تقول أسطورة معبد الغريبة اليهودي في جزيرة جربة التونسية في حي الحارة، إن هذه الغريبة هي امرأة زاهدة جاءت إلى جربة، وعاشت فيها بورع، وتوفيت في مكان المعبد نفسه، الذي يعد أقدم المعابد اليهودية في إفريقيا، ويعتبر يهود جربة من أقدم الجاليات اليهودية في العالم.
يعود تاريخ المعبد، وفق المصادر اليهودية، إلى أكثر من 2500 عام، وهناك لافتة معلقة داخل المعبد كُتب عليها: "يرجع عهد هذا المقام العتيق والمقدس المعروف بالغريبة إلى عام 586 قبل الحساب الإفرنجي، أي منذ خراب الهيكل الأول لسليمان تحت سلطة نبوخذ نصر ملك بابل، وقد وقع ترميمه عبر العصور". وتقول المصادر اليهودية نفسها إن المعبد يحتوي على أقدم نسخة للتوراة في العالم.
كل هذه الأساطير اليهودية التي تم ترويجها منذ زمن بعيد، جعلت من الغريبة قبلة لليهود، الذين يأتون اليه من كل أرجاء العالم، وخصوصاً في هذه الفترة من كل عام، للمشاركة في الاحتفال الديني السنوي المعروف بـ"لاج با أومر".
وفي هذا الاحتفال، يتنافس اليهود على دفع "المنارة"، وهي مصباح كبير مصنوع من الفضة ومثبت فوق عربة تحمل الكتاب المقدس، يتنقلون بها بين معابد يهودية أخرى قريبة، قبل العودة بها إلى كنيس الغريبة، ومن يدفع أكثر يكون أوفر حظاً لتحقيق أمنياته.
ويكتب الزائر أمنيته على قشرة بيضة مسلوقة ويضعها داخل المغارة، أملاً في تحققها في جو من التراتيل والأناشيد العبرية.
الجالية اليهودية في تونس
قبل استقلال تونس عن فرنسا عام 1956، كان يعيش حوالي 100 ألف يهودي موزّعين بين مدن تونسية عديدة، أبرزها جربة وصفاقس وتونس العاصمة وضواحيها، وخصوصاً مدينة حلق الوادي، حيث كانوا يعيشون مع جاليات أجنبية عديدة من إيطاليا ومالطا وفرنسا، غير أن اليهود غادروا تونس بعد الاستقلال، نحو أوروبا (خصوصاً فرنسا) كما استوطنوا فلسطين، ودفع الصراع العربي الإسرائيلي خصوصاً بعد 1967، بالبقية إلى الخروج من تونس، حيث لم يبق منهم إلا حوالى 1500 يهودي، يقيم أغلبهم في جزيرة جربة وتونس العاصمة حتى اليوم.
ويعمل غالبية اليهود في التجارة وصياغة الذهب في جزيرة جربة، وهناك مدرسة تلمودية لتعليم الأطفال تاريخ اليهود واليهودية واللغة العبرية، وبحسب اتفاق بين الجالية اليهودية والسلطة التونسية، يمكن للتلميذ اليهودي حضور المدرسة التلمودية اختيارياً، فيما يواظب على حضور المدرسة الحكومية، بحكم إلزامية التعليم لكل الأطفال التونسيين، وفقاً للقوانين التونسية.
يهود جربة والصراع العربي الإسرائيلي
يتطلب الفصل بين اليهودي والإسرائيلي جهداً فكرياً مستحيلاً، وموضوعية مستعصية، في ظل الصراع العربي الإسرائيلي ووحشية العنف الإسرائيلي تجاه العرب عموماً، والاعتداءات على مقدسات الشعب الفلسطيني الإسلامية والمسيحية، وهو ما انعكس على ساكني الغريبة، التي تعرضت لهجومين مسلحين.
الهجوم الأول نفّذه رجل أمن تونسي غاضب في أعقاب الغارة الإسرائيلية على مقرّ القيادة الفلسطينية بتونس في أكتوبر/تشرين الأول من العام 1985.
