وفي غضون المعارك، نمت تجارة الأسلحة وارتفعت الأسعار، واتسعت هذه السوق السوداء ليصل السلاح حتى الى يد الأطفال.
إذ يعيش لبنان منذ اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في العام 2005 حتى اليوم، في حالة تشبه الحرب الأهلية. إلا أن هذه الحالة لم تتطور لتصبح عامة ومتزامنة في كل المناطق اللبنانية، ما يجعلها أقل حدة ووضوحاً مقارنة مع الحرب الأهلية اللبنانية التي انطلقت عشية العام 1975.
خلال 9 سنوات، وقع في لبنان حوالي 10 اشتباكات مسلحة على خلفية مذهبية بين الطائفتين الشيعية والسنية، كان أضخمها حرب " 7 أيار" (7 مايو) التي قادها حزب الله في بيروت بعد قرار الحكومة اللبنانية وقف شبكة الاتصالات الخاصة به، وإقالة مدير أمن المطار المحسوب عليه.
وقد حصدت الاشتباكات حوالي 100 قتيل وعشرات الجرحى خلال السنوات الماضية.
في الوقت ذاته، انطلقت في العام 2008 اشتباكات بين مسلحين من الطائفتين السنية والعلوية في منطقة طرابلس في شمال لبنان، ولا تزال هذه الاشتباكات مستمرة حتى اللحظة، حاصدة المئات بين قتلى وجرحى.
وأضيفت الى الخلافات الداخلية اللبنانية، الأزمة السورية التي أدت الى تنشيط تجارة السلاح من ضمن السوق السوداء بين لبنان وسورية، استيراداً وتصديراً.
كل هذه الأحداث، أدت إلى خلق نشاط متسارع في سوق السلاح في لبنان، لتتحول الى قطاع تجاري يعيش في ظل الاقتصاد، ويشهد تضخماً كبيراً منذ العام 2005، ليصل في العام 2014 إلى أوجه.
بورصة الحروب
تعتبر سوق الاسلحة في لبنان بورصة ترتفع فيها أسعار السلاح والذخائر وتنخفض تبعاً لتزايد الخلافات السياسية – المذهبية، وتناقصها، وبالتالي تخضع الأسعار لمعادلة العرض والطلب.
حتى أن قيام زعيم مذهب ديني أو زعيم سياسي بمؤتمر صحافي أو مقابلة أو إلقاء كلمة متلفزة قد يرفع سعر السلاح، كون التصريحات المتلفزة لعدد من الزعماء تتزامن مع إطلاق كثيف للرصاص في الهواء، وأحياناً يتم استخدام الـ "آر بي جي" في حفلات الجنون هذه.
مثلاً، تعتبر مدينة طرابلس من أكثر المدن فقراً في لبنان، وتضم آلاف العائلات التي تعيش في فقر مدقع. إلا أنه، ومع انطلاقة شائعة مقتل أحد الزعماء العلويين في طرابلس، أطلق مسلحون النار ابتهاجاً بموته، وتم تقدير قيمة الرصاص والقذائف التي أطلقت بحوالي مليون دولار خلال 3 ساعات من "الابتهاج"، وفق ما أكدت تصريحات صحفية لجهات أمنية لبنانية.
وتنشط تجارة السلاح في السوق السوداء، ويعتبر عدد من الأحزاب الأساسية اللبنانية (والممثلة في البرلمان والحكومة) من أكثر مستهلكي الأسلحة في هذه السوق.
فقد تراجعت السوق السوداء للأسلحة بعد الحرب الأهلية، وتحديداً بعد اتفاق الطائف الذي تم توقيعه في العام 1989 والذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية بحيث نص هذا الاتفاق على نزع السلاح بشكل طوعي من يد كل المليشيات ومن كل المنازل والمناطق اللبنانية، باستثناء سلاح "حزب الله" الذي اعتبر أنه مخصص لمحاربة اسرائيل والدفاع عن لبنان.
يشرح رئيس "حركة السلام الدائم" في لبنان فادي أبي علام في حديث مع "العربي الجديد" واقع السوق السوداء للأسلحة في لبنان، قائلاً أنه لا يمكن قياس عدد قطع السلاح الصغير والخفيف (أي الذي يمكن استخدامه من قبل الأفراد)، إلا أن الأرقام التقريبية تشير الى وجود حوالي 3 ملايين قطعة سلاح في لبنان (لا تشمل سلاح حزب الله طبعاً).
ويلفت أبي علام الانتباه إلى أنه من المستحيل تقدير حجم هذه السوق كونها غير مستقرة، وكون مصادر وصول الأسلحة إلى لبنان ليست محددة تماماً.
ويشير إلى أن المليشيات تتعاطى مع جهات متعددة، ومصادر وصول السلاح الى لبنان تضم لائحة كبيرة من الدول الغربية والعربية.
ويضيف أبي علام أن تجارة السلاح من الممنوعات، ولا يوجد هوية سياسية محددة للتاجر. إذ خلال الحروب والاشتباكات، يمكن أن يكون التاجر نفسه يؤمن السلاح لكلا الفريقين المتحاربين.
أسعار الأسلحة
إلا أنه وبرغم سعة السوق السوداء للأسلحة في لبنان، تمكن معرفة أسعار القطع الحربية. ويقول أحد المطلعين على سوق السلاح في لبنان، أن أسعار الأسلحة ارتفعت بين عامي 2005 و2014 ما بين 3 أضعاف (سعر الرصاصة)، وعشرة أضعاف (الكلاشنوف).
ويلفت المصدر النظر في حديث مع "العربي الجديد" إلى أن سوق السلاح في لبنان تخضع بالمطلق لمعادلة العرض والطلب.
