اليونان دولة أوروبية على شفا إفلاس

09 مايو 2015

مشهد عام للأكروبوليس في أثينا (7يوليو/2014/Getty)

+ الخط -

يدرك رئيس الوزراء اليوناني الشاب، ألكسيس تسيبراس، أنّ بلاده تعاني من أزمة ديون حادّة، قد تؤدّي إلى إعلان الإفلاس، وربّما مغادرة نادي اليورو، على الرغم من تحفّظ الاتحاد الأوروبي بهذا الشأن، باعتبار اليونان دولة أوروبية عريقة، وليس من السهل اتخاذ قرار مصيري لفصل اليونان من نادي اليورو، ما قد يؤدّي إلى سلسلة من المتاعب والتعقيدات لدول عديدة تعاني من مديونية كبيرة للغاية، لكن شأن مغادرة اليونان نادي اليورو لم يعد خطًا أحمر بالنسبة للمنظومة الأوروبية.

نشرت صحيفة "فرانكفورت آلغيمايني تسايتونغ"، قبل أيام، تصريحات للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، أنّ تسيبراس أجرى معها مكالمة هاتفية، طالب فيها بمزيد من الأموال لدعم موازنة الدولة اليونانية المنهارة. من جهة أخرى، انتقدت المستشارة ميركل بشدّة وزير المالية اليوناني، فاروفاكيس، في لقاء وزراء مالية مجموعة اليورو في العاصمة اللاتفية ريغا. ووصفت الصحيفة الألمانية الأوضاع التي تمرّ بها اليونان، حاليًا، باعتبارها أكثر من دراماتيكية، وأنّ غالبية المواطنين في اليونان باتوا على قناعة بضرورة مغادرة بلادهم نادي اليورو. ويمكن لأوروبا اللجوء للخطة "ب" التي تأخذ في الاعتبار سيناريو خروج اليونان من نادي اليورو.


مطالبة ألمانيا بتعويضات مالية

تقدّر ديون اليونان الخارجية لألمانيا بمئات المليارات. بعد مرور 70 سنة على انتهاء الحرب العالمية الثانية، واقتراب اليونان من عتبة إعلان الإفلاس، فتحت الدولة الأوروبية العريقة دفاترها العتيقة، وطالبت بالحصول على تعويضات مالية كبيرة في مقابل احتلال ألمانيا النازية اليونان في أثناء الحرب العالمية الثانية (1941 – 1944)، حيث رفرف علم الصليب المعقوف على هضبة الأكروبوليس في أثينا، وأقدم المقاتلون النازيون على نهب وسرقة وقتل ما تيسّر في إقليم شبه جزيرة البلقان. وما زالت الخلافات قائمة بشأن الحصول على تعويضات مالية، حتى يومنا هذا. وتؤكد الحكومة الألمانية أنّ ألمانيا دفعت كل التعويضات المذكورة لصالح اليونان، ولا يحق لها المطالبة بمزيد من الأموال بهذا الشأن، وأنّها دفعت 115 مليار مارك ألماني للحكومة اليونانية عام 1960 تعويضات مباشرة لعمليات القتل والتنكيل والسرقة والنهب التي قامت بها القوات العسكرية النازية. والخلاف الحالي يتعلق بمطالبة الرايخ الألماني البنك المركزي اليوناني في 1942 بمنح قوات الاحتلال النازية قرضًا ماليًا بقيمة 476 مليون مارك ألماني، لتغطية نفقات الاحتلال، ولم تسدّد هذه الأموال لصالح البنك المركزي اليوناني حتى اللحظة. ويقدّر الخبراء الماليون في اليونان أنّ قيمة هذا القرض نحو 11 مليار يورو. لكنّ اليونان حصلت على تعويضات من دول التحالف، بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية عام 1945 وبهذا تمّت تبرئة ذمّة ألمانيا تجاه اليونان. عدا عن ذلك، أبرمت ألمانيا خلال العام 1990 اتفاقية "2+4" بشأن توحيد ألمانيا الشرقية والغربية، واعتراف اليونان بها، يلغي عمليًا كل المطالبات والتحفظات التاريخية تجاه ألمانيا الاتحادية المعاصرة. لكن، حتى وإن حصلت حكومة تسيبراس على 11 مليار يورو من ألمانيا، ليس متوقعاً أن تتمكن اليونان من إيجاد حلول نهائية لأزمتها ومديونيتها الخانقة، من دون القيام بعمليات إصلاح واسعة وبشكل عاجل.


