04 نوفمبر 2024
انتفاضات الموجة الثانية ونهاية "الصفقة الفاوستية"
في حكاية شهيرة من التراث الشعبي الألماني، يضطر الدكتور فاوست الذي لم يكن راضيا عن حياته إلى عقد صفقةٍ مع الشيطان. وبموجبها، يخدم الثاني الأول جالبا له السعادة، في مقابل أن يقبض روحه عند انتهاء مدة العقد. وفي عالمنا العربي، حيث يغيب العقد الاجتماعي الذي قامت عليه الدولة الحديثة، كُرّست هذه "الصفقة الفاوستية" صيغةً أساسيةً للعلاقة بين الشعوب العربية وحكامها (لا حفظ الله منهم إلا من انتخبه شعبه)، يحصل بموجبها المواطن على الأمن والخدمات لقاء ولائه للنظام السياسي. انعدام هذا الولاء، أو الشك فيه، يحرم المواطن من الحياة معنويا أو ماديا. إحلال الولاء للنظام السياسي مكان الولاء للوطن أضعف الشعور العام بالمواطنة، وفي مجتمعاتٍ تسودها المحاباة لأجل المصلحة، تحصّن الأفراد بالعائلة، والقبيلة، والطائفة، ما عزّز الولاءات الفرعية على حساب الولاء للوطن، وبقيت القبضة الأمنية، علانيةً أو مضمرةً، حاضرةً عند اللزوم. استحوذت الدولة على المجال العام، وقمعت المبادرات الفردية في جميع المجالات، لكنها عجزت عن القيام بدورها في التنمية، وتغوّلت النخب المسيطرة في استغلال امتيازاتها على حساب الشعوب. وطوال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أظهرت التقارير الأممية عن التنمية العربية نقصا في المعرفة والحريات وحقوق المرأة، ووضعت معظم الدول العربية في ذيل قافلة التقدم والحضارة (مثلا تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002).
مدفوعا باليأس بسبب الفساد، ووحشية الشرطة، أشعل بائع الفاكهة التونسي، محمد البوعزيزي، في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، النار في نفسه خارج مكتب مسؤول حكومي رفض سماع شكواه. هبّ التونسيون متمرّدين على نسختهم تلك من "الصفقة الفاوستية"، لتكتسح الموجة الأولى من انتفاضات الربيع العربي المنطقة، وبدأ المستبدّون يتساقطون كأحجار الدومينو. منحت هذه الموجة أربعمائة مليون إنسان، أملا بأن الحريات السياسية والحياة الكريمة بدأت تطرق
أبوابهم. وساد اعتقاد عام أن العالم العربي يسير في الطريق نفسها التي سارت فيه دول أوروبا الشرقية، بعد سقوط جدار برلين بداية التسعينيات، وأنه ستكون له حظوظ مشابهة لحظوظ دول أميركا اللاتينية التي تخلصت بعد عقودٍ من حكم الديكتاتوريات العسكرية.
حصلت تلك الدول على دعم حقيقي من الأسرة الدولية، فنالت دول في أوروبا الشرقية عضوية النادي الديمقراطي الغربي ومؤسساته، سيما عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتوفرت لدول أميركا اللاتينية حزم مساعدات سخية من واشنطن، ومن جهات دولية مانحة، واستوعبها نموذج إقليمي إيجابي، هو منظمة الدول الأميركية. ووفر هذا الاحتواء دفعا إلى الأمام لتحولاتها الديمقراطية، وهو ما لم يتوفر لدول العالم العربي التي نجحت في بعضها انتفاضات الموجة الأولى جزئيا، معتمدة على عدد قليل من المؤسسات العاملة الفاعلة، بعد عقود من غياب سيادة القانون، وافتقارها إلى المعارضة السياسية الديمقراطية المنظمة.
