"اليمين لم يقتل رابين... من قتله إيغال عمير". لا شيء يعكس الثقة الفائضة بالنفس التي بات يتمتع بها اليمين الإسرائيلي، وتحديداً اليمين الاستيطاني الديني ممثلاً بتيار الصهيونية الدينية، كما تعكسها الجملة القصيرة والمقتضبة أعلاه التي قالها نفتالي بينت، وزير التعليم الإسرائيلي، زعيم البيت اليهودي (الحزب الوريث لحزب المفدال التاريخي) حزب الصهيونية الدينية، يوم الأحد، تعليقاً على المهرجان الشعبي لإحياء الذكرى السنوية الـ23، لاغتيال رئيس الحكومة الأسبق إسحاق رابين.
ولا شيء يمثّل تخلص اليمين من عقدة الذنب، وضعف الشرعية في الحكم، مثل الجملة التي صاغها، الأحد أيضاً، رئيس الكنيست الحالي يولي إدلشتاين، المنتخب على لائحة "الليكود"، مع أنه يعتمر قبعة التيار الديني الصهيوني. فقد قطع "الشك باليقين" في هذا الاتجاه من منظور اليمين، عندما أعلن أن مقتل رابين لم يغيّر في التاريخ والسياسة الإسرائيليين شيئاً.
ويمكن إضافة تعبير ثالث لهذه الثقة والتنكّر الكلي لذنب اليمين الإسرائيلي ومسؤولية قادته، وتحديداً رئيس الحكومة الحالي، بنيامين نتنياهو، عن حالة أجواء التحريض الدموي ضد رابين وصولاً لإنتاج صور له يرتدي ملابس الضباط النازيين، يتمثل بالقول الذي نُسب إلى وزيرة الثقافة والرياضة الإسرائيلية ميريت ريغيف، عندما قالت إن رابين "لقي مصرعه"، مستخدمة عبارة حيادية كلياً تتجاهل حقيقة وقوع جريمة اغتيال لرئيس حكومة، وكأن شيئاً لم يحدث.
كان يمكن إعفاء القارئ العربي من هذه التصريحات الثلاثة أعلاه لولا دلالاتها العميقة على التغيير الجوهري في المجتمع الإسرائيلي، لدرجة قبوله بعد أقل من ربع قرن، بمحو جريمة اغتيال سياسي على خلفية سياسية، كان لها أثر في مجرى السياسة الإسرائيلية، وربما أيضاً في مجرى الأحداث في المنطقة كلها. لأن النتيجة المباشرة للجريمة، كانت بعد أقل من نصف عام فقط في الانتخابات التي جرت في مايو/أيار 1996 وأسفرت عن فوز زعيم اليمين الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على خليفة رابين وشريكه في الحكم، شمعون بيريس، وإن كان الفوز جاء بأغلبية ضئيلة للغاية لم تتعد 27 ألفاً وخمسمائة صوت.
وعاد الجدل إسرائيلياً حول اغتيال رابين ومسؤولية اليمين الإسرائيلي عن هذه الجريمة وعن أجواء التحريض مجدداً، في الحادي والعشرين من الشهر الماضي، خلال المراسم الرسمية لإحياء ذكرى رابين، عندما عادت حفيدة رابين، نوعا روتمان، خلال إلقائها كلمة العائلة، إلى تذكير الحضور وفي مقدمتهم نتنياهو نفسه بأجواء التحريض التي سبقت اغتيال رابين. وأشارت إلى أن إحدى العاملات في ديوان نتنياهو، الصحافية اليمينية كارولين غليك، خطّت على صورة تجمع بين رابين والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، حروف الفعل "خيانة" بالعبرية، متهمة نتنياهو بمواصلة التحريض وشق صفوف المجتمع الإسرائيلي، لكن من دون تحميله المسؤولية المباشرة باغتيال رابين.
اقــرأ أيضاً
فتح خطاب روتمان من جديد ملف اغتيال رابين ومسؤولية اليمين واليمين الديني عن التحريض الذي رافق وتبع إعلان اتفاق المبادئ بين الحكومة الإسرائيلية وبين منظمة التحرير الفلسطينية المعروف باسم إعلان أوسلو. لكن وبخلاف سنوات سابقة، لم يتردد اليمين الإسرائيلي في رد الهجوم، وتخلى عن خط الدفاع السابق الذي حافظ عليه لسنوات طويلة، وهو درء التهمة عن نفسه، ومطالبة الوسط واليسار في إسرائيل بعدم تحميل مجمل معسكر اليمين المسؤولية، والإشارة إلى ما يُسمَّى بالعرف الإسرائيلي "بوجود أعشاب ضارة" نمت على أطراف دفيئة اليمين. وكان التعبير أعلاه، ركيزة أساسية لليمين فور اغتيال رابين للدفاع عن نفسه، مع توجيه ضمني لأصابع الاتهام إلى عناصر وحاخامات متطرفين في اليمين وليس بالضرورة في صفوف المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.
