02 أكتوبر 2024
اليمن.. حرب الجميع ضد الجميع
شكلت أحداث مدينة عدن مفترق طرق في سياق الحرب الجارية في اليمن، إذ مثلت بنتائجها العسكرية والسياسية، ومواقف الدول المتدخلة، مقدمة لتحديد اللاعبين الرئيسين في أي تسويةٍ سياسيةٍ مستقبلاً، فضلاً عن تخليقها جذور اقتتال أهلي في إطار حرب شاملة. فخلافاً للمواجهات المتقطعة التي دارت بين المجلس الانتقالي والسلطة الشرعية في مراحل سابقة، فإن أحداث نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي نقلت الصراع بين الطرفين إلى مرحلة اللاعودة، كما ثبتت الانحيازات الإماراتية والسعودية واقعاً عسكرياً جديداً في مدينة عدن ومناطق الجنوب، هدف إلى نزع ما تبقى من شرعية السلطة اليمنية، مقابل تكريس أسباب الصراع بين الطرفين حالة دائمة، تهدف إلى إنهاك المجتمع اليمني، وأداة لإدارة تعقيدات الشأن اليمني في المرحلة المقبلة.
لأسباب كثيرة ومتداخلة، ظل المجلس الانتقالي يؤجل معركته الصفرية مع الشرعية اليمنية، محكوماً بلعبة التوازنات التي أسّست لها السعودية، في إدارة علاقتها بحلفائها المحليين في عدن، وانهماك الإمارات في توسيع نفوذها في المدن الجنوبية الأخرى، فيما راهن المجلس الانتقالي على الدعم الإماراتي في العزل التدريجي للشرعية، باعتبارها سلطة قائمة في المناطق المحرّرة، وفي مدينة عدن تحديداً، لكن المتغيرات السياسية والعسكرية بعد مقتل الرئيس
السابق، علي عبدالله صالح، دفعت المجلس الانتقالي إلى تسريع المواجهة، إذ لم يكن توقيت تفجير المجلس الانتقالي للصراع العسكري ناجماً عن المهلة التي منحها المجلس للرئيس عبد ربه منصور هادي لإقالة الحكومة اليمنية، وإنما بروز قوة عسكرية بقيادة العميد طارق صالح، مدعومة من التحالف العربي، اتخذت من مدينة عدن منطلقاً لها، حيث رأى المجلس أن تنامي قوة طارق في عدن تهديدٌ لنفوذه، وأن الدعم الإماراتي لطارق سيكرسه طرفاً في التسويات اللاحقة، واستبعاد المجلس في حال ظل قوة جماهيرية لا عسكرية، كما أن حسم الحوثيين السلطة في صنعاء بدا محفّزاً رئيساً لقيادات المجلس الانتقالي، لفرض سلطتهم في عدن بموازاة الحوثيين. ومثل قرب انتهاء ولاية إسماعيل ولد الشيخ وتعيين مبعوث أممي جديد في اليمن فرصة مواتية لفرض نفسها طرفاً يمثل الجنوب في المشاورات المقبلة، ومن ثم سرعت قيادة المجلس الانتقالي معركتها المفصلية ضد السلطة الشرعية ممثلة بالرئيس هادي، وذلك باستثمار النقمة الشعبية على حكومة أحمد عبيد بن دغر غطاءً سياسياً لإسقاط مدينة عدن، وفرض نفسها سلطة أمر واقع.