بعد أقل من تسع سنوات على انطلاق الموجة الأولى، وباستثناء تونس التي استكملت مسيرتها الديمقراطية، كانت نتائج تلك الانتفاضات كارثية. أحيانا، قمعت الأجهزة الأمنية والعسكرية المظاهرات السلمية، وأطلقت نيرانها عليهم، تسلحت تلك الانتفاضات، واخترقتها السلفيات الجهادية، ودخلت البلاد في حروب أهلية تدار بالوكالة الإقليمية والدولية. في أحيان أخرى، قمعت تلك الانتفاضات من الانقلابات العسكرية، والثورات المضادة الممولة من دول خليجية. طوّرت الأنظمة الاستبدادية في المنطقة آليات معزّزة للقمع، وأحلت الإكراه الوحشي محل الحوار، وبدا أنها نجحت في ترويع شعوبها. أصبح قمع الناشطين أكثر قسوة، وحصدت قوانين جرائم المعلوماتية من يشارك عبر وسائل التواصل الاجتماعي منشورات تنتقد الحكومة، أو رئيس البلاد، أو الأجهزة الأمنية، حتى في بلدان كانت نموذجا لحرية الصحافة والإعلام مثل لبنان (حوكم 38 شخصا في العام 2018)، وامتدت يد الأجهزة الأمنية لتغتال المعارضين أو تعتقلهم في المنافي. المغرب والأردن فضلتا إجراء إصلاحات سياسية لتحقيق الاستقرار، بدل الانجرار وراء تكتل تقوده السعودية والإمارات لإجهاض الانتفاضات العربية.
أظهرت التقارير الأممية مجددا تراجعا في مؤشرات الديمقراطية، والحريات المدنية، وأداء
الحكومة، وأصرّ المستبدون العرب في خطابهم الإعلامي على التناقض القائم بين الديمقراطية وحقوق الإنسان وبين الاستقرار. للأسف، تبنى معظم المجتمع الدولي وجهة نظر تلك الأنظمة، فغض الطرف عن السجل المتدهور لحقوق الإنسان، وبدّت الولايات المتحدة الأميركية مصالحها التي وجدتها في التحالفات المريحة مع دول الخليج الغنية بالنفط. وفي مطلع العام الحالي هاجم وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، من على منبر الجامعة الأميركية في القاهرة، سياسة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وقدّم خطابا بديلا لخطاب باراك أوباما الذي القاه في القاهرة أيضا قبل عشر سنوات، بدا له فيه أن الاهتمام بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ما هو إلا جلد أميركي للذات، مؤكدا أولويات الإدارة الأميركية الحالية المتمثلة في مكافحة الإرهاب، واحتواء النفوذ الإيراني.
لم تحقق الموجة الأولى من الربيع العربي الإصلاحات العاجلة المطلوبة، وربما أصبحت حياة الكثيرين بعدها أكثر صعوبة، مع استمرار البطالة، وتدني الأجور، وأنظمة التعليم التقليدي، وعدم تكافؤ الفرص، وفقدان الحريات.. لكن تلك الموجة أحيت على المدى الطويل الطاقات السياسية في العالم العربي، وأبقت على الحراك الاجتماعي، لتبرهن الموجة الثانية أن الطلب على الحرية والعدالة مازال مرتفعا بين شعوب المنطقة.
على غرار انتفاضات الموجة الأولى، كانت الموجة الحالية من طبيعة سياسية، وشملت كامل الجغرافيا الوطنية، وحافظت على استمراريتها وترابطها، لكنها تجاوزت المظالم الاجتماعية والاقتصادية لتطوير مطالب سياسية واضحة، تمثّلت في إحداث تغيير سياسي جذري وطويل الأمد. طالب المتظاهرون بإسقاط كل شيء ورحيل الجميع، في لبنان والعراق والسودان والجزائر، تشابه مضمون الشعارات: "كلهن يعني كلهن". ورغم تنحي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بقي المتظاهرون الجزائريون في الشوارع مطالبين الجيش بعملية سياسية تضمن التغيير الهيكلي، بدلاً من تمكين عملية انتخابية تضمن بقاء الجيش ومصالحه التجارية المتوافقة مع الدولة العميقة. ولم يستسلم المتظاهرون في الشارع السوداني إلا بعد التوصل إلى اتفاق مع الجيش بشأن مرحلة انتقالية تفضي إلى حكم مدني خلال ثلاث سنوات. تستمر الاحتجاجات في العراق رغم سقوط قتلى، وفي لبنان رغم التهديد بالحرب الأهلية.