أما الثاني، فوقع في أبريل/ نيسان 2002، وتمثل في هجوم انتحاري بشاحنة مفخخة أسفر عن مقتل 21 شخصاً (14 سائحاً ألمانياً و5 تونسيين وفرنسيين اثنين)، وتبناه تنظيم "القاعدة". ورغم أن السلطات التونسية أنكرت في حينه أن يكون الحادث انتحارياً، فقد عادت وأقرّت بذلك إثر الضغط والغضب الألمانيين.
وزار الرئيس التونسي منصف المرزوقي المعبد في الذكرى العاشرة لهذا الهجوم، وألقى كلمة ترحم فيها على الضحايا الأبرياء من التونسيين، ومن ضيوف تونس من الألمانيين والفرنسيين، معبراً عن تعاطفه مع الأهل، ومؤكداً رفض التونسيين لكل أشكال العنف خاصة، لما تحمله دلالات الدين الإسلامي من قيم التسامح ومن احترام الديانات السماوية. كما شدد على رفضه لأي "تمييز ضد مواطنينا اليهود أو أي أقوال أو أفعال تهدّد كرامتهم أو حياتهم".
وإثر الاعتداءات، تقوم السلطات الأمنية التونسية بتشديد إجراءات الحراسة على الحارة والمعبد، وخصوصاً في فترة الأعياد اليهودية، التي ألغيت عام 2011 وعادت محتشمة في عامي 2012 و2013، إذ لم يحضر أكثر من 500 يهودي للاحتفال، ويتوقع أن يتضاعف هذا العدد ثلاث مرّات هذا العام ليبلغ حوالى 1500 زائر يهودي.
والحج اليهودي ما بين 16 إلى 18 مايو/أيار الحالي، غير أن توافد الحجاج بدأ اليوم. وقال المتحدث باسم وزارة الداخلية، محمد علي العروي، إن الوزارة نشرت "تعزيزات أمنية هامة واتخذت احتياطات أمنية استثنائية" في جزيرة جربة، لتأمين الحج اليهودي إلى كنيس الغريبة. وأضاف أن وزير الداخلية لطفي بن جدو "تفقّد بنفسه الإجراءات والاحتياطات الأمنية الخاصة" بالحج اليهودي، وأنه "تحادث" مع بيريز الطرابلسي رئيس كنيس الغريبة. وقال إن الحجوزات الخاصة بحج هذا العام إلى الغريبة "ارتفعت مقارنة بالسنة الماضية"، رافضاً إعطاء إحصاءات حول العدد.
جربة.. المعبد والسياحة
ربط مسؤولون في الحكومة خلال الأيام الأخيرة بين نجاح السياحة في تونس والحج إلى الغريبة، وقالوا إن نجاح موسم الاحتفالات اليهودية يعدّ مؤشراً على نجاح الموسم السياحي التونسي، بالرغم من أنها لا تستقبل إلا بضعة آلاف، لا تتجاوز الأربعة في أحسن الحالات، ولا تمثل رقماً مهماً أمام الملايين الستة الذين يزورون تونس سنوياً.
ولكن ما لم يُقل هو سيطرة اليهود على أهم الشركات المروجة للسياحة في العالم، وهناك ثماني شركات كبرى تتعامل مع تونس، وعادة ما يسارع بعضها إلى إلغاء رحلاته إلى تونس، بعد أي حادث ولو كان سياسيا، وغير أمني. كما تفرض هذه الشركات شروطاً قاسية على استقدام السياح إلى تونس، لجهة مستوى الفنادق والتسهيلات في السعر، وهو ما جعل الأسعار التونسية السياحية منخفضة جداً مقارنة بنظيراتها في حوض المتوسط، لاعتمادها على ما يسمى بسياحة المجموعات الكبيرة، التي تتحكم فيها هذه الشركات.
ولذلك تحظى هذه الاحتفالات برعاية رسمية من الحكومة التونسية، قبل وبعد الثورة، ومن المتوقع أن تُجرى احتفالات هذا العام، وفقاً لما أعلنه المنظمون اليهود، ووزيرة السياحة ووزير الشؤون الدينية وعدد من السفراء المعتمدين في تونس ومن بينهم السفير الأميركي.
وكانت وزيرة السياحة التونسية آمال كربول، قد أعلنت عن إلغاء أربع من هذه الشركات رحلاتها إلى تونس، بعد مساءلتها في المجلس التأسيسي التونسي على خلفية دخول إسرائيليين إلى تونس.