب اليمن وكراهية فكرة الولاية، ما الذي أنتجه اليمنيون خلال الألف عام الماضية؟ كنت أسأله وأنا أعلم يقينا بأنه سيقول لا شيء غير الصراع، لكنه ذكر لي بعض المعالم والآثار من عهد الدولتين الرسولية والطاهرية كقلعة القاهرة والمدرسة العامرية، لكني سألته بشكل مباشر: قل لي: هل توجد على الأقل لوحة واحدة؟ فأجبني بالنفي!.
عدت للبيت حزينة جدا، لم أصب بصدمة التاريخ فقط بل وبالخذلان أيضا. لماذا يا الله تركتنا على هامش العالم، على هامش الخريطة، على هامش التاريخ وعلى هامش الأبجدية!
كنت في منزل ريمبرندت ألتقط صورا للمطبخ، للفرن، للأواني الفخارية، للأرضية الأسمنتية والجدران الرمادية، وحدها تلك الأشياء مثلت لي شيئا أعرفه، لذلك بعد زيارة كل غرف البيت عدت للمطبخ وكأنني أتواطأ مع التاريخ والعادات والتقاليد والفكرة الأسمى في عقل العربي والغربي آنذاك، بأن المرأة تنتمي للمطبخ، لكنني كنت مخطئة ولم يكن هذا هو السبب!
في اليوم التالي صحوت متكاسلة، وددت لو باستطاعتي تفويت زيارة المتحف، لم أشأ أن أصاب بخيبة جديدة، هناك في متحف كاثرينا كونفنت، الذي سيصبح فيما بعد أول متحف أقوم فيه بجولة تعريفية لزوار هولنديين وأجانب، وجدت سبب تعلقي بمطبخ منزل ريمبرندت.
كاثرينا كونفنت كان عبارة عن دير للراهبات ومستشفى ثم تم تحويله إلى متحف في القرن العشرين، يحتوي المتحف أعمالاً فنية من القرون الوسطى وحتى وقتنا الحالي، تضم التراث المسيحي الكاثوليكي والبروتستانتي، وتعكس تلك الأعمال التغيرات التاريخية التي مرت بها هولندا وتأثيرها على الثقافة والمجتمع، في المتحف مخطوطات قديمة للإنجيل ولكتب الأناشيد الدينية ومنحوتات وأوانٍ معدنية ومجوهرات من ممتلكات الكنيسة ولوحات فنية لكثير من الفنانين.
في كاثرينا كونفنت استعدت ثقتي بنفسي قليلا، بدأت التحدث بصوت أعلى وتغيرت نبرة صوتي، حتى إن البروفسور التي رافقتنا في الرحلة سألتني: يبدو أنك وجدت شيئا ما أعجبك؟ فأجبتها بابتسامة وقلت نعم!.. لقد كنت في اليومين الماضيين أشعر بالامتعاض لأن شعبي تخلف عن الحضارة لألف عام.
قاطعتني: لكنكم تعرفون التكنولوجيا، أليس هذا غريبا!؟ قلت لها بأنني أوافقها الرأي وإنني لم أعد أرى الموضوع بتلك الحدية، وإن نظرتي اليوم قد تغيرت تماما، خصوصا بعد حديثي مع زميل بوذي يدرس معنا، قلت لها إن المتاحف فكرة غربية بامتياز وإنني ما إن وطئت قدمي الصالة الأولى للمتحف حتى بدأت ذاكرتي باستعادة كل الأماكن التاريخية التي زرتها مع والدي.
في اليمن لا نهتم بالمتاحف، لكن في كل بيت قطعة فنية! فتحت هاتفي وأريتها صور صنعاء القديمة التي أحتفظ بها وصور شبام حضرموت وتريم، وقلت لها هذه متاحف حية لا يزال الناس يعيشون هنا، الفن في كل قطعة وفي كل حجر، في النقوش والقمريات والجبس الملون في كل بيت، ما ينقصنا حقا هو كيف نحافظ على هذا التراث العظيم وكيف نتعلم احترامه.
عندما صعدنا إلى صالة العرض الثانية، حيث الكثير من اللوحات، لم أستأ كما الأيام الأولى، فقد أدركت أن لكل أمة فنونها وأنني كنت من السذاجة إذ اعتقدت أننا أمة لا تعرف الفن لمجرد أننا لا نملك لوحات زيتية!
لكنني أدركت من تجربتي هذه ما للهوية والتاريخ من تأثير علينا، وتعلمت أيضا كيف أقدر الفن الموجود في كل شيء حولي، وعلمت جيدا أن عودتي للمطبخ كانت لذات السبب!، فهناك وجدت النقوش في الأواني الفخارية والبساطة في جدران وأرضية المكان والزخارف في أواني الطبخ والانعكاسات الملونة على الحائط، لقد كنت أقدر الفن المتواري في ذلك المكان بعيدا عن اللوحات الزيتية التي ملأت جدران البيت كاملا.
لم أخف من شيء مثلما خفت أن تكون دروس والدي لنا عن تاريخ اليمن العظيم هي مجرد وهم وأننا مقارنة بحضارات أخرى بدائيون جدا، لكنني عدت نحو نقطة البداية حيث التقت محبتي لهذا البلد مع كرهي لمن يتسترون بالدين للتلاعب بعقول الناس وأنا متيقنة جدا أننا سنغلبهم في يوم ما، وسنزور أنقاض أفكارهم في المتاحف ليتعلم أبناؤنا أننا قادرون على العيش في بلد واحد مهما اختلفت دياناتنا أو طوائفنا أو أعراقنا.
سنغلق الباب على معتقداتنا في البيت ونسير عراة من أي تمييز في الشارع، سنجد الوقت الكافي لزيارة التاريخ بعد أن نكون قد أحكمنا قبضتنا على الحاضر، وسأذكر جسارتي وأنا أكتب هذه المدونة وأضحك!