ورغم تنوع انتماءات المشاركين في انتفاضات الموجة الثانية ساد شعور عام بالوحدة، وغابت
الأيديولوجيا التي سبب حضورها توترا حاسما أسهم في إفشال الموجة الأولى. لم تسقط الأنظمة بالسرعة المطلوبة، لعدم توافر دعم خارجي مباشر، لكن ذلك انعكس إيجابا، موفرا على المتظاهرين مكابدة عناء الولاءات المتضاربة، والارتهان إلى الخارج، مانحا إياهم فرصة الاعتماد على الذات، واكتساب الخبرة عبر المراحل الانتقالية.
إخفاقات الموجة الأولى منحت المستبدين وهما بأن الشعوب ستفضّل الاستقرار على الحرّية، لم يستوعبوا الدرس، وتعاموا عن ضرورة معالجة مشكلات شعوبهم، قبل أن تضج الشوارع مجددا بالأصوات المطالبة بحجب الثقة عن النظام السياسي-الاقتصادي وقادته. على العكس، استوعبت الشعوب دروس الموجة الأولى، وتجاوزت أهم أخطائها. ستستمر الانتفاضات على المدى الطويل، وعبر موجات متتالية، فلم يعد فاوست العربي يقبل بأن يبيع نفسه لشياطين السياسة ووكلاءهم، هو اليوم فاوست في نسخته المعدّلة عند الشاعر الألماني غوته؛ المفكر المستاء، الذي تحرّر من صفقاته المجحفة مع الشيطان، ولم يعد يقبل التنازل عن سعادته، أو أن يبيع روحه لأحد.
حصلت تلك الدول على دعم حقيقي من الأسرة الدولية، فنالت دول في أوروبا الشرقية عضوية النادي الديمقراطي الغربي ومؤسساته، سيما عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتوفرت لدول أميركا اللاتينية حزم مساعدات سخية من واشنطن، ومن جهات دولية مانحة، واستوعبها نموذج إقليمي إيجابي، هو منظمة الدول الأميركية. ووفر هذا الاحتواء دفعا إلى الأمام لتحولاتها الديمقراطية، وهو ما لم يتوفر لدول العالم العربي التي نجحت في بعضها انتفاضات الموجة الأولى جزئيا، معتمدة على عدد قليل من المؤسسات العاملة الفاعلة، بعد عقود من غياب سيادة القانون، وافتقارها إلى المعارضة السياسية الديمقراطية المنظمة.
بعد أقل من تسع سنوات على انطلاق الموجة الأولى، وباستثناء تونس التي استكملت مسيرتها الديمقراطية، كانت نتائج تلك الانتفاضات كارثية. أحيانا، قمعت الأجهزة الأمنية والعسكرية المظاهرات السلمية، وأطلقت نيرانها عليهم، تسلحت تلك الانتفاضات، واخترقتها السلفيات الجهادية، ودخلت البلاد في حروب أهلية تدار بالوكالة الإقليمية والدولية. في أحيان أخرى، قمعت تلك الانتفاضات من الانقلابات العسكرية، والثورات المضادة الممولة من دول خليجية. طوّرت الأنظمة الاستبدادية في المنطقة آليات معزّزة للقمع، وأحلت الإكراه الوحشي محل الحوار، وبدا أنها نجحت في ترويع شعوبها. أصبح قمع الناشطين أكثر قسوة، وحصدت قوانين جرائم المعلوماتية من يشارك عبر وسائل التواصل الاجتماعي منشورات تنتقد الحكومة، أو رئيس البلاد، أو الأجهزة الأمنية، حتى في بلدان كانت نموذجا لحرية الصحافة والإعلام مثل لبنان (حوكم 38 شخصا في العام 2018)، وامتدت يد الأجهزة الأمنية لتغتال المعارضين أو تعتقلهم في المنافي. المغرب والأردن فضلتا إجراء إصلاحات سياسية لتحقيق الاستقرار، بدل الانجرار وراء تكتل تقوده السعودية والإمارات لإجهاض الانتفاضات العربية.
