19 أكتوبر 2019
اليمين المتطرف ينقض على الاتحاد الأوروبي
تشهد أوروبا صعوداً للتيارات اليمينية المتطرفة، والتي بدأت تحرز نجاحات انتخابيةٍ وطنياً، وتزحف باتجاه البرلمان الأوروبي، في ظل أزمةٍ اقتصاديةٍ خانقة، ملقيةً بظلالها على حملة الانتخابات الأوروبية.
تشير استطلاعات الرأي إلى تقدم هذه الأحزاب (المملكة المتحدة المستقلة، الجبهة الوطنية الفرنسية، الحرية الهولندي، حزب الفنلنديين، جوبيك المجري...) في دول عديدة. والمفارقة أن هذه التيارات معادية أصلاً للاتحاد الأوروبي، لكنها تسعى إلى الفوز بأكبر عدد ممكن من المقاعد، في انتخابات 25 مايو/أيار 2014 لدخول البرلمان الأوروبي بقوة، وتشكيل كتلة برلمانية لضرب الاتحاد من الداخل (وبتمويل أوروبي: تحصل كل كتلة برلمانية على حوالي 3 ملايين يورو لتغطية نفقات نشاطها). وحتى تتشكل كتلة برلمانية، عليها الحصول على 25 مقعداً، موزعة على سبع دول على الأقل. لكن، إذا كان متوقعاً أن تتجاوز مجتمعة عتبة 25 مقعداً، فإن تشكيلها كتلة برلمانية محل شك، نظراً لخلافاتها. فحزب المملكة المتحدة المستقلة يعتبر الجبهة الوطنية الفرنسية معادية للسامية، ويرفض التعاون معها، والأخيرة لا ترغب في التعاون مع أحزاب النازيين الجدد اليوناني.
يركز خطاب التيارات المتطرفة على بعض الفزاعات التعبوية، في زمن البقرات العجاف، وتدني سقف التسامح. منها فزاعة الأجنبي، حيث تتفق جميعها على اعتباره خطراً على الهوية الوطنية والأوروبية، والأجنبي بالنسبة إليها هو العربي- المسلم، لكن بعضها يضيف إليه الغجري واليهودي. وتلتقي كلها على مواجهة "خطر الأسلمة". لكن هذه الفزاعة الهوياتية البعد لا تكفي لإقامة الحجة الاقتصادية، لذا، توظف فزاعة أوروبا. فهي معادية لأوروبا الاقتصادية (البناء الأوروبي الحالي)، لكنها أوروبية دينياً وثقافياً. وتتفق كلها على رفض الاتحاد الذي تعتبره مسؤولاً عن مشكلات بلدانها. لذا، تريد دخول البرلمان الأوروبي، لإنهاء التجربة الأوروبية بإعادة السيادة للشعب في كل بلد، كما تقول، وإلغاء اليورو، وإعادة المراقبة على الحدود، للحد من الهجرة ولتطبيق الحمائية الاقتصادية. فهي تستغل غضب الشعوب الأوروبية، وتستثمر شعبيتها المتنامية وطنياً، للتحرك قارياً لضرب الاتحاد من الداخل، بالمشاركة في هيئته التشريعية. ويبدو أن المراجعة الأيديولوجية التي قامت بها محلياً استنسختها أوروبياً، بقبولها فكرة الانخراط في النظام الأوروبي، بعد الانخراط في النظام الوطني، على الرغم من طعنها في شرعيتهما. وهذا بحد ذاته مفارقة: قوى معادية لأوروبا في إغارة (ديمقراطياً) عليها.
لا غرابة في المد المتشدد في دول الاتحاد الأوروبي، لأنها لم تحمله محمل الجد، بل تساهم في صعوده. ويعد فشل الحكومات في الحد من الأزمة الاقتصادية، والخروج منها، حجة عليها، لأنه يغذي هذه التيارات. ومثير للانتباه أن بعض الأحزاب التي حكمت، وتحكم، في دول الاتحاد، وصقلت البناء الأوروبي، تتستر وراء القوانين الأوروبية، لتبرير عجزها. ما أعطى الانطباع بأن الاتحاد هو سبب هموم شعوبه. وهذا، طبعاً، تضليل للرأي العام وإجحاف في حق الاتحاد، لأن الحكومات الأوروبية هي التي وضعت القواعد التي تسيره. لكن الناخبين الناقمين على النخبة الحاكمة، وعلى الاتحاد، أكثر تقبلاً لخطاب تيارات متطرفة، لم يسبق لها أن حكمت. ولربح متعاطفي هذه التيارات المتشددة، تسعى أحزاب يمينية محافظة إلى الاصطياد في المياه السياسية العكرة لليمين المتطرف، فكان أن فقدت جزءاً من ناخبيها المعتدلين، من دون أن تربح جزءاً من ناخبي الأحزاب المتطرفة. وبدل أن تؤثر في اليمين المتطرف، أصبحت تتأثر به، إلى درجة أنه فرض، إلى حد كبير، أجندته السياسية (الموقف من الهجرة، من الإسلام، من أوروبا، من العولمة...) على النقاش السياسي. وبهذه العملية التفاعلية، تساهم الأحزاب الحاكمة (اليمينية واليسارية)، في دول الاتحاد، في تحرير وتطبيع الكلمة العنصرية والخطاب المعادي للأجانب، وبالتالي، تخفيض سقف التسامح، مانحة الأحزاب اليمينية مكانة، أكبر بكثير من حجمها الحقيقي.
