وشهد الجنوب موجة من الاغتيالات، انطلقت من اغتيال الشاب الناشط أمجد عبد الرحمن ومن بعده عمر باطويل. بعد ذلك سال الرصاص هنا وهناك، ولم يتوقف عند خطباء المساجد ومدراء المدارس التربوية، بما هي أيضاً مجال للعمل المدني. ثم أتت واقعة اختطاف وتعذيب الناشط الاشتراكي هاني باجنيد، والذي نجا من الموت ليهرب إلى القاهرة، ومنها إلى كوريا الجنوبية طالباً اللجوء فيها.
أما في الشمال، فإن سلطة الأمر الواقع جماعة الحوثي، ومنذ بداية سيطرتها على العاصمة صنعاء في 12 سبتمبر/أيلول 2014، أظهرت بأنها لا تحمل وداً للصحافيين والناشطين على وجه الخصوص، ومنظمات المجتمع المدني أيضاً. وتعاملت معهم كأنهم أعداء محتملون، بصرامة وقسوة وإقفال للأماكن التي يعملون فيها. وبداية الأسبوع، أصدر رئيس ما يُسمى "المجلس السياسي الأعلى" التابع للحوثيين، مهدي المشاط، توجيهاً "قضى بعدم منح أي ترخيص أو التجديد لأي تكوينات" (منظمات- مؤسسات- جمعيات- ائتلافات- اتحادات- نقابات وغيرها) خلال هذه الفترة وحتى إشعار آخر". وكانت الجماعة نفسها قد منعت في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ندوة مدنية في صنعاء حول "مواجهة خطاب الكراهية والتحريض على العنف في وسائل الإعلام اليمنية"، وتم إثرها اعتقال نقيب الصحافيين السابق عبد الباري طاهر، ثم إطلاق سراحه في وقت لاحق مع ناشطين آخرين.
بداية إقفال المجال العام
الصحافي فتحي أبو النصر، وهو كان سكرتير تحرير جريدة "الثوري" المتحدثة باسم الحزب الاشتراكي اليمني في صنعاء، وقد أقفلتها جماعة الحوثي ومنعتها من الصدور، يستعيد بضعة أبيات من الشاعر المصري أمل دنقل في عمله "لا تصالح" قائلاً "كل شيء تحطم في لحظة عابرة"، مضيفاً أن ما يحصل من الحوثيين هو خطأ فادح "وصدام مباشر بينهم وبين بقايا المجتمع المدني. إنها سلطة أمر واقع ونعرف ذلك، لكنها تتجاوز السلوك المنظّم للحياة العامة، وهذا الاختناق سيفضي لمزيد من الاختناق". أبو النصر الذي يقيم حالياً مع أُسرته في العاصمة المصرية القاهرة، يقول في حديثه لـ"العربي الجديد": "لقد خاصموا الجميع، يفكرون بعقلية مغلقة... كانت المنظمات رئة المجال العام، بينما تتجه المناطق التي هي تحت إدارة الحوثيين إلى الفاشية المباشرة". ويؤكد أن هذا الانغلاق غير مبرر أبداً وطائش، كما أن هناك مشاريع كثيرة تتعثر ولا تجد طريقة لإنجاز اكتمالها.
وعند الإشارة إلى أن الوضع نفسه يتكرر في المناطق المُسيطر عليها من قبل الشرعية، بضرب النشاط المدني عبر قتل الناشطين والمدنيين والصحافيين وحتى دعاة المساجد، يقول أبو النصر إن هذا يعني صراحة ولو من دون قرار، سقوط الجانب المضيء في اليمن، "ففي الضفتين لا صوت يعلو فوق صوت العنجهية والسلاح، بعدما كنا كيمنيين قد قطعنا شوطاً لا بأس به في الجانب المدني الحقوقي، واليوم كل ذلك تم ويتم تجريفه بغمضة عين، لمصلحة من؟ بالتأكيد لمراكز القوى المأزومة الجديدة وهي القوى الأكثر تخلّفاً مما مضى"، مضيفاً "التراكم المدني في صنعاء وعدن وتعز ضاع، لقد انتهى كل شيء على نحو عملي وواضح".
