وبينما تسابق الدول حول العالم الزمن لاحتواء الوباء الذي يزداد عدد ضحاياه والمصابين به بوتيرة مرتفعة، وجدت الحكومات في أدوات المراقبة، ولا سيما الرقمية، وسيلة لممارسة رقابة اجتماعية على المواطنين، وباتت كل جهودها، بحجة السلامة العامة والأمن الصحي، تتركّز نحو استغلال أي أداة يمكنها الاستفادة منها لمحاولة الحدّ من الفيروس، حتى وإن كان ذلك يهدّد الحرية والخصوصية الشخصية على نطاق واسع وعالمي، بما في ذلك خصوصية المواطنين الصحية التي انتهكت بشكل كبير في معظم أنحاء العالم أخيراً، في ظلّ الإفصاح المتزايد عن البيانات الصحية.
وبما أن ما يحصل اليوم لن يكون مقبولاً على الإطلاق في ظروف عادية، يبقى السؤال الأهم الذي يشغل كثراً: هل تتحوّل تبعات هذه الظروف، وتحديداً في ما يتعلّق بالمراقبة، إلى أمر دائم؟
في دول تنتهج أساساً أساليب القمع والرقابة الصارمة على المواطنين، قد يكون الفيروس قدّم لها خدمات في هذا المجال، في حين ستستفيد دول أخرى تعتبر ديمقراطية من الوضع. وفيما لجأت الصين لزيادة الرقابة الصارمة المعتمدة أساساً في البلاد، عبر استخدام التطبيقات الذكية المختلفة، وتحديد الموقع الجغرافي للأفراد من أجل زيادة التحكم في تحركات سكانها أثناء انتشار الوباء، بدأت الإدارة الأميركية محادثات مع شركتي "غوغل" و"فيسبوك" لبحث إمكانية حصولها على موقع وحركة جميع مستخدمي الهواتف الذكية في عموم البلاد، بالحجة ذاتها "كورونا".
ولكن عدداً من الخبراء يتحدّث عن أن الأميركيين باتوا على دراية وتعلموا الدرس في هذا الشأن بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، إذ إنه اليوم، وبعد نحو عقدين من الزمن، باتت وكالات إنفاذ القانون الأميركية تحظى بإمكانية الوصول إلى أنظمة مراقبة فائقة القوة، مثل تتبع المواقع الدقيقة للأشخاص واستخدام تكنولوجيا التعرف إلى الوجه، وهي التقنيات التي تقول صحيفة "نيويورك تايمز" إنه قد تتم إعادة استخدامها لأغراض أخرى سياسية مثل مكافحة الهجرة. وتشير الصحيفة إلى أنّ خبراء الحريات المدنية يحذرون من أنّ الجمهور قد لا يكون أمامه هامش كبير للجوء إلى تحدي هذه الإجراءات الرقمية لسلطة الدولة.
وتنقل الصحيفة عن مدير تنفيذي في شركة تعنى بتكنولوجيا المراقبة في مانهاتن، ويدعى ألبرت فوكس كان، قوله: "يمكن أن ينتهي بنا الأمر بسهولة إلى وضع يمكننا فيه تمكين السلطة المحلية أو حكومة الولاية أو الحكومة الفيدرالية من اتخاذ تدابير لمواجهة هذا الوباء، تغيّر بشكل أساسي نطاق الحقوق المدنية الأميركية".
واعتمدت الرقابة بحجة كورونا في كثير من دول العالم أخيراً. ففي كوريا الجنوبية، تقوم الوكالات الحكومية بتسخير لقطات كاميرات المراقبة وبيانات الهواتف الذكية بشأن مواقع الأشخاص، وسجّلات الشراء عبر بطاقات الائتمان، للمساعدة في تتبع التحركات الأخيرة للمصابين بكورونا، ووضع تصوّر لسلسلة انتقال الفيروس.
وسلكت هونغ كونغ وتايوان النهج نفسه، وتحديداً نهج الصين نفسه، مستخدمة التطبيقات وتحديد الموقع الجغرافي للتحكم في تحركات سكانها.