أثينا طرف في اتفاقية "الدفق التركي"

صرّح وزير الطاقة اليوناني، بانايوتوس لافازانيس، أنّ اليونان ستوقّع اتفاقية مع روسيا، لعبور أنانبيب خط نقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر الأراضي اليونانية، ضمن مشروع "الدفق التركي". وستحصل اليونان على قرابة 2 – 3 مليار يورو لبناء هذا الخط الذي سيضمن فرص عمل لنحو 20 ألف مواطن يوناني. ويعتبر الوزيرُ المشروعَ المذكور في منتهى الأهمية على الصعيد السياسي والاقتصادي للدولة اليونانية. العامل الأهمّ في مشروع "الدفق التركي" هو حصول اليونان على الغاز الطبيعي بأسعار مخفضة، على أن يتم الانتهاء من بناء المشروع خلال العام 2019. وستتحوّل اليونان إلى دولة ترانزيت للغاز الروسي، الأمر الذي سيساهم في اجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية إلى اليونان.

ولا يتعدى مشروع الطاقة الروسي "الدفق التركي"، في الوقت الراهن، التخطيط وجسّ النبض وإطلاق إشارات مختلفة لوسائل الإعلام، لأنّ شركة غازبروم الروسيّة لم ترسل، حتى اللحظة، لشركائها السابقين في مشروع "دفق الجنوب" قرارها بتغيير مسار قناة نقل الغاز الروسي إلى أوروبا، على الرغم من توقيع أولى اتفاقيات مشروع "الدفق التركي" الجديد مع شركة بوتاس التركية مع نهاية العام الماضي 2014، ولم تطرأ أيّة تطورات على المشروع حتى الآن. ولا يوجد مسار محدّد للقناة، بعد خروجها قبالة الشواطئ التركية، متوجهة نحو أوروبا، لضرورة الحصول على موافقة الاتحاد قبل ذلك. ولم تتم حتى اللحظة مناقشة تمويل هذا المشروع السياسي، الذي يسعى، في نهاية المطاف، إلى الالتفاف على أوكرانيا، ومن الصعب على شركة غازبروم، حاليًا، الحصول على الأموال المطلوبة من الأسواق الأجنبية، ولا يمكن لروسيا الاعتماد على اليونان لتمويل المشروع في مقطعه اليوناني، وهي التي تحتاج حقناً مالية كبيرة، كي تتمكن من الوقوف على قدميها. واليونان ترغب بالاستفادة من المشروع، وليس ضخّ أموال لا تملكها لتمرير القناة في أراضيها، وروسيا، كما هو معروف، لا تقدّم هبات، ولا تؤمن بالعواطف.

وفي الوقت الذي وصف فيه وزير المالية اليوناني، يانيس فاروفاكيس، المحادثات مع وزراء مالية المجموعة الأوروبية في ريغا بالناجحة، أكد زملاؤه، وزراء المالية الأوروبيون، عكس ذلك، أو على الأقل لم يتّفقوا مع الوزير اليوناني في تفاؤله الكبير. ويرى أحد الطرفين الكأس ملأى إلى النصف، والآخر ينظر إلى النصف الفارغ منها. على أيّة حال، النصف المليء هو لصالح الطرف اليوناني حتى اللحظة. وتجدر الإشارة إلى أنّ الحكومة اليونانية أجرت سلسلة تعديلات في قانون الضرائب، وخصخصة الكثير من أملاك الدولة، وأجرت كذلك عمليات إصلاح جذرية في قطاع القضاء وفي قانون التقاعد، ما يسمح برفع أعمار التقاعد، والتخفيف من تبعات فصل الموظفين في القطاع الخاص. لكن، بما يتعلّق بالإطار الاقتصادي العام، لا تنوي الحكومة الجديدة تقديم وعود لتحقيق فائض في الموازنة العامة، كما وعدت بذلك الحكومات السابقة، وهذا أمر يبدو شبه مستحيل.