أظهرت التقارير الأممية مجددا تراجعا في مؤشرات الديمقراطية، والحريات المدنية، وأداء
لم تحقق الموجة الأولى من الربيع العربي الإصلاحات العاجلة المطلوبة، وربما أصبحت حياة الكثيرين بعدها أكثر صعوبة، مع استمرار البطالة، وتدني الأجور، وأنظمة التعليم التقليدي، وعدم تكافؤ الفرص، وفقدان الحريات.. لكن تلك الموجة أحيت على المدى الطويل الطاقات السياسية في العالم العربي، وأبقت على الحراك الاجتماعي، لتبرهن الموجة الثانية أن الطلب على الحرية والعدالة مازال مرتفعا بين شعوب المنطقة.
على غرار انتفاضات الموجة الأولى، كانت الموجة الحالية من طبيعة سياسية، وشملت كامل الجغرافيا الوطنية، وحافظت على استمراريتها وترابطها، لكنها تجاوزت المظالم الاجتماعية والاقتصادية لتطوير مطالب سياسية واضحة، تمثّلت في إحداث تغيير سياسي جذري وطويل الأمد. طالب المتظاهرون بإسقاط كل شيء ورحيل الجميع، في لبنان والعراق والسودان والجزائر، تشابه مضمون الشعارات: "كلهن يعني كلهن". ورغم تنحي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بقي المتظاهرون الجزائريون في الشوارع مطالبين الجيش بعملية سياسية تضمن التغيير الهيكلي، بدلاً من تمكين عملية انتخابية تضمن بقاء الجيش ومصالحه التجارية المتوافقة مع الدولة العميقة. ولم يستسلم المتظاهرون في الشارع السوداني إلا بعد التوصل إلى اتفاق مع الجيش بشأن مرحلة انتقالية تفضي إلى حكم مدني خلال ثلاث سنوات. تستمر الاحتجاجات في العراق رغم سقوط قتلى، وفي لبنان رغم التهديد بالحرب الأهلية.
ورغم تنوع انتماءات المشاركين في انتفاضات الموجة الثانية ساد شعور عام بالوحدة، وغابت
إخفاقات الموجة الأولى منحت المستبدين وهما بأن الشعوب ستفضّل الاستقرار على الحرّية، لم يستوعبوا الدرس، وتعاموا عن ضرورة معالجة مشكلات شعوبهم، قبل أن تضج الشوارع مجددا بالأصوات المطالبة بحجب الثقة عن النظام السياسي-الاقتصادي وقادته. على العكس، استوعبت الشعوب دروس الموجة الأولى، وتجاوزت أهم أخطائها. ستستمر الانتفاضات على المدى الطويل، وعبر موجات متتالية، فلم يعد فاوست العربي يقبل بأن يبيع نفسه لشياطين السياسة ووكلاءهم، هو اليوم فاوست في نسخته المعدّلة عند الشاعر الألماني غوته؛ المفكر المستاء، الذي تحرّر من صفقاته المجحفة مع الشيطان، ولم يعد يقبل التنازل عن سعادته، أو أن يبيع روحه لأحد.