أما ارتفاع الأسعار في القطع الحربية فهو يطال تحديداً الأسلحة الأكثر استخداماً والأكثر شعبية، مثل القنبلة اليدوية والكلاشنكوف وقذيفة الـ "ب 7". كذلك، يخضع تحديد السعر لعناصر تتعلق بالسلاح نفسه، إذ يختلف بحسب نوعية السلاح وجودته وعمره.
يقول المصدر أن أسعار السلاح كانت أقل بكثير قبل العام 2005، وتحديداً قبل أحداث " 7 أيار" في العام 2008. فسعر الكلاشينكوف كان لا يتعدى الـ 150 دولاراً، وقد ارتفع سعره حوالي 10 أضعاف ليصبح اليوم 1500 دولار.
كذلك، ارتفع سعر القنبلة اليدوية من 10 دولارات ليصبح اليوم بين 30 و50 دولاراً.
الرصاصة كان سعرها 1000 ليرة لبنانية (70 سنتاً أميركياً) فأصبح حوالى 2500 ليرة (دولار و70 سنتاً). وسعر قذيفة الـ "ب 7" والـ "ب10" يراوح اليوم بين 500 دولار وألف دولار، في حين كان سعرها قبل العام 2008 حوالي 200 دولار.
هذا الواقع ينسحب على كل القطع الحربية الأخرى المستخدمة في الاشتباكات المسلحة بين اللبنانيين. إذ إن سعر قذيفة الـ"هاون" (عيار: 60، 82، 120) يراوح بين 1000 و3500 دولار.
سعر القناصة الروسية (بريجنيف) ألفا دولار، وسعر القناصة "دريغينوف" 5 آلاف دولار. وسعر قذيفة الـ "إينيرغا" يراوح بين 300 و500 دولار. وسعر بندقية "أم 16" حوالى ألفي دولار. وسعر رشاش الـ "بي كي سي" حوالي 4 آلاف دولار. في حين أن سعر رشاش "دوشكا" حوالي 3 آلاف دولار.
تجار الموت
هكذا، يمكن استنتاج أن المعارك التي تحدث في شوارع لبنان تكلف مليارات الدولارات، ثروة يحققها عدد من تجار الأسلحة غير المشروعة، خصوصاً مع تصاعد حدة الخلافات السياسية والأمنية بين اللبنانيين.
وتقول المدرّبة والناشطة في مجال بناء السلام وحل النزاعات صونيا نكد لـ"العربي الجديد" أن لبنان يعتبر ممراً لتجارة السلاح في كل دول المنطقة، وهو بحكم وجوده في منطقة وسطية بين عدد من البلدان وبحكم الفساد والسيطرة الحزبية على معظم ادارته وأجهزته، يعتبر بيئة حاضنة للسوق السوداء في ما يتعلق بتجارة السلاح.
وتشرح نكد، أن الوضع المضطرب في كل المنطقة يشجع على تجارة السلاح، في حين أن الناس عندما تخاف أمنياً تلجأ إلى شراء الأسلحة، هذا عدا عن الميليشيات والمجموعات المسلحة المنتشرة في لبنان.
تقول نكد إن الدورة الاستهلاكية للأسلحة في لبنان تبدأ من بلد المنشأ في أوروبا وأميركا وروسيا وغيرها، حيث أن مصانع الأسلحة مرخصة في بلدانها، وكذلك الشركات التجارية المرتبطة بها. بذلك، تبيع هذه الشركات الأسلحة لشركات أو تجار كبار لبنانيين، وهؤلاء يسوقون الأسلحة في لبنان على نطاق أضيق.
وتشدد الناشطة على أن هذه الصناعة مدعومة جداً من حكومات الدول المصنّعة، ويظهر مدى تورط الدول الكبرى في صناعة الموت في المفاوضات التي استمرت أكثر من 10 سنوات للاتفاق على معاهدة تجارة الأسلحة الخفيفة والتي تم توقيعها العام الماضي بعد الكثير من التغييرات التي فرضتها الدول الكبرى تلبية لمصالح مصانع الأسلحة.
مثلاً، تؤكد نكد أن شركات تصنيع الأسلحة في أميركا متحدة في تكتل واحد، وممثلو التكتل شاركوا بأنفسهم في المفاوضات حول معاهدة تنظيم تجارة الأسلحة.
وتضيف نكد أن للسلاح في لبنان سوقاً ضخمة وفيها الكثير من الطلب.
وتوضح أنه، نظرياً، على الدولة معالجة هذا الواقع، إلا أن الواقع بعيد عن النظريات. فمثلاً الاشتباكات الحاصلة في طرابلس، شمال لبنان، مستمرة منذ 6 سنوات، وحتى اللحظة لم يتم وقفها.
وفي السياق ذاته، يقول المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية في جنيف، في مسح طال تجارة الأسلحة الخفيفة في العام 2012، أن أسعار الذخيرة في لبنان ارتبطت بقوة مع عدد لضحايا الصراع الذي أعلن عنه في سوريا.
ويحدّد التقرير أكثر "العلاقة شديدة الارتباط بين أسعار الذخيرة في لبنان والوفيات في الأشهر الـ 19 الأولى من النزاع في سوريا".
ويشرح التقرير أن التحليلات تغيب عن قياس مستوى أسعار الأسلحة بعدد الضحايا في الحروب، برغم الترابط الوثيق بينهما.
إذ أن الأكيد أن السوق السورية للأسلحة انفتحت على لبنان استيراداً وتصديراً منذ أن أصبح الصراع مسلحاً.
والأكيد أيضا، أن لبنان باضطراباته الداخلية وقربه من بلد مضطرب أمنياً كسوريا، أصبح يعتبر مخزن سلاح كبير بحجم وطن.