إجراءات الإصلاح الجذرية الشاملة في اليونان ضرورية وعاجلة، لدفع المحادثات ولإنجاحها في إنقاذ البلاد من الإفلاس، ولا بديل عن ذلك، كما أكّد وزير المالية الهولندي ورئيس المجموعة الأوروبية، يورين دايلبوم، الذي رفض تقديم الأموال والقروض الجديدة مقابل إصلاحات جزئية في اليونان. وأجاب دايلبوم إنّ الجواب على المطالب اليونانية، في المحادثات الأخيرة، يتمثّل بكلمة "لا" مختصرة وحاسمة. وقد تمكن وزير المالية اليوناني من استثارة زملائه الثمانية عشر، حين حاول الالتفاف عليهم، والحصول من المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، على وعود برفع الحظر المالي المفروض على اليونان وتقديم الدفعة المالية الأخيرة بقيمة 7.2 مليارات يورو، خلال محادثات المجلس الأوروبي في بروكسل، المخصّصة لمناقشة شأن الهجرة، والتبعات المترتبة على تدفق عشرات الآلاف، أخيراً، عبر شواطئ إيطاليا إلى دول المنظومة الأوروبية. عمليًا، أبدت اللجنة الأوروبية رغبة بتحييد فاروفاكيس وعدم التعامل معه، واعتبرته عديم المسؤولية وغير كفؤ للقيام بدوره ممثلاً للحكومة اليونانية.


تكتيك جديد

بعد فشل وزير المالية، يانيس فاروفاكيس، وانعدام الرغبة باستمرار المحادثات معه، سعى رئيس الوزراء، ألكسيس تسيبراس، لتغيير طاقم المحادثات مع الطرف الأوروبي، ولجأ تسيبراس لتقديم ولاية لغيورغي تشولياكاريس الذي يعتبر اليد اليمنى لوزير المالية، لتسلّم ملف المحادثات مع اللجنة الأوروبية ومجموعة وزراء مالية نادي اليورو. عمليًا، استبعد يانيس فاروفاكيس عن مركز الحدث، ولن يتعدّى دوره في طاقم المحادثات الصفة التمثيلية فقط، بعد أن كسب سخط الجبهة الأوروبية، طوال الأشهر الثلاث الماضية، من دون تحقيق الهدف المنشود. واضطر الزعيم اليوناني الشاب، تسيبراس، للاعتراف بإمكانية لجوئه إلى عقد استفتاء شعبي، إذا أجبر حزبه تسيريزا على تقديم تنازلات للاتحاد الأوروبي خارج إطار الوعود التي قدّمها في الحملة الانتخابية التي أسفرت عن فوز حزبه بنسبة كبيرة، ليقرّر الشعب اليوناني مصيره بنفسه. وتعني هذه التصريحات إمكانية تنازل الحكومة، أخيرًا، تحت الضغوط الكبيرة والمتواصلة للجهات المعنية في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، إذا رغب حقيقة بالحصول على الحقنة المالية الضرورية لإنقاذ الدولة من حالة مؤكّدة من الإفلاس، والبدء بمحادثات جديدة مع صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي لتنشيط عمليات الإقراض الدورية.

يرى مراقبون أوروبيون ويونانيون أنّ الهوّة والخلاف بين رئيس الوزراء اليوناني، تسيبراس، ووزير المالية، فاروفاكيس، تزداد يومًا بعد يوم، وبات فاروفاكيس عبئًا على الحزب الحاكم، وترى فئات كثيرة من الشعب اليوناني إنّ تدخّل رئيس الورزاء وترؤسه المحادثات مع الأطراف المانحة قد يكلّل المحادثات بالنجاح. في وقت تبذل الحكومة فيه جهودها لجمع مليار يورو لدفع استحقاقات صندوق التقاعد، وتبذل جهدها كذلك لجمع 880 مليون يورو للوفاء بالديون المستحقة للدائنين خلال النصف الأول من شهر مايو/أيار.

على الصعيد الوطني، يرفض محافظو وعمدة البلديات اليونانية الالتزام بسياسة التقشّف التي صادق عليها البرلمان، وتحويل الأموال التي تجبيها المحافظات لصالح البنك المركزي. تبدو هذه الإجراءات مجحفة بحقّ مدينة سالونيك، وهي من أكثر المحافظات نجاحًا وتطورًا، كأنّ الأزمة التي تمرّ بها اليونان لا تعنيها من قريب أو بعيد. وتخشى المحافظات اليونانية خسارة هذه المقدّرات، إذا ما أعلن رسميًا إفلاس الدولة. حرمان المحافظات والبلديات من موازناتها سيؤدّي إلى تراجع النموّ الاقتصادي النسبيّ لديها، وارتفاع معدّلات البطالة والكساد.