من جهته، يقول الصحافي والناشط الجنوبي سامي الكاف، المُقيم في عدن والممنوع من الظهور على القنوات الفضائية، إن الانفلات الأمني الذي يُطبق على مدينة عدن جعل حياة الكثيرين معرضة للخطر، وصارت المدينة مسرحاً لحوادث اغتيالات وإخفاء قسري وملاحقات مستمرة ضد نخب عدن، من أكاديميين ورجال دين وإعلاميين وناشطين وعسكريين أيضاً، "خصوصاً الذين يعارضون سياسات المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً والذي يفرض سيطرته على أجزاء واسعة من المدينة، أو يعارضون سياسات التحالف العربي، ولذلك اضطر كثيرون إلى مغادرة المدينة خوفاً على حياتهم".
حظر النشاط المدني
إقدام الحوثيين في صنعاء على حظر كل الأنشطة التي تقوم بها منظمات المجتمع المدني، من نقابات وجمعيات، إلى مختلف التكوينات الأهلية، والامتناع عن تجديد تصاريح المنظمات القائمة أو منح تصاريح نشاط لمنظمات جديدة، يثير ردود فعل كثيرة رافضة. وفي هذا السياق، يقول عضو سابق في مجلس نقابة الصحافيين يقيم حالياً في صنعاء، فضّل عدم ذكر اسمه، لـ"العربي الجديد"، إن "القائمين على هذا الأمر يزعمون أن حالة الحرب والعدوان التي تعيشها البلاد، وبالذات المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، تبرر لهم الإقدام على هذه الخطوة الخانقة للحياة المدنية، ظناً منهم أن إجراءً كهذا يحمي المجتمع والنظام المفروض عليه من بؤر الفتن السياسية والقلاقل الأمنية وأسباب التوتر الاجتماعي".
ويرى أن "هذا الإجراء يأتي في سياق سلسلة من الممارسات التي تسعى إلى طبع الحياة السياسية والاجتماعية في صنعاء والمناطق التي تقع تحت سيطرة الحوثيين بطابع موغل في الشمولية والقهر وضرب الحقوق والحريات العامة والشخصية، بدءاً من التضييق على الأهالي في نطاق الممارسة المعتادة لطقوس الاحتفالات الاجتماعية والأعراس والمناسبات الخاصة، إلى حرية الاختلاط والنشاط المدني المشروع في الأماكن العامة والمفتوحة، إلى عقد النشاطات الفكرية والثقافية في الجامعات والنوادي والجمعيات والمرافق العامة". ويشير إلى أن "وتيرة التضييق وقمع الحياة العامة ونشاطات المجتمع المدني تزداد شراسة وقتامة يوماً إثر آخر، لا سيما في الشهور القليلة الماضية، وبلغت حدّ منع حفلات الموسيقى والطرب الشعبي، وهو ما يعيد إلى الذاكرة الشعبية في صنعاء تلك الفرمانات التي كان يصدرها بهذا الخصوص الإمام يحيى حميد الدين الصريع في حركة 1948".
ويلفت إلى أن "كثيرين يرون أن مثل هذه الممارسات تشير إلى حالة من التخبط والترنح أصابت سلطة الحوثيين أخيراً، كانعكاس للنتائج التي تشهدها ميادين القتال بين قوات الحوثي وقوات الشرعية المدعومة من التحالف، لا سيما في جبهات الساحل الغربي والحديدة وصعدة وحجة، والتي تشهد يومياً مجازر جماعية يروح ضحيتها خيرة شباب البلاد من الطرفين وقوداً لحرب مفتوحة على أسوأ الاحتمالات وأبشع المصائر".