في المقابل فإن تردد اليسار الإسرائيلي مباشرة بعد اغتيال رابين عام 1995، وحرص بيريس على تغييب جريمة اغتيال رابين من المعركة الانتخابية، لأنه لم يرغب بأن ينسب فوزه في انتخابات رئاسة الحكومة إلى أنه وريث رابين وفاز بترشيح حزب "العمل" فقط بعد غياب رابين، شكّلا عاملين مساعدين لليمين الإسرائيلي ومرشحه بنيامين نتنياهو، للتخفيف من حدة الجريمة وحصرها في القاتل منفذ العملية، إيغال عمير، وفي حاخامات متطرفين كانوا أصدروا فتوى شرعية توراتية تجيز اغتيال رابين.
في موازاة ذلك، تمكّن عدد من حاخامات الصهيونية الدينية، وفي مقدمتهم يوئيل بن نون، ثم قادة حزب "المفدال" آنذاك، من استغلال حالة الصدمة وترديد مقولات أن الهيكل الإسرائيلي الثاني إنما خُرب فقط بسبب الكراهية "المجانية"، وهو تعبير مجازي يُقصد به الكراهية الذاتية بين اليهود أنفسهم، وأبدى هؤلاء مشاعر الندم وأطلقوا ما أسموه خططاً لمحاسبة النفس.
وبدلاً من أن يكثّف اليسار الإسرائيلي حربه ضد اليمين، خصوصاً أوساط اليمين الديني الصهيوني، وأن يبحث عن بديل ديمقراطي حقيقي بما في ذلك وضع أسس لشراكة حقيقية تؤكد شرعية العرب في الداخل وشرعية الاعتماد على أصواتهم في ائتلاف حكومي، انخرط اليسار الإسرائيلي وتحديداً أقصى حركات اليسار ممثلة بحزب "ميرتس"، في حملة مصالحة على أساس عرقي قومي مع اليمين تحت مسمى "أمر المصالحة". وظهر ذلك في لافتات هذه الحملة التي أطلقت بين عامي 1997 و1998، عندما ذُكر اغتيال رابين في قائمة صور جمعت بين أبرز رموز اليمين الديني الصهيوني الاستيطاني، وزير التربية في حكومة نتنياهو لاحقاً، الحاخام يتسحاق ليفي، ونجم اليسار في "ميرتس"، دادي تسوكر.
ومع مرور الوقت تصالح اليسار، خصوصاً حزب "العمل"، مع اليمين الإسرائيلي، بل اعتبر أن واجبه القومي يقضي بأن يقترب من هذا اليمين، بما في ذلك اليمين الاستيطاني، عبر تجاهل جريمة اغتيال رابين لسنوات طويلة. وقد تُوّج هذا التجاهل بعد فوز نتنياهو مجدداً بالحكم عام 2009 عندما انضم إيهود باراك لحكومة نتنياهو، ولاحقاً في العام الماضي، عندما سعى النظام المصري لمساعدة نتنياهو على تشكيل حكومة وحدة وطنية لإطلاق مبادرة الحل الإقليمية، عبر إقناع زعيم حزب "العمل" السابق، يتسحاق هرتسوغ، بالانضمام لحكومة برئاسة نتنياهو، وهي مناورة انتهت بالفشل، وعوضاً عن هرتسوغ فضّل نتنياهو ضم أفيغدور ليبرمان إلى حكومته.
إذاً كل هذا غير كافٍ، فقد عاد اليسار الإسرائيلي هذا العام، وبعد مدة من تجاهل دور نتنياهو في التحريض على رابين، إلى فتح الملف بفعل خطاب حفيدة رابين، وبفعل الأجواء الانتخابية في إسرائيل. وقد بادر إيهود باراك، إلى مطالبة نتنياهو بالاعتذار عن التحريض الذي شنّه اليمين، ونتنياهو شخصياً ضد رابين.
وفيما لم تلقَ تصريحات باراك هذا العام أي صدى، فقد فجّر الصحافي براك رافيد قنبلة عندما نشر وثيقة تحمل ما يؤكد تحريض اليمين، خصوصاً أوساط المستوطنين، على رابين. فقد أظهرت رسالة نشر رافيد صورة عنها، لمسؤول مجلس المستوطنات عام 1994، أهرون دامب، أن الأخير حذر رابين شخصياً من أنه سيكون مسؤولاً ولو بصورة غير مباشرة عن "جريمة اغتيال سياسي" آتية لا محالة إذا لم يعدل عن نهج أوسلو. ولم يمضِ أكثر من عام حتى وقع الاغتيال، وكانت المفارقة أن رابين نفسه كان ضحية جريمة اغتيال، حمّله المستوطنون وقادتهم، قبل وقوعها المسؤولية غير المباشرة عنها إذا استمر في نهجه.