كرّست المواجهات العسكرية بين التشكيلات القتالية الموالية للمجلس الانتقالي والقوات الرئاسية التابعة لهادي، الثقل الحقيقي للطرفين على الأرض: انتصار الشرعية التي أوجدتها الحرب، في مقابل تقويض شرعية المرحلة الانتقالية. وفيما اعتمد المجلس الانتقالي على التشكيلات العسكرية والأمنية التي شكلتها الإمارات، كالحزام الأمني، والقوات الشبوانية في شبوة، ومليشيات أخرى أقل نظاميةً في عدن ممثلة بقوات المحضار، لحسم الصراع في عدن ومناطق الجنوب، إضافة إلى توظيف المجلس الانتقالي التركيبة العشائرية والمناطقية في المدن المحيطة بعدن، لتهديد الشرعية بحربٍ أهلية، وإجبارها على قبول الواقع الجديد، في حين اعتمدت الشرعية على قوة عسكرية وحيدة ممثلة بالألوية الرئاسية، وهو ما أكد اختلال موازين القوة لصالح المجلس الانتقالي، إذ أن سرعة إسقاط التشكيلات العسكرية الموالية للمجلس الانتقالي مؤسسات الدولة في مدينة عدن ومحاصرة الحكومة، بما فيها السيطرة على اللواء الرابع رئاسي، أثبت أن الدعم العسكري الذي ضخته دول التحالف العربي ثلاثة أعوام لم يكن لتأمين شرعية هادي، وإنما لتسليح مختلف المليشيات الخارجة عن الشرعية. وهذا لا يغفل حقيقة أن جميع التشكيلات العسكرية والألوية التي تأسست في مرحلة الحرب، بما فيها الألوية الرئاسية التابعة لهادي، لم تبنَ على أسس وطنية، وإنما تبعاً لمراكز النفوذ العسكرية داخل الشرعية، وهو ما وظفه المجلس الانتقالي في معركته لإسقاط عدن، باعتبار الألوية الرئاسية تابعة لحزب الإصلاح الشمالي، فيما لم تكن بيانات الرئيس هادي، وتسميته إجراءات المجلس الانتقالي بالانقلاب على شرعيته، وكذلك تحميل بن دغر التحالف العربي المسؤولية المباشرة عن إسقاط عدن، سوى تكريس لضعف الشرعية أمام اليمنيين والمجتمع الدولي.
منذ انفجار الصراع في عدن، دخلت الإمارات طرفاً رئيساً ضد الشرعية، سواء بدعمها العسكري واللوجستي للمجلس الانتقالي من خلال تشكيلاتها العسكرية الأمنية التي تحتكم لإدارتها المباشرة، أو بتغطية وسائلها الإعلامية أحداث عدن، وتوصيفها المجلس الانتقالي ممثلا وحيدا للجنوب، وتبرير استهداف الحكومة اليمنية وشرعية هادي. في المقابل، سعت السعودية إلى تقديم نفسها طرفا محايدا في الصراع، وذلك باستمرار سياستها القائمة على مبدأ التوازن في إدارة صراعات حلفائها المحليين في اليمن. وتجلى ذلك بالبيانات المتناقضة لقيادة التحالف وتصريحات السفير السعودي في اليمن، وتأكيد حرص السعودية على وحدة اليمن، إضافة إلى استعادتها اللواء الرابع رئاسي وتسليمه للشرعية، فيما وصفت معظم وسائل الإعلام السعودية المجلس الانتقالي بالانفصالي، واعتبار إسقاطه عدن تمرّداً على الشرعية، إلا أن حقيقة ما حدث على الأرض هو تمكين السعودية قواتٍ سلفيةً مواليةً لها من استلام المناطق العسكرية التي سبق وأن استولى عليها المجلس الانتقالي، بمقتضى اتفاق التهدئة بين المتصارعين، ما يعني تكريس نفوذ سعودي في عدن وصياً أول في مقابل ترسيم خريطة قوة محلية تقوم على تعزيز المجلس الانتقالي قوة عسكرية مطلقة بحماية إماراتية، ونزع أي قوة عسكرية للسلطة الشرعية في الوقت الحالي أو المستقبل، حتى للدفاع عن نفسها.
بعيداً عن كل التحليلات التي وصفت أحداث عدن صراعاً سعوديّاً إماراتيّاً في المقام الأول، فإن السياقات العسكرية والسياسية والإعلامية التي صاحبت تلك الأحداث، بما فيها النتائج المباشرة
على الأرض، وهي بسط سلطة المجلس الانتقالي على عدن، تؤكد أن المشروع السعودي لا يختلف عن الإماراتي في المجمل، إلا من زاوية الرؤية واختلاف الأدوات التي يستخدمها الطرفان فقط لإدارة نفوذهما، إذ لا يمكن، بأي حال، اعتبار المشروعين متناقضين من حيث الغاية، وانما متنافسين. وفيما تحاول السعودية، قائدة التحالف العسكري في اليمن، انطلاقاً من مسؤوليتها المباشرة أمام المجتمع الدولي النأي بنفسها عن نتائج إدارتها الحرب في اليمن، بما فيها تقويض الشرعية، كي لا تكون الحامل الإقليمي لانفصال الجنوب، خلافاً للإمارات؛ فيما تحاول السعودية ذلك، إلا أن ما تؤكده الأدبيات التاريخية لمشاريع الوحدة اليمنية بين الشطرين منذ ستينات القرن المنصرم، وحتى ما بعد حرب صيف 94، أن الدبلوماسية السعودية عملت ضد وحدة اليمن وبقائه موحداً. وبالتالي، ما بدا صراعاً سعودياً - إماراتياً في عدن لم يكن، في الحقيقة، سوى توزيع أدوار بين القوتين لاقتسام تركة اليمن المريض، بما لا يعكر صفو علاقتهما الإقليمية.