ولا تقل مسؤولية الاتحاد الأوروبي أهمية. فبسبب تعليماتها التقشفية، ودورها في توزيع شهادات حسن أو سوء السلوك/الأداء الاقتصادي لدول الاتحاد، أصبحت المفوضية الأوروبية، بالنسبة للأوروبيين، مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي بالنسبة لشعوب دول الجنوب التي فُرضت عليها برامج إعادة الهيكلة والجدولة، وما لذلك من تكلفة اجتماعية. لكن شعوب أوروبا في وسعها معاقبة الأحزاب الحاكمة وأوروبا، بإيصال قوى شعبوية إلى برلمانها. إنه فشل أوروبي على أكثر من صعيد.
أولاً، يقوم الاتحاد الأوروبي على المبادئ الديمقراطية التي يرعاها ويحميها، لكن ها هو مهدد من قوى متطرفة، تؤمن بالديمقراطية آلية للوصول إلى الحكم، وليس، بالضرورة، كآلية لممارسته، وتقول بأفكار وحلول تتنافى والديمقراطية. ثانياً، لم تتمكن أوروبا من حماية الفئات الأكثر تضرراً من الأزمة، ما أعطى الانطباع بأنها ليبرالية لا اجتماعية. ثالثاً، الخلل في تقاسم أعباء الإصلاحات. فمثلاً، رواتب كبار الموظفين في دول الاتحاد، وفي مؤسساته، بقيت مرتفعة، بينما تُقتطع رواتب العمال. فالمفوضية تقول بالتقشف، لكنها لم تراجع الرواتب الضخمة لأعضائها (321.238 يورو سنوياً لرئيسها، 255.300 يورو سنوياً لعضو فيها. فضلاً عن 374.124 يورو سنوياً لرئيس البنك المركزي الأوروبي...). وبالتالي، تتحمل الشعوب لوحدها، من دون نخبها الحاكمة، أعباء الإصلاحات.
ساهمت كل هذه العوامل، مجتمعة، في تحول في سلوك التصويت إلى اليمين المتطرف، أي التحول من مجرد "تصويت احتجاجي"، على الحكم القائم، إلى "تصويت انخراط"، أي على أساس قناعة سياسية، وإيمان بأفكار اليمين المتطرف، وكذلك في خفض سقف التسامح في المجتمعات الأوروبية.
تشير استطلاعات الرأي إلى تقدم هذه الأحزاب (المملكة المتحدة المستقلة، الجبهة الوطنية الفرنسية، الحرية الهولندي، حزب الفنلنديين، جوبيك المجري...) في دول عديدة. والمفارقة أن هذه التيارات معادية أصلاً للاتحاد الأوروبي، لكنها تسعى إلى الفوز بأكبر عدد ممكن من المقاعد، في انتخابات 25 مايو/أيار 2014 لدخول البرلمان الأوروبي بقوة، وتشكيل كتلة برلمانية لضرب الاتحاد من الداخل (وبتمويل أوروبي: تحصل كل كتلة برلمانية على حوالي 3 ملايين يورو لتغطية نفقات نشاطها). وحتى تتشكل كتلة برلمانية، عليها الحصول على 25 مقعداً، موزعة على سبع دول على الأقل. لكن، إذا كان متوقعاً أن تتجاوز مجتمعة عتبة 25 مقعداً، فإن تشكيلها كتلة برلمانية محل شك، نظراً لخلافاتها. فحزب المملكة المتحدة المستقلة يعتبر الجبهة الوطنية الفرنسية معادية للسامية، ويرفض التعاون معها، والأخيرة لا ترغب في التعاون مع أحزاب النازيين الجدد اليوناني.
يركز خطاب التيارات المتطرفة على بعض الفزاعات التعبوية، في زمن البقرات العجاف، وتدني سقف التسامح. منها فزاعة الأجنبي، حيث تتفق جميعها على اعتباره خطراً على الهوية الوطنية والأوروبية، والأجنبي بالنسبة إليها هو العربي- المسلم، لكن بعضها يضيف إليه الغجري واليهودي. وتلتقي كلها على مواجهة "خطر الأسلمة". لكن هذه الفزاعة الهوياتية البعد لا تكفي لإقامة الحجة الاقتصادية، لذا، توظف فزاعة أوروبا. فهي معادية لأوروبا الاقتصادية (البناء الأوروبي الحالي)، لكنها أوروبية دينياً وثقافياً. وتتفق كلها على رفض الاتحاد الذي تعتبره مسؤولاً عن مشكلات بلدانها. لذا، تريد دخول البرلمان الأوروبي، لإنهاء التجربة الأوروبية بإعادة السيادة للشعب في كل بلد، كما تقول، وإلغاء اليورو، وإعادة المراقبة على الحدود، للحد من الهجرة ولتطبيق الحمائية الاقتصادية. فهي تستغل غضب الشعوب الأوروبية، وتستثمر شعبيتها المتنامية وطنياً، للتحرك قارياً لضرب الاتحاد من الداخل، بالمشاركة في هيئته التشريعية. ويبدو أن المراجعة الأيديولوجية التي قامت بها محلياً استنسختها أوروبياً، بقبولها فكرة الانخراط في النظام الأوروبي، بعد الانخراط في النظام الوطني، على الرغم من طعنها في شرعيتهما. وهذا بحد ذاته مفارقة: قوى معادية لأوروبا في إغارة (ديمقراطياً) عليها.