وفي إيطاليا، تقوم السلطات بتحليل بيانات المواقع التي ترسلها الهواتف الذكية الخاصة بالمواطنين لتحديد عدد الأشخاص الذين يطيعون أمر الإغلاق الحكومي ويلتزمون العزل المنزلي، فضلاً عن تحديد الأماكن التي يتحركون فيها كل يوم. وقد قال مسؤول إيطالي أخيراً، وفق "نيويورك تايمز"، إن نحو 40 في المائة يتنقلون "أكثر من اللازم".
وبشكل عام، بدأ مشغلو الهواتف المحمولة الأوروبيون في مشاركة بيانات مستخدميهم مع السلطات لتحديد تحركات عملائهم من دون الكشف عن هويتهم إلى الآن، كاحترام للائحة العامة لحماية البيانات، ولكن هذا قد يتغير قريباً، وفق ما يقول إنريكي دانس، في مقال بمجلة "فوربس".
في إسرائيل، كلّفت حكومة الاحتلال أخيراً جهاز المخابرات العامة (الشاباك) استخدام أدوات تعقب تكنولوجية، مخصصة أصلاً لعمليات مكافحة الإرهاب، لمراقبة وتعقب المصابين بكورونا وفرض الحجر الصحي عليهم، واستقدام تقنيات مراقبة موقع المصابين بالفيروس عبر تعقب أماكن هواتفهم النقالة بالاستعانة بشركات الهواتف الخليوية المختلفة.
وفي موسكو، تعتمد السلطات على كاميرات التعرّف إلى الوجه لمراقبة مدى التزم من تم فرض العزل الذاتي الإجباري عليهم بالقيود، وسط الاحتجاجات والاعتراضات القانونية على الرقابة الحكومية المتطورة.
"في حالات الطوارئ، مثل الأوبئة، يجب الموازنة بين الخصوصية والاعتبارات الأخرى، مثل إنقاذ الأرواح"، تقول ميلا رومانوف، مديرة البيانات والحوكمة لبرنامج "النبض العالمي للأمم المتحدة" (UN Global Pulse)، والذي يتعلّق بالاستفادة من البيانات الضخمة وتحليلها من أجل التنمية المستدامة والعمل الإنساني، بما في ذلك تحسين الاستجابة الطارئة للأوبئة. وتضيف رومانوف، بحسب ما تنقل عنها "نيويورك تايمز": "نحتاج إلى إطار عمل يسمح للشركات والسلطات العامة بالتعاون، لتخويل الاستجابة المناسبة للصالح العام"، مشيرة إلى أنه "من أجل الحدّ من خطر أن تنتهك جهود مراقبة فيروس كورونا خصوصية الأشخاص، يجب على الحكومات والشركات أن تقتصر في جمع واستخدام البيانات على ما هو مطلوب فقط". لكنها تستدرك بالقول: "التحدي هو: ما مقدار البيانات الكافية؟".
يبدو من الصعب الموازنة بين القبول بما تقتضيه الظروف الاستثنائية والطارئة على العالم والتي فرضها فيروس كورونا، وبين عدم التخلي عن الحرية والخصوصية ودعم إجراءات تعزز مفهوم "الأنظمة البوليسية". ويبدو الأكثر أهمية اليوم هو ما بعد كورونا، حيث الحقوق المدنية التي حصلت عليها الشعوب بعد نضال، قد تكون مهددة إن كان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
وفي هذا الإطار، تقول ميشيل جيلمان، المحامية المتخصصة بأمور الخصوصية والباحثة في "معهد بحوث البيانات والمجتمع"، بحسب ما ينقل عنها موقع "كوين ديسك": "خلال أوقات الأزمات، تكون الحريات المدنية في خطر كبير، لأن التوازن الطبيعي بين السلامة والخصوصية يصبح مائلاً نحو الأمان". وتضيف: "إنّ أحد المخاوف الرئيسية هو أن تصبح تقنيات المراقبة الجديدة التي تمّ اعتمادها خلال أزمة كورونا الوضع الطبيعي الجديد وجزءاً لا يتجزّأ من الحياة اليومية بعد مرور الأزمة. وهذا يمكن أن يؤدي إلى مراقبة جماعية مستمرة للسكان من دون شفافية أو مساءلة أو عدالة كافية".