سواء أقيلت حكومة بن دغر، أو ظلت كما هي، على فسادها، وفشلها في إدارة حياة المواطنين، فإنها في الحقيقة لم تكن سوى قميص عثمان، يستخدمه الطامحون للسلطة لتجريف ما تبقى من شرعية هادي، وإذ لم تكن جولة العنف التي شهدتها مدينة عدن، وبعض مدن الجنوب، والتي أسفرت عن مقتل ما يزيد عن خمسين يمنياً في أربعة أيام، صراعاً جنوبياً – جنوبياً، إلا أن أحداث عدن بطابعها العنفي وخطاب أطرافها، استدعت صراعات الماضي المناطقية والعشائرية، وأحيت، في ذاكرة أبنائها، رعب أحداث يناير/ كانون الثاني 1986 كما جعلت من الصراع الجنوبي - الجنوبي محتملاً في المستقبل القريب أكثر من السابق، إذ كرس من المجلس الانتقالي منتصراً في هذه الجولة، وجعل الاحتكام لقوة السلاح والولاءات الإقليمية المعيار للذهاب إلى النهاية. بعد أحداث عدن، ربما ليس كما قبلها، إذ لم يعد اليمنيون المتعبون من حياتهم، وهم يعايشون ما بدت حرب الجميع ضد الجميع، يتذكّرون اليوم أو يفهمون لماذا بدأت الحرب في بلادهم؟ ولأجل ماذا؟ وبين من ومن؟
لأسباب كثيرة ومتداخلة، ظل المجلس الانتقالي يؤجل معركته الصفرية مع الشرعية اليمنية، محكوماً بلعبة التوازنات التي أسّست لها السعودية، في إدارة علاقتها بحلفائها المحليين في عدن، وانهماك الإمارات في توسيع نفوذها في المدن الجنوبية الأخرى، فيما راهن المجلس الانتقالي على الدعم الإماراتي في العزل التدريجي للشرعية، باعتبارها سلطة قائمة في المناطق المحرّرة، وفي مدينة عدن تحديداً، لكن المتغيرات السياسية والعسكرية بعد مقتل الرئيس
كرّست المواجهات العسكرية بين التشكيلات القتالية الموالية للمجلس الانتقالي والقوات الرئاسية التابعة لهادي، الثقل الحقيقي للطرفين على الأرض: انتصار الشرعية التي أوجدتها الحرب، في مقابل تقويض شرعية المرحلة الانتقالية. وفيما اعتمد المجلس الانتقالي على التشكيلات العسكرية والأمنية التي شكلتها الإمارات، كالحزام الأمني، والقوات الشبوانية في شبوة، ومليشيات أخرى أقل نظاميةً في عدن ممثلة بقوات المحضار، لحسم الصراع في عدن ومناطق الجنوب، إضافة إلى توظيف المجلس الانتقالي التركيبة العشائرية والمناطقية في المدن المحيطة بعدن، لتهديد الشرعية بحربٍ أهلية، وإجبارها على قبول الواقع الجديد، في حين اعتمدت الشرعية على قوة عسكرية وحيدة ممثلة بالألوية الرئاسية، وهو ما أكد اختلال موازين القوة لصالح المجلس الانتقالي، إذ أن سرعة إسقاط التشكيلات العسكرية الموالية للمجلس الانتقالي مؤسسات الدولة في مدينة عدن ومحاصرة الحكومة، بما فيها السيطرة على اللواء الرابع رئاسي، أثبت أن الدعم العسكري الذي ضخته دول التحالف العربي ثلاثة أعوام لم يكن لتأمين شرعية هادي، وإنما لتسليح مختلف المليشيات الخارجة عن الشرعية. وهذا لا يغفل حقيقة أن جميع التشكيلات العسكرية والألوية التي تأسست في مرحلة الحرب، بما فيها الألوية الرئاسية التابعة لهادي، لم تبنَ على أسس وطنية، وإنما تبعاً لمراكز النفوذ العسكرية داخل الشرعية، وهو ما وظفه المجلس الانتقالي في معركته لإسقاط عدن، باعتبار الألوية الرئاسية تابعة لحزب الإصلاح الشمالي، فيما لم تكن بيانات الرئيس هادي، وتسميته إجراءات المجلس الانتقالي بالانقلاب على شرعيته، وكذلك تحميل بن دغر التحالف العربي المسؤولية المباشرة عن إسقاط عدن، سوى تكريس لضعف الشرعية أمام اليمنيين والمجتمع الدولي.