أسباب تحول دون الخروج من نادي اليورو

هناك خلاف في الرؤية البعيدة المدى بشأن الملف اليوناني بين الاتحاد الأوروبي وأميركا. في الوقت الذي يوحي فيه الاتحاد الأوروبي بأنّ إفلاس اليونان لن يؤدّي إلى كارثة لدى المجموعة الأوروبية، ويمكن استيعاب هذا الانهيار في المدى المنظور، يؤكّد الخبراء في أميركا أنّ إفلاس اليونان سيؤدّي إلى تبعات اقتصادية سلبية للغاية. وقد حذّر جيسين فيرمان، المستشار الاقتصادي للبيت الأبيض، قائلا، إذا غادرت اليونان نادي اليورو، فسيؤثر هذا الإجراء سلبيًا ليس فقط على الاقتصاد اليوناني، بل سيؤدّي إلى مخاطر لا ضرورة لها على الاقتصاد الأوروبي، والعالمي أيضًا.

الحقيقة أنّ اليونان لم تكن يومًا قريبة إلى هذا الحدّ من عبور الأبواب الخارجية لنادي اليورو، لكن، هناك خمسة أسباب تحول دون مغادرتها للنادي في القريب العاجل، وفقًا للخبير الاقتصادي الألماني ماكس هوفمان.

أولا: لا توجد آلية تلقائية لإعلان إفلاس اليونان على الفور، حال تخلّفها عن دفع استحقاقات ديونها للمؤسسات المالية الأوربية والدولية، ويمكن لكريستين لاغارد، المدير العام لصندوق النقد الدولي، استخدام آليات سياسية لإتاحة الفرصة مجددًا لليونان لإعادة جدولة ديونها. وكذا المؤسسات الأوروبية التي تمتلك الإرادة للحيلولة دون إفلاس هذه الدولة العريقة عند الضرورة. ثانيًا: مغادرة اليونان نادي اليورو مكلفة للغاية، وقد يصيب هذا الوباء دولا أخرى بالعدوى، في مقدمتها البرتغال وإيطاليا، وبروكسل قريبة للغاية من سيناريو مثيل. لكن، حتّى وإن غادرت اليونان نادي اليورو يتوجّب على بروكسل الاستمرار بمساعدتها ماليًا، لأنّ انهيار اقتصادها قد يؤدّي إلى مغاردتها الاتحاد الأوروبي برمّته، الأمر الذي لا ترغب به بروكسل.

ثالثا: التخلّي عن اليونان، بحدّ ذاته، يعتبر بمثابة حماقة جيوسياسية، لأنّ اليونان جزء من البلقان غير المستقرّ والصديق التقليدي لروسيا، وتقع في مرمى الهجرة الواسعة القادمة من إقليم الشرق الأوسط، فهل يمكن للغرب الثريّ أن يغامر بالتخلّي عن اليونان ضمن هذه الظروف؟

رابعًا: يبدو أنّ ألكسيس تسيبراس استوعب الدرس، وأدرك أنّه قد فقد آخر الأوراق بين يديه، إثر فشل وزير ماليته في محادثات الريغا، وسارع بتغيير طاقم المحادثات مع بروكسل وصندوق النقد الدولي، ويمكن، على الأرجح، لهذه المؤسسات المالية التعامل والتوصل إلى نقاط اتفاق مع فريق تسيبراس الجديد.

خامسًا: يبقى الاتحاد اتحادًا قويًا في صورته الحالية، وسيفقد نادي اليورو الكثير من قدراته وتأثيره، حال أن تغادره اليونان، ما يعتبر ضربة قويّة ضدّ الفكرة الأوروبية بشكل عام. ويصر الأوروبيون على المحافظة على البعد النفسي لفكرة وحدة القارة، وستبذل الدول الأوروبية الكبرى كلّ جهودها الممكنة لإنقاذ اليونان من مخاطر الإفلاس، ومغادرة نادي اليورو والاتحاد الأوروبي.

59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح