انتباه.. المثقفون بيننا
يثار في المشهد الثقافي العربي، في الآونة الأخيرة، سؤال أدوار المثقفين العرب ومهامهم، وكيفيات مواجهتهم المتغيرات الجارية في مجتمعاتهم. وهو سؤال يجد شرعيته ومسوغاته التامة في الراهن العربي، حيث يتطلب مشروع تجاوز تداعيات الانفجارات الحاصلة في السنوات الأخيرة، والعمل على استكمال مشروع النهوض العربي، جهود مختلف الفاعلين في المجتمع، أي جهود مختلف مكونات المجتمع العربي، وبصورة متعاضدة ومتكاملة.
يثيرني، دائماً، في موضوع التساؤل المذكور عن أدوار المثقفين، وخصوصاً في المراحل المفصلية من التاريخ، أن أغلب الذين يثيرونه ينتظرون أن تكون للمثقفين أدوار مماثلة لأدوار الفاعل السياسي، على الرغم من أننا نميز، في العادة، بين الفاعل السياسي وباقي الفاعلين داخل المجتمع. ونتحدث، في السنوات الأخيرة، عن صعوبات تمثل متغيرات التاريخ في جريانه، بحكم تعقد المجال واتساعه، مقارنة مع ما كان يحصل في الماضي، ومنه الماضي القريب، إضافة إلى سرعة إيقاع التحول في عالم يزداد تعولماً. فكيف نتجه، ونحن نفكر اليوم في أدوار المثقفين، إلى الربط المبسَّط والميكانيكي بين مهمتي السياسي والفاعل في المجال الثقافي؟
يتضمن الاكتفاء بتحويل المثقف إلى فاعل سياسي نوعاً من التبخيس للأدوار التحررية للثقافة والفكر في المجتمع، ويغفل وجود مثقفين عديدين منخرطين في المشهد السياسي، ووجود فاعلين سياسيين يتفاعلون بقوة مع مكاسب المشهد الثقافي.
تستوعب الصورة المرغوب فيها للمثقف، في ضوء ما سبق، صورة المثقف السياسي، ويهيمن عليها نوع من النفور من المثقف الخبير. المثقف المرغوب فيه مناضل سياسي، أولاً وقبل كل شيء، إنه مثقف ملتزم. أما المثقف حامل الخبرة المعرفية والتاريخية، فيُصَنَّف في عِدَاد الذين يعملون لحساب جهات أخرى، وفي هذا الأمر تبسيط للمسألة، وتغييب لمستجداتٍ ومتغيرات ثقافية وسياسية، أصبح لها اليوم دور كبير في تركيب ملامح صُورةٍ جديدة للمثقف في مجتمعنا.
يساهم التعميم المذكور في تغييب صورة الخبير الملتزم، كما يتناسى أدوار المثقفين الذين يكتفون بتسويغ منظومات فكرية، ومواقف انتهت مدة صلاحيتها، الأمر الذي يكشف أننا أمام وضع أكثر تعقيداً من التسميات والإسقاطات.
نتصوَّر أن الأدوار العديدة، التي تمارسها الثقافة في تعزيز آدمية الإنسان، ومآثره الرمزية، وإن كانت تلتقي مع الآفاق التي تُرْسَمُ لمهام العمل السياسي، وأدواره في ترسيخ قيم التحرر والعدالة والمساواة داخل المجتمع، فإنه ينبغي أن لا تجعلنا نغفل عن أننا أمام طريقين مختلفين في أنماط الحضور وطرائق العمل. وضمن هذا الإطار، نفترض أن الموقف الأقرب إلى روح التاريخ في مقاربة موضوعهما، يتمثل في عمليات التقاطع القائمة بينهما، كما يتمثل في الإسناد المتبادل الذي يعد حجر الزاوية في عمليات تفاعلهما وتعاضدهما.
تزداد أهمية الصورة الجديدة للمثقف، عندما نقرنها بواقع التحولات القائمة والجارية، والتي تتطلب، اليوم، نشوء المثقف القادر على لملمة ما يجري، وترتيب ملامحه والتفاعل مع مستجداته. ونشير، هنا، إلى تحولات القيم السياسية التي تتجه، اليوم، لبناء فضاءات ومؤسسات وفاعلين بمواصفات خاصة. كما نشير إلى تحولات الفكر ومآزقه، حيث تختفي المدارس والعائلات الفكرية الكبيرة، لتنشأ بدائل فكرية، تنحو نحو بناء تصورات مفتوحة ومتفاعلة مع متغيرات تصنع، اليوم، الملامح العامة لفكر في طور التَّشَكُّل، فكر تساهم طفرات المعرفة المرتبطة بالثورات التقنية وتبعاتها في بلورة الإرهاصات الكبرى لعوالمه ومعالمه.
تشير التحولات الصانعة بعض أوجه التحديات التي شخَّصنا، بتكثيف واختزال شديدين، إلى أن مواقف الذين يربطون بين صورة المثقف والسياسي، وبشكل نمطي، تتضمن كثيراً من صور الحنين إلى المثقف الْمُنْقِذ، المثقف صاحب البصيرة والحدوس القوية، والخيارات القاطعة والقطعية، المثقف الذي يشبه القائد الملهم. إلا أن هذا الموقف، وإن كان أصحابه يُقِرُّون بحصول التغيرات التي تحدثنا عنها، إلا أنهم لا يترددون في استمرار إعلان تعلقهم بصورةٍ لم يعد ممكناً تحققها.
إن الذين يَحِنُّون، اليوم، إلى مشاركة المثقفين الطلائعيين في معارك معينة، كما كان عليه الأمر في أزمنةٍ خلت، يتصورون إمكانية حصول هذا مجدداً، إنهم يعتقدون بإمكانية عودة المثقف الدَّاعية العارف وحده بحقيقة ما جرى ويجري، بدل أن يفكّروا في التحولات التي تنبئ بالصورة الجديدة للمثقف القادر اليوم على حراسة مقتضيات اليقظة الذِّهنية والتسلح بالنقد والفكر النقدي لمواجهة اليقينيات، ومختلف أشكال الفكر الشمولي، ليظل الفكر عنواناً لخياراتٍ لا تتردد في مواجهة أعطاب التاريخ وصناعة المستقبل.
يُخفي الحنين إلى المثقف المذكور أملاً يعكس مآثر في طور الانقراض، وبمحاذاة عالم يتغير، ينشأ مثقفٌ بأدوات أخرى، نفترض أنه الوجه الفاعل في مؤسسةٍ في طور التأسيس، مؤسسةٍ مقتنعة بجدوى الخبرة الجماعية في عالمٍ يصعب فيه على الأفراد، مهما قَوِيَت قرائحهم وعزائمهم، الإحاطة بكل ما يجري، مثقف نفترض أنه منخرط في عمل جماعي، يروم تعقل المتغيرات الجارية في مجتمعه، بحس تاريخي، ويتطلع إلى رسم خياراتٍ في الفكر والثقافة، تتوخَّى الاستماع إلى تطلعات مجتمعٍ، يساهم مع الآخرين في بنائه وإعادة بنائه.