منذ انفجار الصراع في عدن، دخلت الإمارات طرفاً رئيساً ضد الشرعية، سواء بدعمها العسكري واللوجستي للمجلس الانتقالي من خلال تشكيلاتها العسكرية الأمنية التي تحتكم لإدارتها المباشرة، أو بتغطية وسائلها الإعلامية أحداث عدن، وتوصيفها المجلس الانتقالي ممثلا وحيدا للجنوب، وتبرير استهداف الحكومة اليمنية وشرعية هادي. في المقابل، سعت السعودية إلى تقديم نفسها طرفا محايدا في الصراع، وذلك باستمرار سياستها القائمة على مبدأ التوازن في إدارة صراعات حلفائها المحليين في اليمن. وتجلى ذلك بالبيانات المتناقضة لقيادة التحالف وتصريحات السفير السعودي في اليمن، وتأكيد حرص السعودية على وحدة اليمن، إضافة إلى استعادتها اللواء الرابع رئاسي وتسليمه للشرعية، فيما وصفت معظم وسائل الإعلام السعودية المجلس الانتقالي بالانفصالي، واعتبار إسقاطه عدن تمرّداً على الشرعية، إلا أن حقيقة ما حدث على الأرض هو تمكين السعودية قواتٍ سلفيةً مواليةً لها من استلام المناطق العسكرية التي سبق وأن استولى عليها المجلس الانتقالي، بمقتضى اتفاق التهدئة بين المتصارعين، ما يعني تكريس نفوذ سعودي في عدن وصياً أول في مقابل ترسيم خريطة قوة محلية تقوم على تعزيز المجلس الانتقالي قوة عسكرية مطلقة بحماية إماراتية، ونزع أي قوة عسكرية للسلطة الشرعية في الوقت الحالي أو المستقبل، حتى للدفاع عن نفسها.
بعيداً عن كل التحليلات التي وصفت أحداث عدن صراعاً سعوديّاً إماراتيّاً في المقام الأول، فإن السياقات العسكرية والسياسية والإعلامية التي صاحبت تلك الأحداث، بما فيها النتائج المباشرة
سواء أقيلت حكومة بن دغر، أو ظلت كما هي، على فسادها، وفشلها في إدارة حياة المواطنين، فإنها في الحقيقة لم تكن سوى قميص عثمان، يستخدمه الطامحون للسلطة لتجريف ما تبقى من شرعية هادي، وإذ لم تكن جولة العنف التي شهدتها مدينة عدن، وبعض مدن الجنوب، والتي أسفرت عن مقتل ما يزيد عن خمسين يمنياً في أربعة أيام، صراعاً جنوبياً – جنوبياً، إلا أن أحداث عدن بطابعها العنفي وخطاب أطرافها، استدعت صراعات الماضي المناطقية والعشائرية، وأحيت، في ذاكرة أبنائها، رعب أحداث يناير/ كانون الثاني 1986 كما جعلت من الصراع الجنوبي - الجنوبي محتملاً في المستقبل القريب أكثر من السابق، إذ كرس من المجلس الانتقالي منتصراً في هذه الجولة، وجعل الاحتكام لقوة السلاح والولاءات الإقليمية المعيار للذهاب إلى النهاية. بعد أحداث عدن، ربما ليس كما قبلها، إذ لم يعد اليمنيون المتعبون من حياتهم، وهم يعايشون ما بدت حرب الجميع ضد الجميع، يتذكّرون اليوم أو يفهمون لماذا بدأت الحرب في بلادهم؟ ولأجل ماذا؟ وبين من ومن؟