واليوم بعد 23 عاماً، وصل اليمين الإسرائيلي إلى درجة من الثقة بالنفس مقابل تآكل وانهيار معسكر اليسار، ليس فقط إلى درجة إشهار تجريم رابين وبيريس بارتكاب "جرائم أوسلو"، كما يسميها عضو الكنيست السابق أريه إرداد، بل إلى درجة إنكار وقوع الجريمة، بحسب تعبير ميريت ريغيف بأنه "لقي مصرعه"، وإعلان نفتالي بينت أن اليمين لم يقتل رابين، والتنكر المطلق لعلاقة اليمين وحزب "البيت اليهودي" بالقاتل الفعلي الذي خرج من رحم "البيت اليهودي" وزُينت صوره في قاعات القراءة والمكتبة في جامعة بار إيلان، ليصبح الطريق أمام اليمين قصيراً قبل القول "على نفسه جنى رابين".
اقــرأ أيضاً
ولا شيء يمثّل تخلص اليمين من عقدة الذنب، وضعف الشرعية في الحكم، مثل الجملة التي صاغها، الأحد أيضاً، رئيس الكنيست الحالي يولي إدلشتاين، المنتخب على لائحة "الليكود"، مع أنه يعتمر قبعة التيار الديني الصهيوني. فقد قطع "الشك باليقين" في هذا الاتجاه من منظور اليمين، عندما أعلن أن مقتل رابين لم يغيّر في التاريخ والسياسة الإسرائيليين شيئاً.
كان يمكن إعفاء القارئ العربي من هذه التصريحات الثلاثة أعلاه لولا دلالاتها العميقة على التغيير الجوهري في المجتمع الإسرائيلي، لدرجة قبوله بعد أقل من ربع قرن، بمحو جريمة اغتيال سياسي على خلفية سياسية، كان لها أثر في مجرى السياسة الإسرائيلية، وربما أيضاً في مجرى الأحداث في المنطقة كلها. لأن النتيجة المباشرة للجريمة، كانت بعد أقل من نصف عام فقط في الانتخابات التي جرت في مايو/أيار 1996 وأسفرت عن فوز زعيم اليمين الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على خليفة رابين وشريكه في الحكم، شمعون بيريس، وإن كان الفوز جاء بأغلبية ضئيلة للغاية لم تتعد 27 ألفاً وخمسمائة صوت.
وعاد الجدل إسرائيلياً حول اغتيال رابين ومسؤولية اليمين الإسرائيلي عن هذه الجريمة وعن أجواء التحريض مجدداً، في الحادي والعشرين من الشهر الماضي، خلال المراسم الرسمية لإحياء ذكرى رابين، عندما عادت حفيدة رابين، نوعا روتمان، خلال إلقائها كلمة العائلة، إلى تذكير الحضور وفي مقدمتهم نتنياهو نفسه بأجواء التحريض التي سبقت اغتيال رابين. وأشارت إلى أن إحدى العاملات في ديوان نتنياهو، الصحافية اليمينية كارولين غليك، خطّت على صورة تجمع بين رابين والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، حروف الفعل "خيانة" بالعبرية، متهمة نتنياهو بمواصلة التحريض وشق صفوف المجتمع الإسرائيلي، لكن من دون تحميله المسؤولية المباشرة باغتيال رابين.
فتح خطاب روتمان من جديد ملف اغتيال رابين ومسؤولية اليمين واليمين الديني عن التحريض الذي رافق وتبع إعلان اتفاق المبادئ بين الحكومة الإسرائيلية وبين منظمة التحرير الفلسطينية المعروف باسم إعلان أوسلو. لكن وبخلاف سنوات سابقة، لم يتردد اليمين الإسرائيلي في رد الهجوم، وتخلى عن خط الدفاع السابق الذي حافظ عليه لسنوات طويلة، وهو درء التهمة عن نفسه، ومطالبة الوسط واليسار في إسرائيل بعدم تحميل مجمل معسكر اليمين المسؤولية، والإشارة إلى ما يُسمَّى بالعرف الإسرائيلي "بوجود أعشاب ضارة" نمت على أطراف دفيئة اليمين. وكان التعبير أعلاه، ركيزة أساسية لليمين فور اغتيال رابين للدفاع عن نفسه، مع توجيه ضمني لأصابع الاتهام إلى عناصر وحاخامات متطرفين في اليمين وليس بالضرورة في صفوف المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.