من جهتها، تشير مليحة الأسعدي، وهي رئيسة "مؤسسة سلام" للاستجابة الإنسانية والتنمية، ومقرّها صنعاء، إلى عدم يقينها بأن تمضي جماعة الحوثي في قرارها. وتقول عن هذا الموضوع: "أشك أن يحدث هذا الأمر تماماً، لأن معنى ذلك خسارة آخر خيط يربط أي طرف بالاستمرارية في أرض الواقع"، مضيفة "المنظمات والمبادرات الفردية والجماعية تقوم بدور جوهري في إنقاذ حياة الكثير من الناس، تحديداً عبر برامج الإغاثة العاجلة والإنقاذ". وتلفت إلى أن القرار الجديد "يضيف المزيد من التهديدات التي تواجه المنظمات المحلية لغرض لم يتضح بعد، أو ربما للسيطرة على المنظمات المحلية وجعلها بلون واحد، علماً أن مثل هذا الإجراء اتُخذ سابقاً، لكن بضغط مجتمعي تم إلغاؤه سريعاً".
أما الصحافي في جريدة "الثورة" الرسمية، الواقعة تحت سيطرة جماعة "أنصار الله" (الحوثيين)، مجدي عُقبة، فيعرب عن أسفه لأن "هناك من يأخذ جماعة الحوثي بالاتجاه الذي ذهبت إليه الكثير من التنظيمات المتطرفة، ولأن هناك بعض المحسوبين على الحوثيين يعتبرون وجود منظمات وتكوينات مدنية خطراً على مستقبل جماعتهم، لذلك فهم يخافون من الرأي الآخر ومن التعددية ويعتبرون ذلك مؤامرة أجنبية". ويقول عُقبة إن جماعة "أنصار الله" لم تكن قبل سنتين تقريباً بهذا التفكير المتخلف، معرباً عن اعتقاده بأن "هناك مركز اختراق يعمل على تشويه حركة أنصار الله وإظهارها كجماعة متطرفة ومستبدة، وما هذا القرار إلا تأكيد لهذه الحقيقة، إذ سبق وشنّ محسوبون على الجماعة حملة ضد محلات القهوة بحجة الاختلاط، وقبل ذلك قام محسوبون على الجماعة بإقفال محلات الملابس، بالأخص محلات بيع فساتين الأعراس، بحجة أن هناك رسومات ودمى خادشة للحياء على واجهة تلك المحلات". ويضيف: "للأسف هذا التفكير المتخلّف وهذه التصرفات تفضح النوايا الحقيقية لدى أولئك الذين باتوا يتحكمون بتوجّهات الجماعة ومستقبلها، وهؤلاء لا يختلفون عن الإخوان المسلمين وعن الوهابية، ففي الوقت الذي دخلت فيه السعودية عصر الانفتاح، انتقلت هيئة الأمر بالمعروف من الرياض إلى صنعاء، وهذا الشيء في غاية الخطورة، وإذا لم يقف الجميع بوجه هذه التصرفات سنشاهد وبلا شك داعش آخر في صنعاء".
من جهته، يقول الصحافي سامي غالب، وهو عضو مجلس نقابة الصحافيين ورئيس تحرير جريدة "النداء" الأهلية الموقوفة، إن هذا القرار الأخير لجماعة الحوثي "لا يمكن استغرابه، فهم أساساً قد انقلبوا على الدستور وأصدروا منفردين إعلاناً دستورياً انتهكوه من اليوم التالي، وهم بالطبيعة كجماعة مسلحة ضد أي حيّز عام يؤشر إلى وجود مجتمع سياسي". ويضيف غالب المقيم حالياً في القاهرة، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "التصور المهيمن على عقل هذه الجماعة وقائدها، يتنافى مع وجود أي تعبير سياسي أو مدني يمت إلى الدولة بما هي صيغة حديثة، وقرار كهذا هو مجرد إفصاح آخر، وليس متأخراً ولا أخيرا، عن العداء الدفين الذي تكنّه هذه الجماعة للدولة بما هي صيغة تعاقدية بين اليمنيين".