امرأة شجاعة من أهل البادية السورية
في كفيها تظهر عروق الكدح والعمل. بدت في ثوبها الكحلي، ونطاقها الذهبي، وغطاء الرأس المزين بحلية ظريفة، في الثلاثين من عمرها، طويلة القامة، سمراء البشرة، واسعة العينين، شامخة الأنف، بسَّامة الثغر، مكتنزة الشفتين، وكأن يزيد بن معاوية عناها في قوله:
وأمطرتْ لُؤلؤاً من نرجسٍ وسقتْ
ورداً، وعضتْ على العِنابِ بِالبردِ
قالت:
أسعد الله صباحكم بكل خير، هل أجد عندكم نسخة من كتاب "المستطرف من كل فن مستظرف" لشهاب الدين محمد الأبشيهي؟
قلتُ مندهشاً من طلبها:
نعم، عندي نسخة وحيدة في ثلاثة أجزاء محققة من القطع المتوسط ومجلدة فنياً بجلد أسود مذهَّب قد تُعجبك، هل تُريدينها لك؟
قالت:
الحمد لله لم يذهب تعبي سُدى، سألت في مكتبات السوق وسط المدينة فلم أجد الكتاب، وبعضهم لم يسمع باسمه من قبل، ولكنهم -كتر الله خيرهم- دلوني على مكتبتك هذه المتوارية عن الأنظار في هذا الزقاق القديم قرب الكنيسة. لا، الكتاب ليس لي، بل لجدي وقد أوصاني عدة مرات سابقة أثناء نزولي إلى المدينة لأعمال مختلفة أن أشتري نسخة منه ولم أُفلح في ذلك قبل الآن.
قلتُ:
إن كان عندك وقت تفضلي استريحي في المكتبة، حللت أهلاً ووطئت سهلاً، هل جدك من قراء الكتب؟
قالت:
شكراً لاستضافتك أنا فعلاً بحاجة إلى الراحة قليلاً.
ثمَّ أضافت بعد أن جلست:
أنا من يقرأ له الكتب بعد ان صار شيخاً طاعناً في السن وقد تجاوز الثمانين عاماً وهو يعاند ما جاء في معلقة الشاعر العربي الجاهلي الحكيم زهير بن أبي سلمى:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولاً لا أبالك يسأم
رأيتُ المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطئ يعمّر فيهرم
ذُهلت من فصاحة لسانها، فقد روت الأبيات وكأنها تقرأ من كتاب مفتوح. وأنا هُنا في الغربة على شاطئ بحر إيجة بعد أن شردتنا الحرب الضروس التي طحنت رحاها البشر والحجر، أحاول استحضار ملامح تلك المرأة في ذلك الصباح والحديث الذي دار بيننا. كانت قادمة من تخوم البادية السورية قرب خراب "الأندرين" التي ذكرها عمرو بن كلثوم في معلقته:
أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِيْنَـا
وَلاَ تُبْقِي خُمُـوْرَ الأَنْدَرِيْنَـا
سبحان الله، بعض من تلقاهم من البشر سيماهم في وجوههم، ومهما جرت الأيام لا تنساهم، وقد كان وجه المرأة يحمل سمات النباهة والفطنة. قلتُ لها وهي تفتح كيس نقودها:
سأطلب منكِ معروفاً وآمل ألا تردّي وجهي خائباً. نظرت في وجهي ملياً وكأنها فهمت قصدي، قالت:
قل يا ابن الحلال، ما عاش من يردّ وجهك خائباً.
ضبّي إذن كيس نقودك، هذا الكتاب هدية لجدك، واذكريني بالخير عنده. ولا تستغربي تصرفي فهذه النسخة من كتاب "المستطرف في كل فن مستظرف" من مكتبتي الخاصة في البيت أحضرتها إلى هُنا لأنني أكتب بحثاً مستفيضاً عمَّا جاء في الكتاب من مِلَحٍ ونوادر. وعلى كل حال انتهيت من الكتاب وهو لجدك الآن.
قبلنا الهدية، كثر الله خيركم، ولكنني أراك فرحاً مسروراً، ما الحكاية؟
قلتُ:
نعم، أشعر بالسعادة، لأنني كسبت قارئاً جديداً، وقد قرأتُ قبل أيام خبراً في إحدى الصحف جاء فيه أن المواطن الكندي ينتابه الكثير من الحزن والقلق حين يشرف على الموت ولم يتم بعد قراءة ألف رواية، مش ألف كتاب، ألف رواية. وأظن هذا المواطن الفطن على حق، لأن إحدى فوائد قراءة الروايات أنها تُضيف إلى حياتنا حياة جديدة، لذا كلَّما قرأنا أكثر طالت حياتنا أكثر، فحق لهذا المواطن أن يحزن.
ومن ثمَّ فرحتُ بالتعرف إليك فأنت كما أرى تمتلكين وعياً وخبرة في الحياة وقبل هذه وذاك عندك هذه الشجاعة النادرة في الاقتحام وحرية التعبير وبذلك تختلفين عن نساء الريف والبادية المحافظات، أو بما يكون أمر غير ذلك ولكن هذا ما نظنه نحن سكان المدن.