في المقابل فإن تردد اليسار الإسرائيلي مباشرة بعد اغتيال رابين عام 1995، وحرص بيريس على تغييب جريمة اغتيال رابين من المعركة الانتخابية، لأنه لم يرغب بأن ينسب فوزه في انتخابات رئاسة الحكومة إلى أنه وريث رابين وفاز بترشيح حزب "العمل" فقط بعد غياب رابين، شكّلا عاملين مساعدين لليمين الإسرائيلي ومرشحه بنيامين نتنياهو، للتخفيف من حدة الجريمة وحصرها في القاتل منفذ العملية، إيغال عمير، وفي حاخامات متطرفين كانوا أصدروا فتوى شرعية توراتية تجيز اغتيال رابين.
في موازاة ذلك، تمكّن عدد من حاخامات الصهيونية الدينية، وفي مقدمتهم يوئيل بن نون، ثم قادة حزب "المفدال" آنذاك، من استغلال حالة الصدمة وترديد مقولات أن الهيكل الإسرائيلي الثاني إنما خُرب فقط بسبب الكراهية "المجانية"، وهو تعبير مجازي يُقصد به الكراهية الذاتية بين اليهود أنفسهم، وأبدى هؤلاء مشاعر الندم وأطلقوا ما أسموه خططاً لمحاسبة النفس.
وبدلاً من أن يكثّف اليسار الإسرائيلي حربه ضد اليمين، خصوصاً أوساط اليمين الديني الصهيوني، وأن يبحث عن بديل ديمقراطي حقيقي بما في ذلك وضع أسس لشراكة حقيقية تؤكد شرعية العرب في الداخل وشرعية الاعتماد على أصواتهم في ائتلاف حكومي، انخرط اليسار الإسرائيلي وتحديداً أقصى حركات اليسار ممثلة بحزب "ميرتس"، في حملة مصالحة على أساس عرقي قومي مع اليمين تحت مسمى "أمر المصالحة". وظهر ذلك في لافتات هذه الحملة التي أطلقت بين عامي 1997 و1998، عندما ذُكر اغتيال رابين في قائمة صور جمعت بين أبرز رموز اليمين الديني الصهيوني الاستيطاني، وزير التربية في حكومة نتنياهو لاحقاً، الحاخام يتسحاق ليفي، ونجم اليسار في "ميرتس"، دادي تسوكر.
ومع مرور الوقت تصالح اليسار، خصوصاً حزب "العمل"، مع اليمين الإسرائيلي، بل اعتبر أن واجبه القومي يقضي بأن يقترب من هذا اليمين، بما في ذلك اليمين الاستيطاني، عبر تجاهل جريمة اغتيال رابين لسنوات طويلة. وقد تُوّج هذا التجاهل بعد فوز نتنياهو مجدداً بالحكم عام 2009 عندما انضم إيهود باراك لحكومة نتنياهو، ولاحقاً في العام الماضي، عندما سعى النظام المصري لمساعدة نتنياهو على تشكيل حكومة وحدة وطنية لإطلاق مبادرة الحل الإقليمية، عبر إقناع زعيم حزب "العمل" السابق، يتسحاق هرتسوغ، بالانضمام لحكومة برئاسة نتنياهو، وهي مناورة انتهت بالفشل، وعوضاً عن هرتسوغ فضّل نتنياهو ضم أفيغدور ليبرمان إلى حكومته.
إذاً كل هذا غير كافٍ، فقد عاد اليسار الإسرائيلي هذا العام، وبعد مدة من تجاهل دور نتنياهو في التحريض على رابين، إلى فتح الملف بفعل خطاب حفيدة رابين، وبفعل الأجواء الانتخابية في إسرائيل. وقد بادر إيهود باراك، إلى مطالبة نتنياهو بالاعتذار عن التحريض الذي شنّه اليمين، ونتنياهو شخصياً ضد رابين.
واليوم بعد 23 عاماً، وصل اليمين الإسرائيلي إلى درجة من الثقة بالنفس مقابل تآكل وانهيار معسكر اليسار، ليس فقط إلى درجة إشهار تجريم رابين وبيريس بارتكاب "جرائم أوسلو"، كما يسميها عضو الكنيست السابق أريه إرداد، بل إلى درجة إنكار وقوع الجريمة، بحسب تعبير ميريت ريغيف بأنه "لقي مصرعه"، وإعلان نفتالي بينت أن اليمين لم يقتل رابين، والتنكر المطلق لعلاقة اليمين وحزب "البيت اليهودي" بالقاتل الفعلي الذي خرج من رحم "البيت اليهودي" وزُينت صوره في قاعات القراءة والمكتبة في جامعة بار إيلان، ليصبح الطريق أمام اليمين قصيراً قبل القول "على نفسه جنى رابين".