27 أكتوبر 2024
باكستان... وحدة بقوة السلاح
تصل الطائرة إلى مطار لاهور، عاصمة البنجاب الباكستاني، ومن نافذتها الصغيرة، تتوضّح أول مظاهر "التنظيم"، من خلال اصطفاف العاملين الأرضيين بشكل طابور عسكري، لا يتحرك أفراده إلا بإيعاز من "الآمر" الذي بدت عليه أمارات الزعامة البروليتارية. الاصطفاف هو السمة المميّزة لجميع العاملين والأمنيين والعسكريين المنتشرين في مطار المدينة التي تشهد أعمالا إرهابية، تتبناها غالباً "طالبان باكستان"، شقيقة حركة طالبان أفغانستان، والصنيعة السابقة للأجهزة الأمنية الباكستانية في إطار التعاون "الدولي" الذي قادته أميركا في ثمانينيات القرن المنصرم لمحاربة السوفييت في كابول. تعاونٌ انقلب عاجلاً أو آجلاً على مجمل الضالعين فيه.
وفي ظل هذا التنظيم الظاهر للعاملين، يبدو، في المقابل، مشهدٌ سوريالي من الزحام والفوضى في صالات المطار، حيث ينتشر عشرات من "مُيسّري" المعاملات ومرافقي عشرات من المسافرين المقتدرين، والذين يتجاوزون مئاتٍ آخرين من "العاديين" ينتظرون، بتسليم من الله وقدره، أن يمرّوا وهم من أصحاب الفقر المستشري، ليصلوا إلى منازلهم إن هم قادمون أو إلى الطائرة التي ستحملهم إلى ميادين سُخرَتِهِم واستعبادهم الحداثي إن هم مغادرون.
جمال المدينة وعراقة أوابدها لا يمكن أن يُخفيا حجم الفقر والفشل الواضح للدولة التي استقلت سنة 1947 في أن تكون "نمراً" آسيوياً. مواجهة الجارة اللدود الهند تظهر جلية حتى للقادم في المطار، فوجود تأشيرة هندية على جواز السفر تضع الشرطيّ في موقف عصبي، يكاد يشبه موقف شرطي عربي أمام جواز سفر يحمل تأشيرة إسرائيلية. ويبدو للعربي أو لقاطن الدول العربية في أن باكستان، كما دول "الممانعة والمقاومة"، تتلطى بالعداء التقليدي للهند، لتجاوز كل الانتقادات والمحاسبات التي يمكن أن تتعرّض لها، والتي غالباً ما تستحقها في سوء الإدارة الاقتصادية، وفي الهيمنة العسكرية على المفاصل الحياتية، وفي تفاقم الفساد بطريقةٍ
المظاهر الديمقراطية في باكستان، من انتخابات حرة وأحزاب وصحافة حرة نسبياً، تكاد تدفع بعضهم في الغرب إلى الوقوع في فخ التصديق، فهذا الغرب الذي حابى ويحابي نظماً عربية مستبدة أو تيوقراطية أو فاسدة، ليس صعباً عليه، بل على العكس، أن يظن، ويُثابر في الظن، أن باكستان دولة ديمقراطية، تكاد تكون نموذجية في منطقةٍ صعبة من آسيا. وفي حقيقة ما يمكن أن يلحظه المراقب المُتنبّه، يبدو أن هذه الديمقراطية الفتية، بعد ما عانته من انقلابات عسكرية وحكومات عسكرية متعاقبة، غير قادرة على تجاوز سلطة العسكر المباشرة، وغير المباشرة. ويعتقد كثيرون من متابعي الملف الباكستاني أن النموذج الباكستاني العسكرتاري من وراء الستارة قد ألهم بعضاً من الدول العربية التي كان ولم يزل للجيش فيها الكلمة الفصل، مصر مثلاً.
الجيش الباكستاني الذي خسر حروبه أمام الهند في ستينيات القرن الماضي، ودعم المجاهدين الأفغان، نواة "طالبان" و"القاعدة"، يُسيطر اليوم في باكستان على إدارة شؤون البلاد، فهو يحدد السياسة الخارجية مع وجود وزير شكلي. كما يسيطر على الاقتصاد ومؤسسات الإعمار كما الاتصالات والإعلام والطاقة. والأهم، يُدير الجيش الذي طالما أبرز علمانية مصطنعة العلاقة مع الملالي والقيادات الدينية الأكثر تشدّداً مستخدماً إياها في التجييش والتبرير والتحفيز على الهند، العدو المفيد دائماً، كما هي إسرائيل بالنسبة لبعض العرب، فلا هو قادر أو ساعٍ لمواجهتها، وهو الأكثر استفادةً من "تهديدها" ليسيطر ويستمر في السيطرة على حيوات "المواطنين".
من جهة أخرى، تتمتع البلاد بحرية إعلامية نسبية، على الرغم من أن الوجود الواضح والتأثير النافذ للجيش في مسارات وسائل الإعلام، فمن الإيعازات بالتعتيم على الأعمال الإرهابية وتفسير بعضها وكأنه ناجم عن انفجارات غازية، إلى وجود ممثل دائم للجيش والمخابرات في برامج الحوار المتلفزة، ولو متنكراً بعباءة صحافي، أو باحث، تكاد تكون لازمةً يتندر بها الباكستانيون، وخصوصاً الإعلاميين منهم.
كما أن الممارسة الثقافية والتعبير السياسي متاحان بصورة ملفتة، طالما لا تتعرّضان للقوات المسلحة، فمهرجان لاهور الأدبي، الذي شاركت فيه منذ أيام، يُترجم غنىً ثقافياً مجتمعياً لافتاً، ولو أنه يمكن أن يُعتبر نخبوياً، إلا أن ندواته جمعت الآلاف، وقد قدّم لهم مزيجاً غنياً من الثقافات المحلية، كما الانكلوساكسونية. كما عرضت أهم الأعمال الأدبية بلغة شكسبير بالاستفادة من النشر الرخيص والنظامي غير المقرصن لدى الجارة الهند، على الرغم من أن الاستيراد يتم عبر بلدٍ ثالث.
في اليوم الأخير من المهرجان، قرّر الضابط المولج بأمننا أنه يجب التوقف عن الكلام، فأوعز للنجم البريطاني الشهير، مايكل بالين، بالتوقف عن محاضرته، وعندما لم يصدٌق بالين الأمر، قطع الضابط الكهرباء عن الميكروفون، كما في أسوأ الديكتاتوريات العالم ثالثية.
قبل سفري بساعات، وعندما أبديت استغرابي للهيمنة العسكرية الممتدة، قال لي محدثي، وهو من رموز المدينة الثقافيين، إن الجيش هو القادر الوحيد على الحفاظ على وحدة البلاد، لأن لا شيء حقيقي يجمع أقاليمها الأربعة لغوياً وإثنياً ومصالحياً، فما كان مني إلا أن أجبته إنه إن كان هذا الكلام دقيقاً، وإن لا وحدة للبلاد إلا بقوة الجيش، فبئس هذه الوحدة.