قالت وفي صوتها ثقة عالية:
يؤسفني أن أخيِّب ظنك، فأقول: إنَّ نساء الريف بعكس ما تظن متحررات بأشواط عن نساء المدن، ولا يُخطئ في تقدير ذلك صاحب بصيرة، ها أنت تعجب من قولي هذا، لا تعجب، فانا لا أطرح الكلام جزافاً ها هُنا، ولكنني أقول ذلك عن تجربة ميدانية، لا تنظر بعين الباحث إلى شكل لباسنا فنحن في البادية ما زلنا نعتبر الحشمة من الأخلاق الحميدة، ومن قال لك أن العري والسفور دليل الحرية في مجتمعاتنا.
قلتً مقاطعاً حديثها:
معاذ الله يا سيدتي، نعم، وأنا كذلك أعتبر الحشمة من الأخلاق الحميدة.
قالتْ:
نحن في البادية مازلنا نحب ونعشق ونصاحب ونعيش الحياة بحلوها ومرها، دعك من الحالات الخاصة التي تطغى على العام والشائع، نحن في النهاية نمتلك حرية القول والفعل. خذ مثلاً بسيطاً، المرأة في البادية تعمل كتفاً إلى كتف مع الرجل، وفي بعض الأوقات تعمل أكثر من الرجل، وهي في حالات كثيرة صاحبة الحل والربط، وكلمتها مسموعة، وهذا الأمر يكسبها الكثير من حرية الانطلاق في دروب الحياة. نحن إلى يومنا هذا نستقبل الرجال في غياب الرجال، ونكرم الضيف ولو كنا وحيدات في البيوت، نحن عرب ونعرف الأعراف العربية ونخضع لها، أما هُنا في المدينة فقد جالست العديد من النساء المتحجبات والسافرات، المسلمات والمسيحيات، فوجدتُ لديهم-ودعك أيضاً من استعمال نون النسوة في الحديث- نعم وجدت عندهم الكثير من القيود التي تكبل عقولهم أولاً ومن ثمَّ سلوكهم الاجتماعي ثانياً. لا أعرف ماذا فعلت بهم المدينة، تجدهم في الحديث وفي الحياة مهجنات. أتعرف، أظنه ذات الفرق بين زبدة عرب من لبن الغنم وزبدتكم هذه المهجنة التي تعملونها على شكل قوالب مستطيلة في المدينة.
نحن على العموم في البادية أكثر حرية وانطلاقاً من نساء مدنكم، المدينة أو المدنية لم تحرر المرأة كما أُلاحظ، ويلاحظ المرء بسهولة أن عندهم الكثير من العقد والممنوعات الاجتماعية تمنع عنهم تلك الحرية البسيطة التي من حق البشر في النهاية. هل تدرك ما أعني؟ أعني تلك الحرية الفطرية التي ولدت مع الإنسان، وأنت تعلم أن أمهاتنا ولدتنا أحراراً.
في البادية ما عندنا مثل هذه القيود الثقيلة التي تفرضها المدينة عليكم، فأنا وغيري من نساء البادية تُناقش الرجال في كل الأمور وإن أحببت أستطيع بسهولة قول ذلك لأبي أو لأخي أو لأمي، وفي النهاية أنا من يُقرر. حتى المصارحات والمطارحات الجنسية عندنا أفصح وأليق مما في المدينة. وقديماً قال مزيد وهو من أهل القرن الرابع الهجري: كان الرجل فيما مضى إذا عشق فتاة راسلها سنة ثم رضي أن يمضغ العِلك الذي تمضغه، ثم إذا تلاقيا تحادثا وتناشدا الأشعار، فصار الرجل اليوم إذا عشق فتاة لم يكن له همّ إلا أن يرفع رجليها كأنه أشهد على نكاحها أبا هريرة.
دعك ممَّا يُشاع في المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية التي تصوِّر حياتنا، فهي في الغالب لا علاقة لها بالواقع، هي خيالات في رأس المؤلفين والمخرجين والحكومات-الله لا يوفقهم ولا يوجه لهم الخير فوق تعبهم- ولا تمت بصلة ما إلى حياتنا الحقيقية، وهذا الأمر بحد ذاته مصيبة كبرى أن تشكل تصوراتكم ووعيكم الجمعي عن المرأة في الريف والبادية من خلال ما ترونه على الشاشة. وهذه دعوة لك، بما أنك تكتب في الجرائد والمجلات، لزيارتنا ومعاينه ما أقول على أرض الواقع.
طبعاً كنتُ أحب أن أذهب إليها في مرابعها، ولكنني لم أقدم على تلك الخطوة لأن الطرق في بلادي تقطعت في أواخر عام 2011 واشتد أوار الحرب، وتقطعت بنا السبل، وتشرد أهل تلك المرابع والديار، ويعلم الله أين تلك المرأة الآن، وأنا على كل حال أتفق معها فيما قالت، وأعتقد بأنها امتلكت شجاعة في القول يعجز عنها الكثير من البشر.