لا غرابة في المد المتشدد في دول الاتحاد الأوروبي، لأنها لم تحمله محمل الجد، بل تساهم في صعوده. ويعد فشل الحكومات في الحد من الأزمة الاقتصادية، والخروج منها، حجة عليها، لأنه يغذي هذه التيارات. ومثير للانتباه أن بعض الأحزاب التي حكمت، وتحكم، في دول الاتحاد، وصقلت البناء الأوروبي، تتستر وراء القوانين الأوروبية، لتبرير عجزها. ما أعطى الانطباع بأن الاتحاد هو سبب هموم شعوبه. وهذا، طبعاً، تضليل للرأي العام وإجحاف في حق الاتحاد، لأن الحكومات الأوروبية هي التي وضعت القواعد التي تسيره. لكن الناخبين الناقمين على النخبة الحاكمة، وعلى الاتحاد، أكثر تقبلاً لخطاب تيارات متطرفة، لم يسبق لها أن حكمت. ولربح متعاطفي هذه التيارات المتشددة، تسعى أحزاب يمينية محافظة إلى الاصطياد في المياه السياسية العكرة لليمين المتطرف، فكان أن فقدت جزءاً من ناخبيها المعتدلين، من دون أن تربح جزءاً من ناخبي الأحزاب المتطرفة. وبدل أن تؤثر في اليمين المتطرف، أصبحت تتأثر به، إلى درجة أنه فرض، إلى حد كبير، أجندته السياسية (الموقف من الهجرة، من الإسلام، من أوروبا، من العولمة...) على النقاش السياسي. وبهذه العملية التفاعلية، تساهم الأحزاب الحاكمة (اليمينية واليسارية)، في دول الاتحاد، في تحرير وتطبيع الكلمة العنصرية والخطاب المعادي للأجانب، وبالتالي، تخفيض سقف التسامح، مانحة الأحزاب اليمينية مكانة، أكبر بكثير من حجمها الحقيقي.
ولا تقل مسؤولية الاتحاد الأوروبي أهمية. فبسبب تعليماتها التقشفية، ودورها في توزيع شهادات حسن أو سوء السلوك/الأداء الاقتصادي لدول الاتحاد، أصبحت المفوضية الأوروبية، بالنسبة للأوروبيين، مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي بالنسبة لشعوب دول الجنوب التي فُرضت عليها برامج إعادة الهيكلة والجدولة، وما لذلك من تكلفة اجتماعية. لكن شعوب أوروبا في وسعها معاقبة الأحزاب الحاكمة وأوروبا، بإيصال قوى شعبوية إلى برلمانها. إنه فشل أوروبي على أكثر من صعيد.
أولاً، يقوم الاتحاد الأوروبي على المبادئ الديمقراطية التي يرعاها ويحميها، لكن ها هو مهدد من قوى متطرفة، تؤمن بالديمقراطية آلية للوصول إلى الحكم، وليس، بالضرورة، كآلية لممارسته، وتقول بأفكار وحلول تتنافى والديمقراطية. ثانياً، لم تتمكن أوروبا من حماية الفئات الأكثر تضرراً من الأزمة، ما أعطى الانطباع بأنها ليبرالية لا اجتماعية. ثالثاً، الخلل في تقاسم أعباء الإصلاحات. فمثلاً، رواتب كبار الموظفين في دول الاتحاد، وفي مؤسساته، بقيت مرتفعة، بينما تُقتطع رواتب العمال. فالمفوضية تقول بالتقشف، لكنها لم تراجع الرواتب الضخمة لأعضائها (321.238 يورو سنوياً لرئيسها، 255.300 يورو سنوياً لعضو فيها. فضلاً عن 374.124 يورو سنوياً لرئيس البنك المركزي الأوروبي...). وبالتالي، تتحمل الشعوب لوحدها، من دون نخبها الحاكمة، أعباء الإصلاحات.
ساهمت كل هذه العوامل، مجتمعة، في تحول في سلوك التصويت إلى اليمين المتطرف، أي التحول من مجرد "تصويت احتجاجي"، على الحكم القائم، إلى "تصويت انخراط"، أي على أساس قناعة سياسية، وإيمان بأفكار اليمين المتطرف، وكذلك في خفض سقف التسامح في المجتمعات الأوروبية.